ميخائيل ليرمنتوف الرسام: سيرة ذاتية بالماء والزيت
عُرِفَ بإبداعه الأدبي، وخاصةً روايته "بطل من هذا الزمان". لكن ماذا تعرفون عن ميخائيل ليرمنتوف الرسام؟ وعن لوحاته التي لا تقلّ قيمةً عن أدبه؟
في الذكرى الثامنة بعد المئتين على ولادته، نتعرّف إلى جانبٍ ظلَّ مجهولاً لدى كثيرين من حياة وإبداع الشاعر الروسي الكبير ميخائيل ليرمنتوف، الذي ترك إلى جانب شعره ونثره الخالدين، لوحاتٍ لا تقلُّ قيمتها الفنية عن معاصريه من الرسامين الروس، جسّد من خلالها مراحل حياته.
وريث بوشكين وشاعر روسيا الثالث
ميخائيل يوريفيتش ليرمنتوف (1814-1841) أديب روسي عظيم، اعتبره مثقفو عصره خليفةَ شاعرِ روسيا الأكبر، ألكسندر سيرغييفيتش بوشكين (1799-1837)، وقال عنه أحد أبرز النقاد آنذاك، فيساريون غريغوريفيتش بِلينسكي (1811-1848): "لقد ظهرت في روسيا موهبة جديدة قوية تتمثل في ليرمنتوف. يبدو لي أنَّ هذا الفتى سيغدو شاعر روسيا الثالث، وأنَّ بوشكين لم يمت من دون أن يترك وريثاً".
إلا أنَّ ليرمنتوف الذي احتلَّ عملياً هذه المرتبة بعد بوشكين وغافرييل رومانوفيتش ديرجافين (1743-1816)، لم يُعمّر بعد بوشكين سوى 4 سنوات، حيث قضى نحبه، كما بوشكين، بطلقٍ ناريٍّ في مبارزة.
لا يعرف الكثير من الناس أنَّ ميخائيل ليرمنتوف كان أيضاً فناناً موهوباً. لم يتلقَّ ليرمونتوف تعليماً فنياً خاصاً. تلقى دروساً في الرسم خلال دراسته القصيرة في جامعة موسكو، وعندما غدا ضابطاً، أخذ دروساً خاصّةً من الفنان بيوتر يفيموفيتش زابولوتسكي (1803-1866)، وهو فنان روسي معروف بلوحاته الواقعية. لحظ النّقّاد أنَّ ليرمنتوف قلّد في لوحاته مدرسة ألكسي غافريلوفيتش فينيتسيانوف (1780-1847)، وهو فنان روسي مشهور، وأحد مؤسسي مدرسة "الرسم اليومي" في روسيا.
لم يتلقَّ ليرمونتوف تعليماً فنياً خاصاً. تلقى دروساً في الرسم خلال دراسته القصيرة في جامعة موسكو، وعندما غدا ضابطاً، أخذ دروساً خاصّةً من الفنان بيوتر يفيموفيتش زابولوتسكي.
أتت أعمال ليرمونتوف الرسام متنوعةً، إذ رسم المناظر الطبيعية، خاصّةً القوقازية منها، التي احتلّت مكاناً مهمّاً في أعماله، ورسم لوحات بورتريه، بالإضافة إلى الرسوم الكاريكاتورية، التي كانت إحدى الأنواع المفضّلة لديه، زيّن بها ألبوماته وألبومات أصدقائه. والبارز أيضاً في أعماله تصويره بالريشة مشاهد من الحياة في المدن، وفي القوقاز، وحياة الفلاحين. كما ترك ليرمنتوف مجموعةَ رسومٍ توضيحيةٍ رافقت الطبعات الأولى من أعماله الشعرية، وهذه الرسوم تشكّل أصغر مجموعاته.
القوقاز: القصيدة واللوحة
احتلَّ القوقاز مكانةً خاصّةً في حياة ليرمنتوف، وأعماله الأدبية والفنية. تسبَّبت قصيدته "موت شاعر"، التي نظمها إثر مصرع بوشكين، في غضب السلطات عليه، فنُفِي إلى القوقاز. شغف الرسام الشاب بالطبيعة المذهلة هناك، وبالجبال الشاهقة وجمالها الهائل. وكرّس، في سنوات النفي الأول والثاني، العديد من القصائد واللوحات لهذه المنطقة من روسيا القيصرية.
يصوّر ليرمنتوف في أول اللوحات التي تحدثت عن هذه البلاد مشهداً من معركة "فاليريك". وقد أهدى هذه اللوحة التي رسمها بالألوان المائية إلى الفنان غريغوري غاغارين، الذي التقاه في سان بطرسبورغ، شتاء 1839-1840، واستمرّت صداقتهما في القوقاز، إلى حيث نفى القيصر ليرمونتوف والتحق غاغارين به بناء على طلبه.
تسبَّبت قصيدته "موت شاعر"، التي نظمها إثر مصرع بوشكين، في غضب السلطات عليه، فنُفِي إلى القوقاز، الذي احتلَّ مكانةً خاصّةً في حياة ليرمنتوف، وأعماله الأدبية والفنية.
وقعت تلك المعركة، التي صوّر ليرمونتوف مشهداً منها، في 11 تموز/ يوليو 1840، أثناء قيامه برحلة إلى الشيشان. وقد شارك ليرمونتوف نفسه بشكلٍ مباشرٍ في هذه المعركة الرهيبة، بالقرب من نهر "فاليريك". واسم النهر من اللغة الجورجية يعني "نهر الموت". تصوّر اللوحة قتالاً مستميتاً بالسلاح الأبيض والأيدي، على خلفيةِ منظرٍ طبيعيٍّ هادئٍ رائعٍ للغاية. هذه اللوحة معبرة وعاطفية، وهي تصوير حيّ لقصيدته "فاليريك"، تعبّر عن الفكرة الرئيسة لدى الشاعر:
"فكرت، إنّه رجل مثير للشفقة
ماذا يريد؟ السماء صافية
تحت السماء مساحة شاسعة
تكفي الجميع
ولكن بلا انقطاع وعبثاً
يحارب وحده. لماذا؟"
سيرة ذاتية بالألوان
تمثّل معظم اللوحات التي رسمها ليرمنتوف مشاهدَ من حياته الشخصية، ممّا عاينه وخبره بنفسه، وهي تشكّل معاً فسيفساء سيرة ذاتية مرسومة بالألوان الزيتية والمائية، وبالفحم وأقلام الرصاص. يصوّر "مشهد من الحياة القوقازية" فارسَيْن يكمنان لمهاجمة مسافرَيْن مسالمَيْن. رُسمت هذه اللوحة في العام 1838. في العام نفسه رسم لوحة "ذكريات القوقاز" بعد عودته من المنفى. تنقل اللوحة مشاعر القلق، فيصور الرسام الحالة المزاجية من خلال تدفق اللونين القرمزي والأرجواني.
نتجت مواضيع اللوحات من حياة ليرمونتوف في القوقاز، وأفكاره عن أهل تلك البلاد، والحروب القوقازية وأسبابها، من إطلاق النار على متسلق الجبال، إلى حرق السهوب، ومشاهد من المعارك سنة 1840، وإطلاق النار في جبال داغستان 1840-1841. وتتميز هذه اللوحات بالدينامية والوضوح في وصف الوجوه وانعكاس المشاعر عليها. ومعظم خلفيات اللوحات عبارةٌ عن مناظر طبيعية للمنطقة. كان ليرمونتوف من أوائل الفنانين الذين بدأوا في رسم القوقاز، جامعاً بين رغبته في إظهار الدقة الوثائقية للمشهد مع الصور الشعرية للطبيعة، عبر غنى الألوان.
تمكّن ليرمونتوف، وهو يرسم البورتريه، من نقل التشابه الخارجي إلى جانب العالم الداخلي. أقدم أعماله الواصلة إلينا في تقنية الرسم الزيتي هي لوحة جد ليرمونتوف الأسطوري "الدوق لارما". كما أصبحت لوحة ليرمونتوف الذاتية، عام 1837، معروفةً على نطاقٍ واسعٍ.
تمثّل معظم اللوحات التي رسمها ليرمنتوف مشاهدَ من حياته الشخصية، ممّا عاينه وخبره بنفسه، وهي تشكّل معاً فسيفساء سيرة ذاتية مرسومة بالألوان الزيتية والمائية، وبالفحم وأقلام الرصاص.
رسم ليرمونتوف نفسه في زيّ فوج "نيجني نوفغورود" على خلفية الجبال، وذلك خلال مدة النفي الأول في القوقاز. يرى الباحثون أنَّ هذه اللوحة، التي يجسّد ليرمنتوف نفسه فيها إثر مصرع بوشكين، تُظهر مشاعره، حيث يظهر بوجه الشاعر الحزين، وتوحي اللوحة بقلقٍ غامضٍ فيه وهو يتطلّع إلى المستقبل. ورسم كذلك لوحة رائعة لفارينكا لوبوخينا، الذي كان يشعر بالود تجاهها، وهي من الأشخاص الذين تركوا بصمةً عميقةً في حياة الشاعر وإبداعه. أتى وجه الفتاة جذاباً للغاية، ذا جمالٍ داخلي، نقياً لطيفاً.
لم يكن إرث ليرمونتوف الفني متاحاً لعامة الناس لمدةٍ طويلةٍ. في عام 1891، في مناسبة الذكرى الـ50 لوفاة الشاعر، ظهرت 11 لوحة له. وبين عامي 1910 و1913، نشرت مجموعة أكاديمية أعمال الشاعر في 5 مجلدات، ظهرت على صفحاتها لوحاتٌ أكثر له، حيث ترافقت اللوحات مع القصائد، ثم تراجعت شهرة ليرمنتوف الرسام إلى الخلف، فاشتُهِر في الحقبتين السوفياتية والروسية الحديثة كشاعرٍ وأديبٍ. يعتبر الباحثون أنَّ ذلك أمرٌ طبيعيٌّ، فعددٌ قليلٌ من الرسامين الأكفاء باتوا محترفين، خاصّةً أنَّ ليرمنتوف الفنان لم يكن مرتبطاً بالتعليم الأكاديمي ولم تكن لديه حاجةٌ لبيع لوحاته. كان يسجّل انطباعاته وحالته الذهنية على الورق، ثم يحوّلها إلى لوحة، كما يحتفظ الشاعر بمسوّدات قصائده. وهكذا قُدِّر لليرمنتوف الرسام أن يبقى مجهولاً.
من الصعب تحديد الاتجاه الذي كان يمكن أن يتطوّر فيه إبداع ليرمنتوف الرسام، لو لم يقضِ نحبه في 15 تموز/ يوليو 1841 برصاصةِ مبارزةٍ. وبالمقارنة مع أعماله الأدبية، فإن تجارب ليرمونتوف في الرسم تتماشى أكثر مع القانون الرومانسي المعتاد. مع ذلك، تظهر في أعماله الأخيرة آثارُ عبقريته المتمردة أكثر فأكثر.
ربّما كان ليرمونتوف هنا على عتبة الدخول في إبداعات رائعة رسماً، لولا تلك الرصاصة التي رسمت له طريقاً أخرى!