ماري أنطوانيت: "فاشينيستا" القرن الثامن عشر
سعت لاستغلال الموضة من أجل تعزيز جمالها وخيالها الجامح.. كيف أصبحت ماري أنطوانيت "فاشينيستا" القرن الــ 18؟
يزعم مؤرخون أن ماري أنطوانيت (1755-1793)، ملكة فرنسا الشهيرة، كانت سيدة رائعة الجمال ومهووسة بالأزياء، وكانت تُعَدّ رمزاً للأناقة والرقي في عصرها. وعندما قَدِمَت من النمسا إلى البلاط الفرنسي، لتتزوج ولي العهد، كانت مجرد شابة صغيرة طائشة لا يتجاوز عمرها أربعة عشر عاماً.
شعرت ماري انطوانيت بالغربة وعدم الانسجام مع محيطها الجديد وتقاليده المتزمتة، فرمت نفسها في دائرة الترفيه المجنون، بلا تفكير، الأمر الذي أطاح سُمعتَها، وقد يكون كلّفها حياتها لاحقاً.
عاشت ملكة فرنسا الشابة في ترف ورفاهية مُطلقين، وكانت محل إعجاب النساء والرجال في عصرها، والجميع كان يقلِّد ذوقها في الملابس أو في تسريحات الشعر. وتحولت، رويداً رويداً، إلى مؤثرة أساسية في عالم الموضة الفرنسية، أو ما يُسمى في عصرنا الحاضر: "فاشينيستا".
سعت لاستغلال الموضة من أجل تعزيز جمالها، وأصبحت تصاميم الأزياء وموديلات الشعر تشغل حيزاً كبيراً من اهتمامها، وأطلقت العنان لخيالها الجامح للبحث عن كل ما هو غريب ومثير للإعجاب.
عندما تزوجت لويس السادس عشر، وكان لا يزال ولياً للعهد، تم تعيين مصفف شعر خاص بها يدعى لارسينور للعناية بزينتها، لكن لم تكن تسريحاته تروق لماري أنطوانيت، ففضّلت عليه مصففاً آخر، هو ليونارد أوتييه، إلّا أنها لم تكن تريد طرد لارسينور أو جرح مشاعره.
هكذا كان لارسينور يأتي إلى قصر فرساي كل يوم لأداء واجباته، وكانت ماري أنطوانيت تنتظره لينهي عمله. وعندما يخرج كانت تستدعي المصفف ليونارد خلسة لإعادة تصفيف شعرها وفقاً لذوقها الخاص.
أمّا مصفف الشعر ليونارد، فاسمه الحقيقي هو ليونارد أليكسيس أوتييه (1750-1820). وبدأ عام 1769 عمله في باريس. عمل على تصفيف شعر جولي نيبير، إحدى الممثلات المسرحيات المعروفات، واستطاع لفت الأنظار بفضل براعته وأسلوبه المبتكر والجديد.
هكذا دخل بسرعة في خدمة السيدات الأرستقراطيات، بمن في ذلك مدام دو باري، عشيقة الملك لويس الخامس عشر، والماركيزة دي لانجياك وصيفة ماري أنطوانيت. ذاع صيت ليونارد وأصبح مصفف الشعر الأكثر شعبية في البلاط الفرنسي.
في عام 1772، منحت ماري أنطوانيت الإذن لليونارد بدخول الجناح الملكي بسبب إعجابها الكبير بموهبته. هذا الامتياز أضاف كثيراً من المجد إلى ليونارد، فلم يكن يُسمح، في ذاك العصر، لغير النبلاء وأصحاب الجاه والسلطان بزيارة هذه الأمكنة الحميمة والخاصة.
قامت ماري أنطوانيت بثورات صغيرة على قواعد البروتوكول والإتيكيت الصارمة، متيحةً للأشخاص الذين ينالون ثقتها، وإن كانوا من غير أصل نبيل، فرصة دخول جناحها من أجل مساعدتها على اختيار الملابس ووضع الزينة أو تصفيف الشعر.
في عام 1774، تعرَّفت الملكة إلى مصممة وتاجرة أزياء مبدعة، تدعى روز برتين (Rose Bertin)، وعينتها مسؤولةً عن إطلالاتها. كان هذا اللقاء بداية أعوام طويلة من الإسراف والإفراط، وخصوصاً في مجال الشعر، إذ لم تصل تسريحات الشعر إلى هذا المستوى من المبالغة إلّا في عهد ماري انطوانيت. وتعاونت روز برتين مع ليونارد من أجل صنع انقلاب في عالم الموضة عن طريق خلق تسريحة ذات هيكل عالٍ تُدعى الوسادة (Le pouf).
نالت التسريحة الجديدة إعجاب نساء الطبقة الأرستقراطية، وأثارت جنونهنّ، وأردنَ جميعهنّ تقليدها.
بدأ هذا الهوس مع تسريحة "وسادة المشاعر" (Le pouf aux sentiments)، وهي تسريحة مرتفعة جداً، تُعبّر فيها النساء عن عواطفهن من خلال غرز صور أولئك المقربين إلى أفئدتهن بين خصلات الشعر.
كان المصفف ليونارد عبقرياً في مهنته. برز اسمه في التاريخ بسبب هذه التسريحات العملاقة، التي جعلته أهم مصفف شعر في باريس وأوروبا. وصفّف شعر أشهر الشخصيات الفرنسية، وقام أيضاً بإعداد باروكات شعر مُتقنة غريبة الصنع.
في أوائل ثمانينيات القرن الثامن عشر تقاعد لارسينور، مصفف شعر ماري أنطوانيت الرسمي، فدعت الملكة ليونارد ليحلّ مكانه بصورة نهائية. كانت الملكة تعرف أنّ ليونارد غريب الأطوار، مغرور، نرجسي، ومتقلب، لكنها كانت تثق به بسبب موهبته وإبداعه غير المسبوقَين.
استطاعت أفكاره الأصيلة والخلّاقة إغواء الملكة، التي أصبحت مُلهمته وعارضته في الوقت ذاته. تطلبت تسريحات ليونارد وضع سُقالات حقيقية من الأسلاك والاقمشة وشعر الخيل والشاش على رؤوس السيدات، كي تكون بمثابة دعم للإبداعات الغريبة التي تنوعت بين حدائق الزهور، وعلامات الأبراج، وسلال الفاكهة.
كما اخترع ليونارد شعراً مستعاراً سمّاه »الدجاحة الجميلة» (La belle poule)، في إشارة إلى معركة 17 حزيران/يونيو 1778، والتي شكلت أول انتصار لسفينة فرنسية على البحرية الإنكليزية.
وتعبيراً عن الفرحة بالنصر الفرنسي ارتدت ماري أنطوانيت باروكة »الدجاجة الجميلة «وزينتها بمُجسم سفينة صُنعت خصيصاً لهذه المناسبة، وتبعتها الحاشية بأكملها.
كانت فكرة ربط تسريحات الشعر بالأحداث اليومية عبقرية، وأصبحت هذه التسريحات تُستغَلّ من أجل التعبير عن مواقف سياسية، أو مواضيع محددة، يجري الكلام بشأنها في قصر فرساي، أو حتى من أجل نقل رسائل معينة.
في عام 1774، تم مثلاً تصميم تسريحة لمناسبة تلقي الملك وولي عهده لَقاح الجدري، وسُميت (Le pouf à l’inoculation ). وكانت هذه التسريحات تشبه القِلاع المُحصّنة. ولم تتردد ماري أنطوانيت في وضع باروكات يفوق ارتفاعها متراً، ووزنها عدّة كيلوغرامات، وتجرّأ ليونارد على تجربة كل الأفكار الطريفة على رؤوس النساء، وكان هذا العمل يتطلب وقتاً طويلاً ومهارة فنيّة عالية.
كانت باروكة الشعر، من صناعة ليونارد، تُكلّف نحو 50 الفاً من العملة الفرنسية في ذاك الوقت، أي ما يعادل 65 ألف يورو اليوم. لم يتردد المصفف المبدع في اختراع تسريحة بعنوان الحديقة (pouf à la jardinière)، بحيث حوّل رأس السيدة إلى حديقة فعلية وضع فيها الشمندر والجزر والأرضي الشوكي. وأضافت الملكة ماري أنطوانيت أزهار ثمرة البطاطا وأوراقها، وذلك تماشياً مع سياسة الملك لويس السادس عشر، الذي كان يحاول إقناع الفرنسيين بتناول البطاطا. فالفرنسيون، حينها، كانوا يعتقدون أنّ حبة البطاطا هي نوع من السموم، وكانت الكنيسة تحارب زراعتها، وتعدّها نبتة شيطانية لأنها تنمو تحت الأرض.
وعندما لا تتوافر أي أحداث سياسية أو عسكرية يستوحي منها ليونارد مواضيع لتسريحاته الخلّابة، كان المصفف يلجأ إلى الطبيعة والفصول لاستنباط أفكار جديدة. وهكذا، أصبحت رؤوس الفرنسيات تحمل جبالاً مثلّجة، ومجسّمات لعُمال يقطفون العنب، وطاحونة هواء، وغابة للبجع، وراعية تقود قطيعاً من الأغنام، أو براري مليئة بالأزهار.
وبما أنّ الورود كانت تذبل بسرعة، كان المصفف يلجأ إلى وضع أطرافها في أوعية صغيرة من الماء مخبَّأة بعناية داخل إطار هيكل الشعر. ولم يكتفِ ليونارد بكل هذه الديكورات، فكان يضيف إليها قبعات مستوحاة من الموضة الإنكليزية، مزينة بالشرائط الملونة والريش.
كانت هذه التسريحات تُسبّب إرباكاً كبيراً، فالمرأة مضطرة إلى النوم وهي جالسة خوفاً من إفساد موديل الشعر. وعندما تضطر الملكة إلى ركوب العربة، كانت تجلس على ركبتيها، لأنّ التسريحة المرتفعة كانت تصطدم بالسقف. كان ارتفاع التسريحة يتجاوز أحياناً ارتفاع باب قاعات القصر، الأمر الذي دفع المصممين إلى ابتكار نظام من البكرات والرسّورات يسمح بتخفيض التسريحة عند الولوج إلى الغرفة.
اعتقد المؤرخون أنّ هناك مصفف شعر واحداً يُدعى ليونارد، لكن الأبحاث المعمقة بيَّنت أنّ هناك ثلاثة أشقاء استخدموا هذا الاسم، أكبرهم كان ليونارد أليكسيس أوتييه وهو نجم العائلة في مجال تصفيف الشعر، وكان يصفف شعر الملكة في المناسبات الفائقة الأهمية وفي الحفلات. كما أنه أسس أكاديمية لتعليم تصفيف الشعر ومسرحاً للأوبرا في باريس.
أمّا الشقيق الأوسط بيير أوتييه فكان مسؤولاً عن تصفيف شعر إليزابيت، شقيقة الملك لويس السادس عشر، بينما كان الشقيق الأصغر، جان فرانسوا أوتييه (1758-1794)، يصفف شعر الملكة كل يوم. وهذا الأخير نال ثقة الملكة بحكم عمله اليومي داخل القصر، وأدّى دوراً مهماً خلال محاولة العائلة المالكة الفرار من باريس إلى الحدود.
في حزيران/يونيو 1791، أجبر الثوار العائلة المالكة على الانتقال من فرساي، والإقامة الجبرية في قصر التويليري، فشعرت الملكة بالخوف على حياتها وحياة أسرتها، وقررت الهرب في أقرب فرصة، وطلب مساعدة شقيقها ملك النمسا.
قامت ماري أنطوانيت بالاستعداد لعملية الهروب إلى مدينة فارين (Varennes) الواقعة في شمالي فرنسا عند حدود بلجيكا، والتي كانت آنذاك جزءاً من مملكة النمسا، وكلّفت مصفف شعرها جان فرانسوا (ليونارد الصغير) نقل رسالة مهمة إلى الرجل المسؤول عن تنظيم الهروب، وهو الدوق دو شوازيل (Duc de Choiseul).
عندما زار جان فرنسوا الدوق دو شوازيل، أخبره الأخير بأنهما سينطلقان مباشرة إلى الحدود، لكن جان فرنسوا ارتعب وأحس بالقلق الشديد لأنّ الملكة لم تُطلعه على أي تفاصيل إضافية، بل طلبت إليه إطاعة الدوق بصورة تامة. كان المطلوب فعلياً من ليونارد هو الوصول إلى الحدود وملاقاة قائد الحرس الملكي الجنرال الماركيز دو بوييه (Marquis de Bouillé) وجنوده، الذين يدينون بالولاء للملك لويس السادس عشر، وإخبارهم بأن الملك قادم كي يؤمنوا له الحماية. لكن مصفف الشعر لم يكن قادراً على رؤية القافلة الملكية تتبعه لأنه يسبقها بساعات، كما كان يبكي ويرتعد هلعاً. وعندما وصل إلى حرّاس الملك نقل إليهم خوفه، وأخبرهم بأنّ الملك لن يصل إلى الحدود تلك الليلة، فتفرق الحراس الملكيون وتركوا مواقعهم، وكان هذا خطأً قاتلاً، لأن الملك كان يتبع ليونارد فعلاً، وعندما وصل لم يجد أحداً في انتظاره.
فشلت محاولة الفرار، ووقع الملك والملكة في الأَسر بعد أن تعرّف إليهما أحد الثوار، وتم اقتيادهما إلى باريس. وهكذا تسبّب الأخ الصغير بفشل الهروب عن غير قصد، إلى درجة أن نابليون قال إنه لولا ليونارد لتغير وجه التاريخ. ودفع ليونارد الصغير ثمن إقحامه في أحداث كبرى، وتم إعدامه بسبب الدور الذي أدّاه من دون رغبة منه في عملية فرار الملك والملكة.
وتساءل عدد من المؤرخين عن السبب الذي دعا ماري انطوانيت كي تعهد بمهمة بالغة الحساسية إلى مصفف شعر لا يتمتع بالمؤهلات الضرورية لمواجهة مواقف صعبة، علماً بأنها تملك في حاشيتها أتباعاً وفرساناً مخلصين ومستعدين بالتضحية بحياتهم من أجلها، كالكونت السويدي أكسل فون فرسن. وفسّر البعض الموضوع بأنّ ماري أنطوانيت لم تحتمل فكرة أن تهرب إلى مكان لا يوجد فيه مصففها المفضل للاهتمام بزينتها، لكنْ تبقى هذه التفسيرات في إطار التكهنات.
بعد فشل عملية الهروب، ساءت العلاقة بين الثوار الفرنسيين والملك، وتم اتهامه بالخيانة والتآمر مع الخارج. كما اتُّهمت الملكة بتبديد أموال الخزينة الفرنسية وإفقار الشعب، وحُكِم عليهما بالإعدام بالمقصلة.
ماري أنطوانيت كانت ملكة مُسرفة جداً، لكنها دفعت ثمن بروباغاندا إعلامية وشائعات ومكائد حيكت ضدّها خلال أعوام طويلة، وكانت ضحية لأحداث ومواقف تتجاوزها، بالإضافة إلى افتقارها إلى التعليم الجيّد وعدم محاولتها التقرب إلى الشعب. برحيلها، فقدت فرنسا امرأة راقية ورقيقة، أحبّت الموضة والإبداع الفنيّ، وجعلت باريس عاصمة الأناقة، حتى قلّدتها كل أميرات أوروبا. كما فقدت تسريحات الشعر المرتفعة وهجها، وخصوصاً بعد إعدام أغلبية السيدات النبيلات اللواتي اعتمدنها، وأصبحت النساء بعد الثورة يَمِلن إلى اختيار تسريحات مُسطّحة أكثر بساطة وأقل تكلفة.