لماذا نحن تعساء؟ فلاسفة يجيبون
هل سعادتنا مرتبطة حقاً بالمال أو السلطة أو الرفاهية؟ كيف يكون إنسان مريضاً وسعيداً في الوقت عينه. عن السعادة وسرّها تجيبنا الفلسفة، وهذا ما تقوله.
لطالما بحث الإنسان عن السعادة وآليات الوصول إليها، وكان للفلاسفة، على اختلاف مذاهبهم، رأي مهم في هذا الموضوع. من خلال البحث في آراء الأبيقوريين والأفلاطونيين والرواقيين والشكوكيين، والمتعلقة بالسعادة وسبل تحقيقها، ثمة تنوع جميل. فمثلاً يعتقد الأبيقوريون أن الخوف اللاعقلاني هو من أهم العقبات في طريق السعادة، وللوصول إليها يقترحون الحب الأسمى للآلهة والبشر، وصولاً إلى ما سموه "اللذة الإلهية"، بينما يرى الرواقيون أن مفتاح السعادة يتلخص في مساعدة الإنسان على الحياة، وأن يكون على وفاق تام مع الطبيعة، بمعنى أن سبيل السعادة هو "تأمل الكائن الأسمى".
أما الشكوكيون فيرون أن السعادة تكمن في التوقف عن إصدار أحكام بشأن مختلف القضايا، وذلك لتجنب القلق بشأنها، وصولاً إلى الأفلاطونيبن الذين يحددون طريق السعادة بتعزيز الفضيلة الأخلاقية لدى البشر.
في هذا التحقيق نسعى لتفنيد تلك الآراء والتوصل إلى ميكانيزمات التفكير المؤدية إلى السعادة لدى كل من رواد هذه المدارس الفلسفية الأربع، ونحاول معرفة اعتراضات كل منها على الأخرى.
لِمَ الخوف؟
اعتقد الأبيقوريون أنه للوصول إلى الهناء والسكينة لا بد من القضاء على كل المعتقدات الخاطئة، مؤكدين أن الخوف اللاعقلاني، والتوتر من أشياء لا نعلمها، هما من أهم العقبات في طريق السعادة.
وبحسب ما يقول المؤرخ البريطاني، أنثوني غوتليب، في كتابه "حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة"، وتحديداً في الفصل الــ 13 بعنوان "الطُّرق الـ3 إلى السَّكِينة: الأبيقورية والرواقية والشكوكية"، فإن "ذلك يجعلنا مثقلين بفكرة القَدَر وفكرة الموت بسبب عدم إدراكنا لمعنى الحياة، ومثل هذه الأفكار والهموم هي التي تطيح بسعادتنا، وتأتي الفلسفة بوصفها نوعاً من المعرفة العلمية، خير مجيب على مثل هذه المخاوف التي تثيرها الظواهر السماوية والموت والقلق".
ويضيف: "كان أبيقور يهتم بمقاومة الأفكار والمعتقدات الخاطئة بدلاً من الدخول في تنافس مع أرباب السياسة، حيث كان ممارساً للفلسفة التي يقول عنها إنها نشاط يقود من خلال الحوارات والمناقشات إلى تحقيق السعادة، والخطوة الأولى على طريق السعادة تتمثَّل في توفير الاحتياجات الأساسية كالتحرر من الجوع مثلاً"، مؤكداً أن "معظم المشكلات التي تواجهنا لا تنبع من أحوالنا الفعلية أو الواقعية، وإنما من معتقداتنا الخاطئة عنها، فكما يقول: إن المعدة ليست في حالة من النهم، وإنما تكمن المشكلة في اعتقادنا الخاطئ أنها تحتاج إلى الامتلاء دائماً. كما يرى أننا لا نكافح فقط من أجل الحصول على أمور وأشياء لا نحتاجها ولا نرغب فيها، وإنما نحن نخاف دائماً من أشياء ليست موجودة، ونقلق من أمور لن تحدث".
وفي هذا السياق يزعم أبيقور أن هناك اعتقادين نفرضهما على أنفسنا، وهما السببان الرئيسان في جعل حياتنا بائسة أو مليئة بالألم: الأول هو الاعتقاد أن الآلهة ستعاقبنا على أفعالنا السيئة، والثاني هو أن الموت أمر يجب أن نخاف منه.
ويلفت إلى أن الاعتقادين يولّدان الخوف والقلق، على رغم كونهما مبنيَّين على خيالات، ويفسر ذلك بالقول "بينما الآلهة موجودة بالفعل، فإنها، كونها كاملة وأبدية، لا تهتم مباشرة بالشؤون البشرية. وعلى هذا النحو، لا داعي لنا للخوف من أي عقاب منها، ولا نحتاج إلى قضاء الوقت في أعمال شاقة من العبادة التقية. أما عن الموت، فهو يشير إلى أنه بمجرد انتهاء التجربة الحسية لن يكون هناك إحساس بالألم. وعلى هذا فإن الخوف من الموت لا أساس له على الإطلاق. والواقع أنه يبدو غريباً مثل معلم الزن عندما يكتب "الموت لا معنى له بالنسبة للأحياء لأنهم أحياء، ولا معنى له بالنسبة للأموات... لأنهم أموات"".
اللذة الحكيمة
ويشير أبيقور، كما جاء في كتاب "في السعادة.. رحلة فلسفية" لعالم الاجتماع الفرنسي، فريديريك لونوار،، إلى أننا نحتاج إلى الحكمة لنرى أي الملذات هي ممتعة حقاً، وأي الآلام ضرورية لإنتاج المتعة، مبيناً أن بعض الملذات يؤدي إلى ألم أكبر، مثل شرب كميات كبيرة من الكحول، وبالتالي فإن الشخص الحكيم سيتجنبها.
من ناحية أخرى، يمكن أن تؤدي بعض الآلام، كالحزن، إلى تقدير الحياة أو التعاطف، وهي حالات ممتعة للغاية. لذلك، لا ينبغي لنا أن نتخلص من جميع المشاعر السلبية، لكن فقط تلك التي تؤدي إلى آلام غير ضرورية وصولاً إلى الحالة الأسمى وهي "التحرر من القلق والشعور باللذة الإلهية"، وهي اللذة غير المتعلقة بالمتعة الجسدية، وإنما السعي الفلسفي للحكمة مع بعض الأصدقاء المقربين كونه أعظم الملذات.
هذا ما يعززه الباحث فنسنت كوك، في كتابه "أبيقور.. المذاهب الرئيسية"، بقوله إن "هدف الفلسفة الإبيقورية هو الوصول إلى حالة الطمأنينة والتحرر من الخوف، وكذلك الوصول إلى غياب الألم الجسدي (الأبونيا)، وفي سبيل الوصول إلى هذه الغايات، أوصى أبيقور، في رسالته الطويلة إلى شخص يدعى مينيسيه، بنمط حياة زاهدة، صداقة نبيلة، واجتناب السياسة، وهو ما أكد عليه بقوله إن "من بين كل الوسائل التي تكتسبها الحكمة لكي تضمن السعادة طوال الحياة، فإن الصداقة هي أكثرهم أهمية على الإطلاق".
وفاق مع الطبيعة
أما الرواقيون فقالوا إن القضية كلها تتلخص في مساعدة الإنسان على الحياة في وفاق مع الطبيعة، وهنا يكمُن مفتاح السعادة في نظرهم.
إذ من المستحيل أن يحيا الإنسان حياة كهذه من دون أن يفهم حقائق الطبيعة. فعلى سبيل المثال، وكما جاء في كتاب "حلم العقل" السابق ذكره، "يؤمن الرواقيون أن الأمور كلها تخضع للقدَر، وأن التسليم بهذه الحقيقة من شأنه أن يُفضي إلى سلوك الرضا والتسليم. ولذا كان عليهم أن يخوضوا في مسائلَ علمية متنوعة لإثبات أن كل شيء خاضع للقدر".
وفق هذا التصور آثر الرواقيون تعزيز ما سمّوه "الكائن الأسمى"، معتمدين على أن الشخصية الجيدة هي الضمان الوحيد للسعادة الدائمة الخالية من الهموم، وسبيلهم إلى تحقيق ذلك التأكيد أن "الفضيلة كافية لنيل السعادة"، كما قال ماركوس أوريليوس في كتابه "التأملات"، ذلك بأن المرء، الذي يبلغ حسّ الفضيلة، يصبح حكيماً. ووفقاً لوصف إبكتيتوس، الذي جاء ضمن مجلد "الرواقية.. موسوعة ستانفورد للفلسفة"، فإن هذا الحكيم قد يكون "مريضاً لكنه سعيد، واقعاً في خطر لكنه سعيد، منفياً لكنه سعيد، ذليلاً لكنه سعيد". لذلك، أمضى الرواقيون حياتهم للوصول إلى أفضل ما يمكن أن يكون عليه الإنسان، وفي سعي دائم لاكتساب الفضيلة.
السعادة مسؤوليتنا الشخصية
وبحسب الدراسة الموسومة بـ"خمس استراتيجيات رواقية لخلق السعادة"، لبويان جورج، الحاصل على ماجستير في القانون ودكتوره في الفلسفة، "كان الرواقيون يؤمنون بضرورة عيش حياة فاضلة، حياة قادرة على جلب السعادة الشخصية والاكتمال".
وهنا يتساءل بويان: لكن ماذا يعني السعي وراء الفضيلة؟ ليأتي جوابه بسيطاً بـ "إن التصرف على نحو فاضل يعني السعي نحو تحقيق المثل العليا للإنسان والتحول إلى أفضل نسخة من نفسه. وبتحولنا إلى الشخص الذي نريد أن نكون عليه، سنكون سعداء"، مضيفاً أن "الرواقيين يعلموننا أيضاً أن السعادة هي مسؤوليتنا الشخصية. وأول وأهم شيء يمكننا القيام به هو أن نتحمل مسؤولية من نحن وكيف نوجه حياتنا، وعندها فقط يمكننا أن نصبح الأشخاص الذين نريد أن نكونهم، وأن نجد الرضا والسعادة في حياتنا".
بناء على ذلك، يحدد بويان بعض المبادئ الرواقية التي يمكن أن تساعدنا في أن نصبح أشخاصاً أفضل وأكثر سعادة، وأولها أن نتوقف عن القلق بشأن ما لا يمكننا التحكم فيه، مستشهداً بما قاله إبيكتيتوس في كتابه الخطابات "لا يوجد سوى طريق واحد للسعادة وهو التوقف عن القلق بشأن الأشياء التي هي خارج نطاق إرادتنا".
ويضيف: "تعتمد فلسفة الرواقية على فكرة أساسية مفادها أننا لا نستطيع التحكم في العالم من حولنا، ولكننا نستطيع التحكم في كيفية استجابتنا له، ويعلمنا الرواقيون أن ما هو ضروري لحياة طيبة هو ما نتحكم فيه: شخصيتنا. إن قدرتنا على خلق السعادة تأتي من هذا. يجب علينا أولاً أن ندرك أن كل ما نحتاجه حقاً لتحقيق السعادة هو أنفسنا، وهو تأكيد على ما قاله ماركوس أوريليوس في كتابه "التأملات": إن ما تحتاجه لحياة سعيدة قليل جداً؛ فكل شيء في داخلك".
ويقول بويان: "تعلمنا الرواقية أننا مسؤولون شخصياً عن سعادتنا، وأن الأمر متروك لنا لخلق السعادة من خلال أفعالنا، لأن تلك الفلسفة هي نهج عملي للعيش، وهو نهج لا يتجنب حقيقة أن الحياة صعبة، وأن الشدائد هي في طبيعتها. بدلاً من محاربة هذا، أو الهروب منه، أو محاولة تحقيق السعادة كما لو كانت غاية في حد ذاتها حيث تتوقف جميع مشاكلنا عن الوجود، تعلمنا الرواقية قبول الواقع واحتضانه والاستفادة منه قدر الإمكان. تعلمنا أن نتعامل مع السعادة باعتبارها عملية موازية لتحسين الذات والسعي إلى تحقيق ذواتنا العليا. فقط من خلال هذه العملية يمكننا اتخاذ الإجراءات اللازمة لنصبح الأشخاص الذين نريد أن نكون، وفي النهاية، خلق السعادة التي نسعى إليها".
السعادة هي الخير الأسمى
أما أفلاطون فأوجز متطلبات السعادة في كتابه "الجمهورية" بتأكيده أن أولئك الأخلاقيين وحدهم يكونون سعداء بحق. لذلك، على المرء أن يفهم الفضائل الأساسية، وخصوصاً العدالة، مضيفاً أنه من خلال التجربة الذهنية لخاتم غيغز، فإن من يسيء استخدام السلطة يصبح عبداً لشهواته، بينما من يحجم عن فعل ذلك يظل متحكماً في نفسه بصورة عقلانية، ثم يكون سعيداً.
كما يرى الأفلاطونيون، وفق ما كتبه جوشوا أولسن في كتابه "أفلاطون.. السعادة والعدالة"، أن هناك نوعاً من السعادة ينبع من العدالة الاجتماعية الناتجة من قيام المرء بوظيفته الاجتماعية. وبما أن هذا الواجب يشكل السعادة، فإن مصادر السعادة الأخرى، والتي عادة نراها، كالراحة والثراء والمتعة، تُعَدّ أقل أشكال السعادة منزلة، إن لم تكن زائفة بالكامل.
ضمن بحث بعنوان "كيف تكون سعيداً وفقاً لأفلاطون؟"، للباحث في الفلسفة كلير جونسون، جاء أن الأسئلة بشأن الطبيعة البشرية والسعادة كانت جزءاً لا يتجزأ من تعاليم أفلاطون، الذي كان يعتقد أن السعادة والطبيعة والجمال والمجتمع كلها مترابطة، وكل منها يخدم غرضاً في قدرتنا على الازدهار والعيش حياة مُرضية.
ويشير جونسون إلى أن أفلاطون، في كتابه "الجمهورية"، يزعم أنه فقط عندما نفهم الطبيعة البشرية بشكل حقيقي يمكننا أن نجد السعادة الفردية والاستقرار الاجتماعي، ولاسيما أن البشر ليسوا مكتفين ذاتياً، لكنهم في الواقع يستفيدون كثيراً من التفاعل الاجتماعي والصداقات.
ويوضح جونسون: "لكن السعادة، في حد ذاتها، لم تكن تعتمد على الشؤون الخارجية أو المجتمع أو الصداقات. كما أن السعي إلى إيجاد السعادة الفردية يسير بالتوازي مع السعي إلى السيطرة على ذاتنا الداخلية، أي إغراءاتنا ورغباتنا وعواطفنا"، مستشهداً بما قاله أفلاطون، وفحواه أن "الرجل الذي يجعل كل ما يؤدي إلى السعادة يعتمد على نفسه، وليس على الآخرين، هو الذي تبنّى أفضل خطة للعيش بسعادة".
السعادة الأفلاطونية هي التزام المبادئ الحياتية، وممارستها على أكمل وجه، والشخص السعيد هو من تجعله هذه المبادئ أفضل، حتى يغدو فرداً فاعلاً وذا قيمة في المجتمع، انطلاقاً من أنّ السعادة هي أحد أشكال نمو الشخصية، بمعنى أنها تحقق للإنسان شعوراً بالرضا بالإنجازات التي يقوم بها، والتي ليس بالضرورة أن يكسب منها شيئاً. فالسعادة، بحسب أفلاطون، هي الخير الأسمى، الذي يقوم على تنظيم منسجم لكل الأشياء الماثلة في الحياة المعتادة، وهو ما يمكِّن الشخص من القيام بدوره في الحياة.
الطمأنينة والسكينة
أمّا الشكوكيون، فتوقفوا عن إصدار أحكام بشأن مختلف القضايا، من أجل تجنب القلق بشأنها. وفي سبيل ذلك، قالوا إنه يمكن للشخص الواحد أن يتَّخذ طرفي الجدال بشأن مسألة ما، بما فيها السعادة. لذلك، فإنهم يلجأون باستمرار إلى الشك في كل شيء، ويُحجِمون عن التسليم بالإجابات المستقرة والآراء القاطعة، ويتوقفون عن إصدار الأحكام، لأنهم بذلك وجدوا الطمأنينة والسكينة أكثر مما وجدوهما في بحثهم عن الحقيقة.
وبحسب مقدمة كتاب ديفيد هيوم "الفلاسفة الأربعة أو مقالات في السعادة"، والتي كتبها المترجم إسكندر حبش، "ليس لدى الشكوكي رأي محدد بشكل واضح بموضوع السعادة، ويبدو أنه يتبنى جزئياً وجهة النظر الرواقية القائلة بأن أسعد حالة ذهنية هي تلك الفاضلة، من دون أن يعتبر الفضيلة عنصراً كافياً لتحقيق السعادة، لأن الفوضى والارتباك في الشؤون الإنسانية هي بهذا الشكل الذي لا يمكن أن نتوقع فيه بأن تكون السعادة والبؤس في هذه الحياة موزعين بالتساوي وبشكل كامل".