محاربتها أولوية لإنقاذ أوروبا.. ما قصّة "حركة اليقظة"؟
حركة قادمة من الولايات المتحدة شغلت النخبة الفرنسية التي رأت فيها تهديداً لــ"الحضارة" الأوروبية ودعت لمواجهتها.. ما قصة "حركة اليقظة"؟
حفل العام 2023 في فرنسا بنقاشات حادة ومحمومة حول نزعة فكرية سياسية واردة من الولايات المتحدة، اعتبرتها النخب مهددة للتراث الإنساني والتنويري الذي اضطلعت به عاصمة "الأنوار" باريس، ومضرة بالنظام الجمهوري القائم.
حتى أن وزير التربية الفرنسي السابق جان ميشال بلانكي، دعا الى ورشة تفكير لمواجهة ما وصفها بأيديولوجيا تقف على النقيض مما تمثله بلاده. وهذا المذهب الجديد هو "الووكيسم" (le wokisme)، وباللغة العربية "حركة اليقظة" أو "نزعة اليقظة".
ما هي "اليقظة"؟
كلمة "ووك" في اللغة الإنجليزية (Woke) تعني "استيقظ"، وقد نشأ المصطلح في الولايات المتحدة، والقصد منه في الأصل التنبيه إلى التحيز والتميّيز العنصريين. أما النزعة أو الحركة المنظمة فبدأت في العام 2000 في أميركا، وسرعان ما انتشرت في جميع أنحاء العالم.
وأصبح المفهوم يشمل وعياً أوسع بعدم المساواة الاجتماعية مثل التمييز على أساس الجنس. كما تم استخدامه كاختصار للأفكار اليسارية التي تنطوي على سياسات الهوية والعدالة الاجتماعية، مثل فكرة الامتياز للعرق الأبيض وتعويضات العبودية للأفارقة الأميركيين. وأتى كمصطلح سياسي من أصل أفريقي أميركي ليشير إلى الوعي بالقضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والعدالة العرقية. ومن ثم تحولت عبارة "إبق مستيقظاً"[1] بإزاء قضايا الظلم الإجتماعي إلى نزعة "اليقظة"، بمثابة نزعة فكرية وسياسية واجتماعية.
وقد اكتسب هذا المصطلح شعبية واسعة في أعقاب الحركات الاجتماعية مثل "حياة السود مهمة" اثر مقتل الشاب الأميركي جورج فلويد، من أصول أفريقية في مدينة منيابوليس في مينيسوتا على يد الشرطة في العام 2020، أو تيار "أنا أيضاً" [2] النسوي، حيث يكون الوعي بالظلم المنهجي والتمييز في قلب المعركة.
ويرى البعض بإن أصل هذا التعبير يسبق حركة "حياة السود مهمة". ففي ثلاثينيات القرن العشرين، دعا ليدبيلي، وهو مغني موسيقى البلوز الأميركي، دعا الناس إلى البقاء متيقظين، مستخدماً مصطلح "ابق مستيقظاً" في إحدى أغانيه بمناسبة إلقاء اللوم على المراهقين السود في اغتصاب امرأتين.
بدوره، دعا مارتن لوثر كينغ في العام 1965 الشباب الأميركيين إلى البقاء مستيقظين، وأن يكونوا مواطنين مشاركين، وكان المقصود من تعبير "اليقظة"، في المقام الأول، إدانة الظلم الاجتماعي ضد مواطنيه من أصل أفريقي. وقد تأثرت النزعة بحركات الحقوق المدنية في الستينيات من القرن الفائت، وتعتمد على فلسفة التداخل بين القطاعات، التي ترى إن أشكال التمييز، مثل العنصرية والتمييز الجنسي ورهاب المثلية، مترابطة ويجب محاربتها معاً.
وباتت "اليقظة" اليوم، تعني تسليط الضوء على أوجه عدم المساواة والظلم الموجودة في المجتمع، وخاصة تلك التي تؤثر في الأقليات والفئات المهمشة. ولا يشمل ذلك التثقيف الاجتماعي ومكافحة الصور النمطية والتحيزات فحسب، بل يشمل أيضاً أخذ إجراءات ملموسة لتعزيز الوصول إلى المساواة والعدالة للجميع.
وقد عرفت ثقافة "اليقظة" مزيداً من التوسع عبر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والثقافة الشعبية لنشر أفكارها.
وأدى الفنانون والمشاهير والمؤثرون دوراً أساسياً في تضخيم رسالة "اليقظة" وتشجيع جماهيرهم على المشاركة في الإجراءات الرامية إلى تعزيز المساواة والعدالة.
الأركان الأساسية لــ "حركة اليقظة"
تنهض هذه النزعة (أو الحركة) على أركان وقيم ومبادىء أهمها:
- المساواة: إذ تدعو إلى مجتمع من دون تسلسل هرمي اجتماعي، حيث يتم التعامل مع كل فرد باحترام وإنصاف، بغض النظر عن جنسيته أو أصله العرقي أو جنسه أو معتقداته.
- التداخل بين القطاعات: تعترف بتعقيد الهويات الفردية والجمعية، مع الأخذ في الاعتبار الأشكال المتعددة للتمييز التي يمكن أن يتعرض لها الشخص نفسه. لذا تشجع هذا النهج التداخلي لفهم أنظمة القمع المختلفة ومكافحتها بشكل أفضل.
- الشمولية: اذ تعمل على تعزيز مجتمع منفتح ومتسامح مع جميع الاختلافات، وتقدر التنّوع وتدعم الأصوات المهمشة. وفي شكل عام، تمثل النزعة، وفاقاً للنوايا الحسّنة، وعياً مهماً بأوجه التمييز والظلم الموجودة في المجتمع.
تأثيرات "نزعة اليقظة" في المجتمع
أثرت "نزعة اليقظة" في ميادين واسعة من المجتمع، فأثرت في شكل كبير في البيئة الثقافية، في السينما والأدب والموسيقى والمجالات الفنية الأخرى. ذلك أن الرغبة في تسليط الضوء على الأعمال التي تعكس تنوع الخبرات ووجهات النظر تجعل من الممكن، في زعمها، محاربة التأحيد الثقافي وإسماع الأصوات التي غالباً ما تكون ممثلة تمثيلاً ناقصاً. وهي تلجأ أيضاً إلى إجراءات ملموسة مثل المقاطعة أو الدعم المالي للأعمال الملتزمة، كما يساهم النقد والمناقشات حول التمثيلات الثقافية دوراً مهماً في تلافي دوام الصور النمطية والتمييز.
وشقت النزعة – الحركة طريقها إلى التعليم، مطالبة بتربية شاملة ومتحررة من الاستعمار، وهذا يشمل على وجه الخصوص: إدخال تاريخ أكثر موضوعية وتنوعاً في المناهج المدرسية، وتدريب المعلمين على قضايا التنوع والشمول، وإنشاء أنظمة دعم ملائمة للاستجابة لخصوصيات الطلاب حسب أصلهم الاجتماعي أو العرقي أو الثقافي. والغاية من هذا النهج التعليمي تحسين جودة التدريس بشكل عام، وتعزيز مساهمات الثقافات المختلفة، إلى تعزيز النمو الشخصي للطلاب.
ودعت في المستوى السياسي إلى التزامات ملموسة لمكافحة عدم المساواة وتعزيز الوصول إلى العدالة للجميع، ولا سيما من خلال: تعزيز حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق النساء والأقليات العرقية والفئات المهمشة الأخرى، ومكافحة الفقر والهشاشة، وانتهاج سياسات اجتماعية لصالح الإسكان والتعليم والعمل والصحة للجميع، وأيضاً النضال من أجل ديمقراطية أكثر تشاركية وشفافية.
وخصوصية هذه الحركة هي أنها تهاجم الظلم الخفي الموجود داخل المجتمعات الغربية، المتجلي في أشكال تمييز صغيرة تخلق شعوراً بالعنصرية أو التحيّز الجنسي. قد تكون هذه أفعالاً واعية إلى حد ما، مثل حقيقة أن بعض مسؤولي التوظيف، سيقومون بتوظيف رجل بدلاً من امرأة، مع أن لديها المواصفات المهنية نفسها. وبالتالي، فإن هذه السلوكيات اللاإرادية هي التي تستنكرها "نزعة اليقظة". وتعتبر أشكال التمييز الخفية هذه أكثر دقة وأقل وضوحاً من تلك التي يمارسها الناشط العنصري أو المتحيز جنسياً.
ويشجع المدافعون عنها إعادة النظر في السرديات التاريخية والثقافية الراسخة لتشمل الأصوات المهمشة، وفي هذا السعي لتحقيق المساواة، تؤدي مساحات الحوار والتعليم دوراُ معتبراً. والهدف خلق بيئة يشعر فيها كل فرد، بغض النظر عن أصله أو هويته، بالتقدير وفي كون صوته مسموعاً.
في نقد "حركة اليقظة"
رغم أن مبادئها محملة بالنوايا الطيبة، ولا سيّما فكرة المساواة، فإن ذلك لم يجنب "حركة اليقظة" سهام النقد الحاد والإتهامات، منها: الميل نحو التطرف الأيديولوجي، وتبني مواقف قاطعة (دوغمائية) في بعض الأحيان، تظهر القليل من التسامح بإزاء وجهات النظر الأخرى. ومن ثم الرغبة في فرض رؤية واحدة وأحادية للواقع، الأمر الذي يضر بالنقاش العام ويحد من حرية الفكر.
وكذلك نقد هذه الحركة في لجوئها المفرط إلى اشاعة مناخ من الإشعار بالذنب وأداء دور الضحية، ما يجعل التعاون والبحث عن حلول ملموسة أمراً صعباً، وأخيراً، الاستغلال السياسي للنزعة، من قبل بعض الجماعات المتطرفة التي تستخدمها لتعزيز برامجها الخاصة.
ومن الانتقادات الرئيسية لها كذلك، أنها تعيد المواطنين من جديد إلى هويتهم الشخصية، ومن خلال إبراز هذه الأنواع المختلفة من العنصرية، يعيد الضحايا التركيز على أصولهم أو جنسهم أو حياتهم الجنسية، في حين أن النزعة الجمهورية، تريد من كل مواطن أن يتخلص من خصوصياته وينخرط تحت راية القيم العمومية.
وتُنتقد الحركة كذلك بسبب ميلها إلى تقسيم الناس، واستقطاب النقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي. ويتهم البعض هذه الحركة بممارسة الرقابة وادعاء "الصواب السياسي".
لا يتردد الأستاذ في جامعة باريس الأولى جان فرنسوا براونشتاين في وصف "حركة اليقظة" بأنها أكثر من أيديولوجيا جديدة، إنها في عرفه، عقيدة أشبه بـ"دين"، وذلك لاعتمادها على جملة من المعتقدات، تجسد شكلاً من أشكال الاقتناع الديني، فمن الصعب جداً، برأيه، تقديم بعض التفنيدات العقلانية لمثل هذه التأكيدات التي يروجون لها، مثل "الرجال حوامل"، أو "النساء لديهن أعضاء ذكرية" أو "كل الأشخاص البيض عنصريون"، والتي تعتبر بمثابة حقيقة في نظرهم.
علماً أن أنصار هذه الحركة مقتنعون بأنهم "اكتشفوا حقيقة عليا، لا يمكن للإنسان العادي الوصول إليها"، وتمتلكهم رغبة معلنة للتبشير بالعقيدة الجديدة من خلال "إعادة" تثقيف بقية المجتمع.
هذا، وترتبط "حركة اليقظة"، في عرف الباحث الفرنسي، بالتقليد العظيم المتمثل في "الصحوات الدينية" البروتستانتية، التي أثارت قلق المستعمرات الأميركية، ثم الولايات المتحدة، في القرنين الــ 18 و 19. وما يثير قلقه أنها وسّعت نفوذها إلى حقول كثيرة، ووصلت إلى كليات العلوم البحتة أو الطبيعة، وكذلك انتشرت خارج الحرم الجامعي، مهد ولادتها في نظر براونشتاين.
ويجد هذا "الدين" اليوم روافد مهمة في وسائل الإعلام والإعلان، والصناعات الثقافية والشركات الكبرى، ولا سيما "غوغل" و"مايكروسوفت" و"أمازون" و"فيسبوك" و"آبل".
وقد حاجج البروفسور الفرنسي ضد النظريات الجندرية التي تشكل في الواقع "قلب دين اليقظة"، وهو دين ضد الواقع.
فمعتنقوه يرفضون الفكرة البيولوجية للجنس من خلال الافتراض بأن "الجنس موجود في الوعي الذي يمتلكه المرء لكونه رجلاً أو امرأة أو أي شيء بينهما" فحسب، وستكون هذه التأكيدات أساس النظام العقائدي للحركة، كنوع من "الغموض شبه اللاهوتي".
ويدعي هذا المعتقد محاربة كل شكل من أشكال العنصرية، حيث يراها منتشرة في كل مكان، والتي يرى الغرب أنه تخلص منها منذ الحرب العالمية الثانية. ومن ثم يدين المعتقد وجود "العنصرية النظامية" في المجتمع، ويهاجم الأوالية الرئيسية للقمع العنصري، وهي "الامتياز الخاص بالعرق الأبيض".
ويدعي المعتقد أن جميع الأشخاص البيض إما عنصريون أو متواطئون في التمتع بامتيازات لا يمكنهم التخلي عنها طواعية، والخلاصة أن "جميع الأشخاص البيض عنصريون، وبهذا المعنى، فإن مناهضة العنصرية تمثل بالفعل هجوماً مباشراً ضد عالمية عصر التنوير".
وينتقد براونشتاين "معتقد اليقظة" لأنه يرفض فكرة "الحقيقة الموضوعية"، التي لن تكون في الأساس سوى بناء بسيط يخدم أواليات السلطة القمعية حيث يقول إنه: "بما أن العلوم الحديثة ولدت في الغرب، فإنها تشترك، من وجهة نظر حركة اليقظة، في أنها جزء من تاريخ دموي من العنصرية والاستعمار وتدمير الثقافات الأصلية"، كما أنها، من خلال رفضها "طغيان الموضوعية"، تهدف إلى "إضعاف" و"نزع الذكورة" و"إنهاء الاستعمار" و"إزالة بياض" جميع العلوم الغربية. ولا شك عند براونشتاين أنه يجب محاربة هذا الدين الجديد، لأنه يهدد أسس الأفكار "التنويرية" التي انبثق منها المجتمع الغربي الحديث [3].
ومن أشد المعارضين لحركة اليقطة كذلك، نجد القس الكاثوليكي الأميركي، روبرت بارون، أسقف أبرشية وينونا روتشستر (مينيسوتا)، حيث يراها في تضاد مع تعاليم مذهبه الديني، وهو يعتقد أن الفرد لا يخلق القيمة، وعنده أن القول إن الذات السيّدة تخترع القيمة، كلام خطير للغاية.
وفي نظره لا تعترف التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية بنسبية الحقيقة أو تأجيل المعنى والمعرفة، بل تؤكد موضوعية القيم المعرفية والأخلاقية التي يمكن للعقل المستفسر معرفتها. وتطرح القيم الكاثوليكية، بخلاف "حركة اليقظة"، وجهة نظر تعاونية مفادها أن الطبقات والأفراد والمؤسسات تعيش بشكل متماسك وبطريقة تصحيحية متبادلة، يتعاون الأفراد والطبقات الاجتماعية والمالكون والعمال مع بعضهم بعضاً [4].
وقد أخذ الباحث الفرنسي برنار جرمان على عاتقه فضح هذه الحركة وتفنيد مبادئها، ورأى فيها أيديولوجيا شمولية تشكل خطراً على المجتمعات الأوروبية وتهدف إلى تدميرها، وهي خطر أيضاً على وجود الديمقراطية نفسها واستمرارها، جعلت من العرق أساساً، ورأت في "الرجل الأبيض" وثقافته عدوها اللدود، ويجعل من محاربة هذه الأيديولوجيا أولوية مطلقة كي تستمر "الحضارة الأوروبية" [5].
وفي كافة الأحوال، ثمة اجماع على أن حركة (أو مذهب) اليقظة، حركة معقدة ومتنوعة تستمر آثارها وتداعيات أفكارها في البروز. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت اليها، إلا أنها تمثل وعياً جديداً بأوجه عدم المساواة والظلم الموجودة في المجتمع الغربي، وتسعى لتقديم إطار للتفكير والعمل لمعالجة هذه القضايا.
[1] الأقرب عربياً الى هذا المصطلح ، عبارة "فتح عينيك"، وهو عنوان فيلم مصري، من بطولة مصطفى شعبان وخالد صالح، من انتاج العام 2005. وإخراج عثمان أبو لبن، وتدور أحداثه حول فكرة "المؤامرة".
[2] انتشر الشعار والوسم (الهاشتاغ) صورة كبيرة وواسعة على وسائل التواصل الاجتماعي حول العالم في خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 2017، لإدانة واستنكار الاعتداء والتحرش الجنسي، وذلك على خلفية فضيحة هارفي واينستين الجنسية، التي وجهتها عشرات النساء الى منتج أفلام هوليوود البارز.
[3] Jean-François Braunstein, La religion woke (Paris, Ed. Grasset, 2023).
[4]The Philosophical Roots of Wokeism, BY BISHOP ROBERT BARRON, June 21, 2023. Acton University.
[5] Bernard Germain, Déconstruire la woke idéologie ! - Wokisme et autres calembredaines (Paris, Synthèse éditions, 2022).