كيف منح بريخت المسرح دوراً جديداً واستثمر الشعر؟
لا يزال أثره في المسرح وفضاءات الكتابة حاضراً. في الذكرى الـ125 لولادته، من هو برتولت بريخت؟
في الذكرى الـ125 لولادة المبدع الألماني العالمي برتولت بريخت (1898- 1956)، لا يزال الأثر الذي حفره في المسرح وفضاءات الكتابة الأدبية والشعرية غائراً.
اقترح بريخت "نظام أَسْلَبَة لنماذج الحياة اليومية التي كانت تمنح المسرح دوراً جديداً"، كما جاء في كتاب "التراجيديات اليونانية على الخشبة الحديثة/ يوتوبيا مسرحية".
أما الفيلسوف والناقد الأدبي والسيميولوجي الفرنسي رولان بارت، فاعتبر أنّهم كانوا عموماً يسمعون تأسّفاً، لأنّ زمانهم لم يكن قد أنتج مسرحَ تاريخه، "إلا أنّ هذا المسرح موجود، إنه مسرح بريخت". وفي كتاب فرِد فِسْشْباخ بعنوان "التطوّر السياسي لبرتولت بريخت من العام 1913 إلى العام 1933" (منشورات جامعة "لِيل") تتبدّى في مسار بريخت كيفية قَطْعه راديكالياً تجاه الماضي، ومباشرته النضال بصراحة وعلانية بواسطة عملٍ فنّي وبأدواته الخاصة، من أجل تحوّلٍ ثوريّ للعالم، إلى جانب الطبقة العاملة والحزب الشيوعي.
من جانبها، أوردت مجلة "لاسيتيه" الفرنسية في العام 1973 أن "الواقعية بالنسبة لبريخت، إذا كانت بالفعل وقتذاك الكلمة الأساسية لرؤيته للعالم، فإنّه حينما كتب "طبول في الليل" لم يكن يريد الاضطلاع بدور "الشاهد على زمانه" فحسب، بل كان يريد أيضاً تفريغ نزاعٍ أدبيّ كان يضعه في مواجهةٍ مع الكتّاب التعبيريين ويقابله بهم".
عُرف بريخت بمسرحه الملحميّ المعاكس للنموذج الأرسطوطالي، علماً بأنّه صاغ نقدَهُ للشكل الدرامي الأرسطوطالي "في ردِّ فعلٍ ضدّ التقمّص والتطهير، ثم اهتمّ بإمكانية المحاكاة والواقعية النقدية. أخيراً، فإنّ الجدلية في المسرح أتاحت اقتراحه طريقة منهجية لتحليل الواقع وتجاوز التعارضات الملحوظة جداً بين الملحميّ والدراميّ، وبين "الشكلانيّة" والواقعية (...) نحو نظرية للمسرح الديالكتيكي (...)"، كما وَرَدَ في كتاب "نحو نظرية للممارسة المسرحية" (Pavis Septentrion, Patrice). وتجدر الإشارة إلى أنّ الأوبرا De quat'sous، عام 1928، أكسبت بريخت مجداً جليّاً.
يذكر التاريخ أنّ بريخت أُكرِه على المنفى، وأمضى سنوات طويلة بعيداً عن وطنه ألمانيا، هرباً من فظائع النازية وأهوالها.
وكانت لبريخت أعمالٌ عديدة، نذكر منها "الأم الشجاعة وأطفالها"، و"دائرة الطباشير القوقازية"، و"حياة غاليليو"، و"الخوف والبؤس في الرايخ الثالث"، و"صعود مدينة ماهاغوني وسقوطها"، و"جان دارك قدّيسة المسالخ".
في المقابل، على المستوى الشعريّ، نقرأ في كتاب دانيال فراي "بريخت شاعر سياسي" أنّ بريخت، الذي يعتبر اللغة بمثابة عَرَبة للعلاقات الإدراكية/المدركة، كان يحترس من الصورة والكلمات، بواسطة إحالة المعاني التي كان يجريها. كان بإمكان قصيدته أن تفضي إلى شكلانية جديدة حيث الاستعارة المتصلّبة. الميزة الأولى للصورة البريختية في منظور القصيدة الواقعية هي طابعها الملموس المحسوس العيني. ويشير الكتاب ذاته إلى أنّ الاستعارة البريختية لا تولد من حاجةٍ إلى التعبير العاطفي، ولا تبحث عن تقنيع الاغتراب الاجتماعي من خلال إنابتها محلّ الوحدة الضائعة للإنسان والطبيعة. بل إنّها، وقبل كلّ شيء، تتأتّى عن لعبة خاصة مَنُوطة بكلّ شِعر. الصورة هي خيال يقترحه العالم على الوعي/الضمير، ما يختاره الشاعر بحرّية علامةً أدبيةً.
وبالعودة إلى مسرح بريخت، تجدر الإشارة إلى أنّ جان فرديل أوردَ في كتاب "ديونيسوس في اليومي" أنّ بريخت كان يعتقد أنّ تقنية الـ"Lehrstücke" رفيعة، وما كان يتوقّعه بريخت من المسرح هو إدراك المُشاهد لاغترابه الخاص، وليس اغتراب الشخصيات. إنّ توقّعاً مماثلاً يرتكز على مشاركة المتلقّي في العرض.
ولإيضاح كُنْه الـ"Lehrstücke"، فأنّها مسرحيات تعليمية ("دِيداكْتيكْ") تُمثّل شكلاً راديكالياً وتجريبياً لمسرحٍ حداثي طوّره بريخت مع معاونيه. علماً بأنّها تتولّد من التقنيّات المسرحية الملحمية البريختية. وكمبدأ أساسي تستكشف إمكانيات التعلّم من خلال اللعبة المسرحية وتأدية أدوار، وبتبنّي سلوكيات وأوضاع... علماً بأنّ هذا المسرح مخصَّصٌ للممارسة، ويكون التعلّم "عن طريق التمثيل وليس المشاهدة (...) مع إمكانية وجود مشاهدين"، كما ورد في منشورات جامعة "كامبردج" عن المسرح (كريستوفر ب. بالم).
إنّ الأهداف الأساسية التي كان يصبو إليها بريخت عبر مسرحه، تتجلّى في الحضّ على صحوة ويقظة على صعيد النظرة النقدية لدى المُشاهد. بنظر بريخت، لا بدّ للمسرح من أن يؤثّر على عقل المُشاهد ويدفعه إلى التفكير. فغايته تنأى عن تهييج مشاعر المشاهدين، وتتمثل في ضرورة إيقاظ وعيهم الطبقي.
لم يتغذَّ المسرح الملحمي من قراءةٍ معمّقة للفلسفة الماركسية فحسب، بل أيضاً من "المراقبة والرصْد المتنبّهَيْن للتجارب الفنية الطليعية"، سواء في ألمانيا أو في خارجها، وفقاً لما ورد في كتاب "مسرح وسينما العشرينيات" (نصوص جمعتْها وقدّمتْها كلودين أميار شوفريل).
لا يزال تأثير بريخت كبيراً على المسرح والمسرحيين في العالم، وقد طال العالم العربي، وصولاً إلى لبنان، حيث أفادنا الكاتب والمخرج والمسرحي يوسف رقّة، في حديثه إلى "الميادين الثقافية"، بأنّه أصدر نصين مسرحيين من المسرح الملحمي، يستندان إلى المنهج البريختي ومنهج التغريب، الأول بعنوان "أحلام يومية"، صدر عن دار "غوايات" في بيروت، والثاني بعنوان "33 صلاة في جوف الحوت".
منذ البدايات، حضت تجربة رقّة مع المسرحي الراحل جلال خوري (الذي كان لأعمال بريخت تأثيرها عليه أيضاً) على التعمّق في مسرح بريخت.
وقد اشترك عام 1970 في فرقة المسرح لـ"اتحاد الشباب الديمقراطي"، التي كان جلال خوري وأنيس سماحة من المشرفين عليها. عمل رقّة أيضاً مع جلال خوري في إعادة لمسرحية "قبضاي"، وكان إلى جانبه الممثّل الراحل المعروف رفيق نجم.
بعدما اكتنزت تجربته عملياً وأكاديمياً من عالم بريخت، قدّم رقّة مسرحية "رجل برجل" لبريخت في اقتباس لبناني، واختار لها عنوان "الشاطر"، وذلك في العام 1999، وقد أدّى دور البطولة فيها الفنان عمر ميقاتي، بالاشتراك مع ناجي شامل وعلي كلش وعلي السمّوري ورانية مروّة.
عُرضت المسرحية في "المعهد الثقافي الألماني" (معهد غوته)، مروراً بـ"مسرح بيروت" عام 2000، وصولاً إلى بلدة العباسية في الجنوب اللبناني عام 2001، ونالت استحساناً نقدياً وتكلّلت بنجاحٍ لافت. وأشار رقّة إلى أنّ بريخت أثّر على المسرح اللبناني كلّه، وأنّ الذين عملوا فيه أجمعين تأثّروا به بطريقةٍ ما.
ختاماً، في الذكرى الـ125 لولادة بريخت نستحضر عبارته المفيدة للفقراء والجياع في الوقت الراهن، وفي كل زمان ومكان: "أيها الجائع تناول كتاباً، فالكتاب سلاح".