ما مدى تأثير الأقلية اليهودية في الصين؟
كتاب "الكايفنج - جيل صيني يهودي جديد" يضيئ على موضوع نادراً ما كُتب عنه حيث يتحدث عن الاقلية اليهودية في الصين ومدى تأثيرها.
لم تكن الأقلّية اليهودية المسمّاة "الكايفنج" ذات تأثير يُذكر في تاريخ الصين، لكن ما إن ظهر وعد بلفور، حتى أصبحت ضمن مدار اهتمام الصهيونية العالمية، وخاصة بعد إعلان قيام "إسرائيل" عام 1948. لقد اعتمدت "إسرائيل" على تلك الجماعات اليهودية القليلة التي توزّعت على مدن صينية عدة مثل كايفنج وشنغهاي وإقليم تايوان وغيرها، لتكون البوابة الخلفية للدخول إلى شرق آسيا الأقصى، ولا سيما الصين التي بدأ حجمها السياسي والاقتصادي والسكاني ينمو يوماً بعد يوم منذ الحرب العالمية الثانية. في الكتاب الصادر عن دار "تشكيل" للنشر والتوزيع لعام 2024 بعنوان" الكايفنج -جيل صيني يهودي جديد" للمؤلفة المصرية دينا عطا الله محمود، تقدّم لنا دراسة تاريخية ترصد فيها وجود اليهود في شرق آسيا، ومن ثمّ تنطلق من هذا التأسيس لتدرس العلاقة الصينية - الإسرائيلية، التي نمت وتبلورت وصولاً إلى افتتاح السفارة الإسرائيلية في بكين عام 1992 وما ترتب من علاقات سياسية واقتصادية وأكاديمية وعسكرية.
تعود جذور وجود هذه المجموعة اليهودية إلى ما قبل القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، حيث نسب أفرادها إلى مدينة كايفنج التي جاؤوا إليها عبر طريق الحرير، سواء من إيران أو الهند ومناطق أخرى. وقد اندمجوا في المجتمع الصيني بشكل كبير، لأنّ العقيدة الكونفشيوسية التي تدين بها الصين لم تكن تعارض التعددية الدينية؛ ما دامت أي مجموعة دينية أخرى تقرّ بالسلطة الدينية والسياسية للإمبراطور الصيني. لم يعان اليهود من أي اضطهاد مباشر من قبل الصينيين، فتغلغلوا في حركة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية؛ وهذا ما نراه في تصميم أول معبد يهودي أنشئ في الصين عام 1163 وكان يُسمّى معبد "الطهر والحقيقة" وهو اسم ذو صبغة كونفشيوسية.
ففي القرن الرابع عشر، استطاع يهود كايفنج أن يدخلوا في مفاصل الإمبراطورية الصينية عبر الامتحان الإمبراطوري لاختيار عناصر موظفي الدولة، حيث تأهل قادة اليهود بسبب مهاراتهم الاقتصادية والتنظيمية إلى أن أصبحوا من موظفي البيروقراطية الحاكمة. وهذه الفئة من الموظفين تملك ميزات كثيرة تتجاوز النجاح الاقتصادي الذي كان اليهود يحصدون نتائجه في الصين، فالعمل في الدولة يعطي السلطة والمكانة الاجتماعية والثروة، لذلك أصبحت هذه الوظائف مطلباً لليهود. لكنّ هذا التطوّر في وضع يهود الكايفنج أدّى من ناحية أخرى إلى ازدياد ذوبانهم في المجتمع الصيني، فالقانون الإمبراطوري ينصّ على أن موظف الدولة الكبير لا يعيّن في منطقته، بل ينقل إلى منطقة أخرى كي لا تنتشر الرشوة والمحسوبية، ما قاد إلى اندثار عادات اليهود الاجتماعية وحتى تحريماتهم بعد تبعثر قادتهم الاقتصاديين في البلاد. وعندما مات آخر حاخام من يهود الكايفنج في القرن التاسع عشر انخرطوا تماماً في المجتمع الصيني، وأصبح الخلط واضحاً بين المبادئ الكونفشيوسية واليهودية، إذ طفق اليهود يطلقون على الخالق اسم "كونفشيوس" وعلى السماء "تأين" وعلى الطريق إلى الإله "طاو" وانخرطوا في عبادة الأسلاف مثل الصينيين، حتى أنّهم أكلوا لحم الخنزير الذي يعدُّ محرّماً في الشريعة اليهودية، ومن ثمّ درست لغتهم العبرية لصالح الصينية، فلم يكن بينهم من يستطيع قراءة المخطوطات التوراتية، حتى أنّها بيعت للرحّالة البروتستانت وعلماء التاريخ الأجانب.
وقد حاولت مجموعة من اليهود الإنكليز عام 1900 الذين كانوا يسكنون شنغهاي عبر تأسيس جماعة "إنقاذ يهود الصين" إعادة إحياء يهودية الكايفنج، لكنّ الوقت كان قد فات، فكلّ ما يعرفونه عن تاريخهم أنّهم كانوا يهوداً يوماً ما.
لم يكن يهود الكايفنج الوحيدين في منطقة شرق آسيا والصين، بل بدأ ظهور جاليات يهودية إنكليزية منذ حرب الأفيون في القرن التاسع عشر، وما رتّبت على الصين من معاهدات لصالح الإنكليز. وتتالت الهجرات، فجاء عدد من اليهود الروس بعد ثورة 1917 ومن أوروبا، وخاصة إبّان الفترة النازية. غادر معظم هؤلاء اليهود الصين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس جمهورية الصين الشعبية التي سارعت "إسرائيل" إلى الاعتراف بها.
على الرغم من الاستقبال الجيد الذي حظي به اليهود في الصين، بيد أنّهم سريعاً ما وجدوا في احتلال اليابان 1931 لشمال الصين الفرصة السانحة لتقوية حضورهم في مدينة هاربين في منطقة منشوريا، بل حتى السعي من أجل استقدام يهود آخرين، ليشكلوا بذلك كياناً مستقلاً تحت حماية اليابان عبر تحقيق مصالح اليابان ومصالحهم التجارية والاقتصادية والاجتماعية. وكانت الخطة اليهودية تقضي باستقدام 30 ألف يهودي إلى منطقة منشوريا حيث تتحمّل تكاليف تنفيذها الجماعات الموالية لليهود في الولايات المتحدة الأميركية. لم تنفذ هذه الخطة، بل ظلّت حبراً على ورق بسبب دخول اليابان كحليف لألمانيا. وعلى الرغم من تلك التصرفات من جانب اليهود، فإن الصين كانت إحدى الدول التي استقبلت الكثير من اللاجئين اليهود الهاربين من بطش النازية. لقد كانت تسمية الخطة بـ"قنفذ البحر" لأنّ اليابانيين كانوا يرون في اليهود شبهاً لقنفذ البحر، فلحمه طيب بعد التخلّص من سمومه.
قلنا سابقاً، إنّ إعلان جمهورية الصين الشعبية مهّد الطريق لمغادرة أكثر اليهود الموجودين في الصين، لكنّ "إسرائيل" التي كانت تريد علاقات مع أكثر من قوة في العالم، سارعت إلى الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية. وقد رحّبت الصين بذلك، لكن هذه المبادرة توقفت بسبب ضغوط الولايات المتحدة الأميركية. لم تتوقّف "إسرائيل" عن محاولات إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، بيد أنّ موقف "إسرائيل" الداعم للولايات المتحدة في حرب فيتنام أدّى إلى إخفاق محاولاتها. كذلك ساندت "إسرائيل" الهند عبر مدّها بالأسلحة في الحرب التي قامت بينها وبين الصين. أثناء ذلك، كانت الصين تعزّز علاقاتها بالدول العربية، وأصبحت داعمة للمقاومة الفلسطينية، لكنّ حاجتها للدخول إلى الأمم المتحدة، ومن ثمّ منظمة التجارة العالمية أعادت ملف العلاقات الدبلوماسية إلى الواجهة، ومن ثمّ كانت حرب الخليج، وما ترتب عليها من ظهور النظام العالمي الجديد الفاتحة لعلاقات ثنائية بين الصين و"إسرائيل"، إذ طمحت من خلالها كلتا الدولتين إلى تحقيق مكاسب عديدة، فالصين كانت تحتاج التقنيات العسكرية الإسرائيلية وأن تكون "إسرائيل" منطقة جاذبة للعمالة الصينية، فقد عوضت العمالة الصينية النقص الحاصل من العمالة الفلسطينية نتيجة الانتفاضة، إذ تجاوز عدد العمال الصينيين 20 ألف عامل. أمّا "إسرائيل" فقد كانت ترى في الصين حليفاً استراتيجياً على الرغم من أنّ العلاقة بها كانت تخضع لإملاءات الولايات المتحدة الأميركية. لم يكن بإمكان "إسرائيل" أن تشقّ طريقها إلى داخل المجتمع الصيني إلّا بإعادة إحياء الوجود اليهودي في الصين، فعملت على إرسال البعثات الدينية والتعليمية والأكاديمية لتفعيل الدراسات اليهودية وجذب الطلاب الصينيين اليهود للدراسة. كان هؤلاء الصينيون اليهود يعودون بأنسابهم إلى الجاليات اليهودية التي عاشت في القرن التاسع عشر حتى منتصف العشرين. هكذا بدأنا نرى يهوداً من عرق الهان الصيني، بعد أن تمت إعادة إحياء مشاعرهم الدينية اليهودية من جديد.
حاولت "إسرائيل" أن تدفع الصين إلى الاعتراف بوجود الديانة والعرق اليهوديين في الصين أسوة بالمسيحية والإسلام، لكنّ الحكومة الصينية رفضت ذلك، فلم يكن حجم الجالية اليهودية كبيراً، فهم لم يتجاوزوا عدّة آلاف وقد ذابوا في المجتمع الصيني. ومع ذلك، تطوّرت العلاقات الصينية - اليهودية، ومنحت "إسرائيل" الصين استثمارات مهمّة في فلسطين المحتلة، كاستجلاب العمالة الصينية لتحل بدلًا من الفلسطينية، حتى أنّها ذهبت إلى التخطيط لمنحها استثمار ميناء حيفا على الرغم من المعارضة الأميركية. وفي الوقت نفسه، سمحت الصين في بداية الألفية الثالثة لـ"إسرائيل" بإقامة معابد يهودية في الصين، وتهويد بعض الصينيين حتى أصبحنا نرى جنوداً صينيين يهوداً في "الجيش" الإسرائيلي، بالإضافة إلى أنّ رئيس وزراء "إسرائيل" إيهود أولمرت الذي يعود بنسبه إلى أحد اليهود الذين سكنوا الصين، قام أثناء زيارته إلى الصين عام 2007 بزيارة جده في إحدى مقابر هاربين.
لم تكن الصين غافلة عن المساعي الإسرائيلية لتكون الشريك الأكبر لها في منطقة الشرق الأوسط، لذلك كانت تمسك العصا من المنتصف، فالصين تستجر الطاقة النفطية من إيران ولها استثماراتها المهمة مع البلاد العربية، فتارة تتطوّر العلاقات الصينية-الإسرائيلية بقوة، وتارة أخرى تعود إلى التباطؤ وفق المعطيات الجيوسياسية في العالم. وفي حرب غزة الأخيرة، قال المندوب الصيني في محكمة العدل الدولية تعليقاً على أحداث غزّة، بأنّه من حقّ الشعوب الدفاع عن نفسها ضد الاحتلال.
تأتي أهمية كتاب" الكايفنج - جيل صيني يهودي جديد" لقلّة الدراسات العربية عن العلاقات الصينية -اليهودية، فهو يعرض لسياسة العصا والجزرة التي تتبعها "إسرائيل" مع الصين، القطب الجديد على مستوى العالم، الذي يقف في مواجهة أميركا؛ وذلك من أجل الحصول على أقصى استفادة من هذا المارد الجديد على الساحة الدولية.