لم يكتبوا إلا رواية واحدة: انتهى القول أم انتهت الحياة؟
لأسباب مختلفة، لم يكتب العديد من الروائيين إلا كتاباً واحداً في حياتهم. من أبرز هؤلاء؟ ولماذا لم يكرروا التجربة مرة ثانية؟
يقول الشعراء، الحسّاسون بطبيعتهم نحو الأشياء كلّها، وفي طليعتها الكلمة التي يقرأون ويكتبون، إنَّ الكُتّاب لا يفعلون في حياتهم سوى كتابةِ موضوعٍ واحدٍ فقط، مرَّةً بعد مرةٍّ، بأشكالٍ متعددةٍ لا تعدو أن تكونَ تدريباتٍ للوصول في النهاية إلى الرضا عمّا يريدون قوله، وأشهر من يمثّل هذا الرأي أدونيس، فيما راح بسّام حجّار أبعد من ذلك، إذ حَصَر المفردات التي استخدمها في كتاباته الشعرية والنثرية كلها، وأحصاها بالرسم والعدد، مصرِّحاً بأنَّ ما فعله هو صياغتها بترتيباتٍ مختلفة ضمن الجمل، واستعمال مرادفاتٍ لها وتنويعاتٍ أخرى عليها.
تُعنى هذه الأسطر بالروائيين الذين لم يكرروا القول، واكتفوا في حياتهم بكتابةِ روايةٍ واحدةٍ، أو اكتفوا من الحياة بعد كتابتها، سواء بسبب فشلٍ (في النشر لا في المستوى الفني لما كتبوا، كما تبيّن لاحقاً، حتى إنَّ بعض هذه الروايات تُوِّج بأرفع الجوائز)، أو نجاحٍ ملأهم بالقناعة والتواضع.
سنضيء على تجربةِ ستّةِ روائيين، اثنان منهم عربيان وأربعةٌ أجانب، كما سنتناول بلمحاتٍ قصيرةٍ رواياتهم التي لم يُقرأ اسمهم مكتوباً بعدها إلا على شاهدة القبر، مع استثناءات تتعلق بنشر كتاباتٍ غير منشورة لهم بعد موتهم، لأهدافٍ تجارية، مالية غالباً.
عنايات الزيات: الحياة لا تُحتمل
تبدو الكتابة، عربياً، خياراً انتحارياً، بالمعنيين المجازي والواقعي. الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، صاحب كتاب "نصائح إلى روائي شاب"، يؤكّد ما ذكره في أولى صفحات كتاب نصائحه، من خلال قولٍ معبّرٍ يوضح فيه أنَّ "الكاتب يشعر في أعماقه بأنَّ الكتابة هي أفضل ما حدث، وما يمكن أن يحدث له. لأنَّ الكتابة في نظره هي أفضل طريقةٍ ممكنةٍ للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يُمكن أن يحققها من خلال ما يكتبه". لكن ليس بمستطاع الجميع تحمّل ذلك، وخاصّةً مع تداخل أنواع الهزائم والخيبات، الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تزيد وطأة مصاعبهم الأولى، وتجعل الحياة أكثر ضيقاً، إلى حدِّ أنَّها لا تعود تسعهم.
عانت الكاتبة المصرية عنايات الزيات من عدم الاستقرار في حياتها الخاصة، فهي لم تُكمل دراستها الجامعية، وتركتها مُفَضِّلةً الزواج. لكنَّ زواجها فشل ولم يَدُم إلا فترةً قصيرةً، أنجبت خلالها طفلاً وقع على عاتقها عبء تربيته بمفردها. وأخيراً، رفضت عدة دور نشرٍ نشرَ روايتها "الحب والصمت"، التي بثّت فيها معاناتها ومشاعرها وصعوبات حياتها، كأنَّ أحداً بذلك لم يُرِد الاستماع إليها، فانتحرت في العام 1963، بعد أن تركت رسالةَ اعتذارٍ لابنها على تركها إياه، لأنها لم تعد تستطيع احتمال الاستمرار في الحياة.
عانت الكاتبة المصرية عنايات الزيات من عدم الاستقرار في حياتها الخاصة، فهي لم تُكمل دراستها الجامعية، وتركتها مُفَضِّلةً الزواج. ثم فشل زواجها، فلجأت إلى الكتابة.
في تحليلها لعدم الموافقة على نشر "الحب والصمت"، تقول الكاتبة المصرية إيمان مرسال، التي أصدرت في العام 2019 كتاباً بعنوان "في أثر عنايات الزيات"، تقتفي من خلاله سيرة حياة الكاتبة المنتحرة كما يوضح عنوانه، إن سبب عدم نشر الرواية الوحيدة لعنايات الزيات يعود إلى اختلافها عن النمط السائد في أدب فترة ما بعد ثورة 1952 في مصر، إذ لم يكن شائعاً أن تعرض المرأة تفاصيل حياتها المخيّبة بهذا الشكل أمام القرّاء، في الوقت الذي كان مطلوباً فيه من الأدب أن يبشّر بالحياة الجديدة والسعيدة المنتظَرة.
وجيه غالي: الممزق بين ثقافته وجذوره
أما الكاتب والصحافي وجيه غالي، الذي انتحر بعد الزيات بـ6 سنوات، وبالطريقة ذاتها، وهي تناول حبوبٍ منوِّمة، فتبدو أسباب انتحاره غير واضحة للوهلة الأولى.
حقق غالي نجاحاً في حياته العملية، إذ كتب مقالاتٍ لعددٍ من الجرائد العالمية الكبيرة، مثل "سنداي تايمز" و"ذا غارديان"، مع أنَّه درس الطب في الجامعة، ومن أجل إكمال دراسته الجامعية ترك مصر إلى باريس، لكنّه تخلّى عن دراسته ومارس أعمالاً مختلفة في عدة بلدان أوروبية، قبل أن يبدأ الكتابة للصحافة.
اختار غالي، المولود في الإسكندرية، الانتحار في لندن، في شقة الكاتبة الإنكليزية ديانا آتهيل، التي كانت صديقته ومحررة كتاباته، والتي ذكرت بعد موته أنَّه "أخفى بعنايةٍ التفاصيل المتعلّقة بماضيه، ونادراً ما تحدّث عنها"، حتى إنَّ سنة ميلاده غير مؤكَّدة، والأرجح أنها في السنوات الثلاث الأخيرة من عشرينيات القرن الماضي.
كتب وجيه غالي روايته الوحيدة، "بيرة في نادي البلياردو"، باللغة الإنكليزية، وصدرت عن دار "بنغوين" العريقة في العام 1964، ونُقلت إلى اللغة العربية في ترجمتين.
أخفى وجيه غالي بعنايةٍ التفاصيل المتعلّقة بماضيه، ونادراً ما تحدّث عنها، حتى إنَّ سنة ميلاده غير مؤكَّدة، والأرجح أنها في السنوات الثلاث الأخيرة من عشرينيات القرن الماضي.
تُعتبر هذه الرواية بمنزلةِ سيرةٍ شبه ذاتية، يعيش بطلها أزمةً فكريةً وصراعاً داخلياً بين كونه ذا ثقافةٍ غربيةٍ، وبين محاولاته التواصل مع جذوره وروح شعبه، خاصَّةً أن أحداث الرواية تجري في فترة ما بعد ثورة 1952، التي أنهت الملكية وشهدت بدايات تأسيس الدولة الوطنية، حيث كانت المشاعر الوطنية لدى المصريين في أوجها، فهل كان هذا الصراع الفكري والتمزّق بين المستعمر السابق والوطن الأم وراء قرار غالي بالانتحار؟
جون كينيدي تول: الذي قتله "تحالف الأغبياء"
في العام 1969، سمَّم الكاتب الأميركي جون كينيدي تول نفسه بغاز أول أكسيد الكربون (co)، بعد أن عرض روايته "تحالف الأغبياء" على عدة دور نشر، وقوبل بالرفض في كلِّ مرةٍ.
بعد موته، حملت أمّه مخطوط الرواية، وأكملت دورة ابنها على دور النشر، إلى أن نجحت مساعيها، وصدرت الرواية في العام 1980، ثم فازت في العام 1981 بجائزة "بوليتزر" المرموقة.
تتّبع "تحالف الأغبياء" نمط السخرية السوداء، تلك السخرية التي صبغت حياة كاتبها وموته، وصولاً إلى اعتبار روايته واحدة من الكلاسيكيات الأميركية الحديثة. فبطل الرواية، أغناطيوس رايلي، يشبه في كثير من الجوانب جون؛ فقد درس الأدب وتعمّق فيه، وتعامل مع الواقع بسخريةٍ وقلَّةِ اكتراثٍ بل برفضٍ، مفضِّلاً الانسحاب منه، ولم ينزل إليه إلا مرغماً، كما جمعت أغناطيوس علاقةٌ مميزةٌ بأمّه.
بعد انتحار تول، حملت أمّه مخطوط روايته، وأكملت دورة ابنها على دور النشر، إلى أن نجحت مساعيها، وصدرت الرواية في العام 1980، ثم فازت في العام 1981 بجائزة "بوليتزر" المرموقة.
يهاجم كينيدي تول في روايته النمط الاستهلاكي الذي يطبع الحياة الأميركية، وهو النمط نفسه الذي جعل رواياتٍ أقل شأناً بكثير من روايته تصدر وتبيع عشرات آلاف النسخ، وأعاق بالمقابل "تحالف الأغبياء"، بسبب موضوعها الذي من الطبيعي أن لا ترحّب به دور النشر هذه.
إميلي برونتي: من "مرتفعات وذرينغ" إلى قمة الأدب
إميلي برونتي (1818-1848) هي الأخت الوسطى لأختين أديبتين، هما شارلوت الكبرى وآن الصغرى. عاشت العائلة الفقيرة في مقاطعة يوركشاير البريطانية في ظروفٍ صحيةٍ سيّئةٍ، أدّت إلى موت أفرادها تباعاً بمرض السلّ.
المعلومات المتوافرة عن الحياة القصيرة لإميلي برونتي قليلةٌ جدّاً، صعّبت المهمة على من أرادوا كتابة سيرتها. يعود ذلك بالدرجة الأولى لا إلى أنّها عاشت فقط 30 سنة، بل لطبيعتها المُحِبَّة للعزلة، ولعدم وجود أصدقاء لها. وصلت عزلة إميلي إلى حدِّ أنّها "نادراً ما عبرت عتبة المنزل"، بحسب ما قالت أختها شارلوت، صاحبة رواية "جين أيير".
كتبت إميلي روايةً واحدةً هي "مرتفعات وذرينغ"، نشرتها قبل وفاتها بسنةٍ واحدةٍ باسم مستعارٍ هو إيليس بيل، وسرعان ما صارت من الكلاسيكيات الإنكليزية.
تحكي الرواية قصة الحب الامتلاكيّ المدمّر بين بطليها كاثرين وهيثكليف، وتتميز بقسوة المواقف التي تصل إلى حدّ الرعب، الآتية من قسوة شخصياتها التي طبعتها بها الطبيعة الجغرافية للمكان، فـ"وذرينغ" تعني في لهجة يوركشاير "الجو المتقلّب"، وهي منطقة مزارع ريفية منعزلة، يميل مناخها في معظم الأحيان إلى التجهّم والاكفهرار، وتسودها الرياح الشديدة والعواصف العنيفة.
كتبت إميلي برونتي روايةً واحدةً هي "مرتفعات وذرينغ"، نشرتها قبل وفاتها بسنةٍ واحدةٍ باسم مستعارٍ هو إيليس بيل، وسرعان ما صارت من الكلاسيكيات الإنكليزية.
وقعت هذه القسوة أولاً على هيثكليف، لأنّه من خارج الطبقة الاجتماعية لسكّان "وذرينغ"، ومن خارج المنطقة أساساً، فلم يتوقّف أهل المرتفعات الجلفين عن معاملته بتمييز، ومنعوا كاثرين من الارتباط به، قبل أن يضطر إلى المغادرة ويعود بثروةٍ تمكّنه من الزواج بإحدى فتيات المرتفعات، بعد زواج كاثرين، وينتقم ممّن اضطهدوه من خلال زوجته، إلى أن تدفعها معاملته لها إلى الهرب.
مارغريت ميتشل: نجت من الحرب و"ذهبت مع الريح"
تشبّعت مارغريت ميتشل في صغرها بقصص الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، التي رواها لها عدّة أفراد من عائلتها ممّن خبروا هذه الحرب إثر مشاركتهم فيها.
في العام 1930، أصيبت ميتشل بمرضٍ أجبرها على ملازمة المنزل، فلم تجد نفسها إلا وهي تتعمّق أكثر في أحداث هذه الحرب وأسبابها، من خلال القراءة عنها في الكتب التاريخية، إلى أن وظّفت كل هذه المعارف، جاعلةً منها موضوع روايتها الوحيدة، "ذهب مع الريح"، التي صدرت في العام 1936.
تحكي الرواية عن قصة حبٍّ معقّدة، بدأت قبل بدء الحرب الأهلية الأميركية بفترةٍ بسيطةٍ، بطلتها سكارليت أوهارا المولودة في مزرعة في ولاية جورجيا الجنوبية، وطرفها الآخر آشلي ويلكس، الذي يرفض الزواج بسكارليت رغم حبّه لها، لعدم وجود قواسم مشتركة بينهما، ويختار أخرى تشبهه هي ميلاني، ابنة عم سكارليت، ما يدفع سكارليت إلى الزواج بأول من عبّر عن حبّه لها بعده، وهو ابن عمها تشارلي، شقيق ميلاني.
تقتحم الحرب حياة سكارليت بقوة، فكلٌّ من زوجها تشارلي وحبيبها آشلي يذهب للمشاركة فيها؛ الأول يُقتل والثاني يؤسَر، فيما تعود سكارليت إلى متابعة حياتها بعد انقضاء فترة الحِداد، وتتزوج من رجلٍ آخر، لكنَّ إطلاق سراح آشلي من الأسر وعودته إلى عائلته يعكّران صفو حياتها من جديد، التي بدأت مع الصعوبات التي بدأ زواجها الجديد يعاني منها.
أصيبت ميتشل بمرضٍ أجبرها على ملازمة المنزل، فلم تجد نفسها إلا وهي تتعمّق أكثر في أحداث الحرب الأهلية الأميركية وأسبابها، من خلال القراءة عنها في الكتب التاريخية، إلى أن وظّفت كل هذه المعارف، جاعلةً منها موضوع روايتها الوحيدة.
بعد النجاح الكبير الذي لاقته "ذهب مع الريح"، وتوّج بنيلها جائزة "بوليتزر" في العام التالي لصدورها، انهالت العروض السخية على ميتشل لكتابة جزءٍ ثانٍ من الرواية، لكنّها رفضت ذلك بإصرار، لإحساسها بأنّه سبق أن كتبت كل ما لديها.
تعطّلت ميتشل عن الكتابة مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، فقد قرّرت الذهاب إلى فرنسا للعمل في إيصال المساعدات الغذائية والطبية إلى الأماكن التي تحتاج إليها. لكن ما لم يحصل لها في الحرب، حدث ببساطة بعد عودتها إلى مسقط رأسها أتلانتا، إذ دهستها سيارة بينما كانت تجتاز أحد الشوارع!
هاربر لي: بعد الرواية الأولى، أنا قارئةٌ فقط
فازت رواية "لا تقتل عصفوراً ساخراً"، المنشورة عام 1960، بجائزة بوليتزر في العام التالي، وبقيت الرواية الوحيدة لمؤلفتها هاربر لي حتى وفاتها في العام 2016 عن 89 عاماً.
تكفّلت هذه الرواية بجعل اسم هاربر لي متوهّجاً رغم مرور العقود، نظراً إلى موضوعها الذي يظلّ موضوعاً راهناً في الولايات المتحدة، وهو التمييز العنصري، وإلى السلاسة والبراعة المكتوبة بهما.
تتناول الرواية حياة عائلةٍ بيضاءَ تعيش في ولاية ألاباما الجنوبية، تتألف من رجلٍ أرمل وابنه وابنته الصغيرين، مع خادمتهم السوداء. تعاني هذه العائلة من آثار التمييز العنصري في بلدتهم الصغيرة، لأنَّ ربَّ الأسرة محامٍ يتولى الدفاع عن مشتبهٍ فيه أسود، تتّهمه عائلةٌ بيضاء باغتصاب إحدى بناتها. ورغم ضعف الأدلة التي لا تتعدى مرور الرجل اليومي من أمام كوخ العائلة في طريقه نحو كوخه، فإنَّ شهادة الأسود أضعف من شهادة الأبيض، وهذه حقيقة كان مُسلّماً بها في ذلك الحين، إضافة إلى أنَّها شهادةٌ وحيدةٌ أمام عدَّة شهاداتٍ مضادَّة.
تتناول الرواية الوحيدة لهاربر لي حياة عائلةٍ بيضاءَ تعيش في ولاية ألاباما الجنوبية، تعاني من آثار التمييز العنصري لأنَّ ربَّ الأسرة محامٍ يتولى الدفاع عن مشتبهٍ فيه أسود.
تسرد هاربر لي روايتها من وجهة نظر ابنَي المحامي، وتحديداً ابنته سكاوت، ما يجعل لغة السرد بسيطة، وواضحة، وصريحة، وهي لغةٌ مزعجةٌ للكبار غالباً، لكنّها في الوقت نفسه تمكّن من يستخدمها من إيجاد الأجوبة بأقصر الطرق، بعيداً عن التعقيد، وهذه هي نقطة قوّتها التي ضمنت لها شعبيتها واستمرارها، إضافة إلى راهنيّة موضوعها الدائمة، إذ لا تمرّ سنةٌ لا تنتشر فيها مقاطع فيديو توثّق ممارسات رجال الشرطة البيض تجاه رجالٍ سود، والتي تصل أحياناً إلى درجة القتل.