كيف صنع التعب حضارتنا؟
مع انتشار تقنيات المراقبة الرقمية على العمال ارتفعت مستويات الضغط النفسي ففي إحصاء جرى عام 2017، كانت كلمة (الضغط النفسي) هي الخيار الأول لـ 78% من العاملين عندما يُطلب منهم وصف علاقتهم بعملهم.
وصف أبقراط (التعب) بأنّه: "أقرب الجيران إلى المرض" ومع ذلك كان يعتبر حالة طبيعية يحتاج الإنسان بعدها إلى الراحة، مثلما يعقب النوم اليقظة. لم يأخذ التعب من فكر القدماء كثيراً، إلّا أنّه في عصرنا أصبح مركزياً ويشمل حياة الإنسان كلّها، من هذا المنحى انطلق المؤرِّخ والأنثربولوجي جورج فيغاريلو مسلّطاً الضوء على التعب، من خلال سبر تاريخي وفلسفي وأنثروبولوجي وسيكولوجي لظاهرة التعب في تاريخ الإنسان في كتابه: "تاريخ التعب: من العصور الوسطى إلى حاضرنا" – الصادر عن دار صفحة سبعة للنشر والترجمة لعام 2023.
إنّ تأمّلاً في مفهومنا اليومي عن الإنهاك الجسدي والنفسي الذي نعيشه، المجسّد بكلمة: التعب، يبيّن لنا؛ نحن من سعينا إلى إدراك فرادة شخصياتنا وذواتنا المستقلّة، كأنّنا سيزيف وقد توقّف يستبصر العقوبة التي لا يستطيع منها فكاكاً، والتي طبّقت عليه من قبل الآلهة بدفع حجر نحو أعلى الجبل، ما فتئ يتملّص من ساعديه ليعاود الدحرجة إلى الأسفل؛ بأنّ التعب أصبح جزءاً من طبيعتنا الإنسانية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، كما كان صفة لسيزيف في الأسطورة.
هذا التعب الذي بات يُعبّر عنه بكلمات عديدة تكشف لنا أنواعه المختلفة التي يعاني منها إنسان العصر الحديث: (الضغط النفسي ـــــ الفتور ـــــ الاحتراق الذهني ـــــ السقم ـــــ العجز ـــــ الاكتئاب ـــــ القلق...). وكأنّ لفظة التعب باللاتينية /fatigatio التي تعتبر أقدم مصطلح لكلمة التعب بالمعنى التقني والطبي والثقافي؛ نمت وتشعّبت لترتبط بصلة حتمية ما بين الصفات والنعوت التي نطلقها على الإنهاك الذي نعيشه حالياً. لقد ولِد مصطلح التعب ونظّر له في القرون الوسطى، حيث تمّ لحظه وتصنيفه وتقييمه ونسبه إلى فئات دون فئات.
يقول فيغاريلو إنّ التعب في قلب الكائن البشري، وهو ضعف حتمي في كينونته يجسّد نهايته الحتمية على غرار المرض والشيخوخة والموت. فالتعب ينبع من عائق داخلي يمثّل النقصان المجبول في طينة الإنسان ومحدودية استطاعته ومن عقبات كأداة خارجية تتبدّى له بالعالم المحيط. فالتعب ليس مرضاً حتى يُنتظر شفاؤه، بل أكثر أشكال القصور التي يعاني منها الإنسان ابتذالاً. وقد عبّر الروائي والقاص غي دو موباسان في القرن التاسع عشر عن تلك الحتمية في جبلة الإنسان: "وفي الأخير أنهكه التعب الشديد؛ فنام".
الإنسان كائن التعب:
ينطلق فيغاريلو في رحلته الشيّقة المتعبة خلف تاريخ التعب وتجلّياته من العصور الوسطى إلى جائحة كورونا، وبذلك يقيم موازنات ومقارنات عن تطوّر مفهومه، فالتعب الذي يرتبط بالعمل والعامل حالياً لم يكن ملحوظاً في القرون الوسطى، فلقد كان الفارس المقاتل والحاج إلى الأماكن المقدّسة هما من يُلحظ تعبهما، فالفارس يمنح الأوسمة والمراتب والإقطاعات على قدر المجهود والتعب الذي تحمّله في الحروب، والحاج ينال الغفران نتيجة لمعاناته من مشاق الطريق ومخاطره في سعيه إلى الأماكن المقدّسة، حتى أنّ المجرم كان ينال المغفرة بعد أن يحكم عليه أن يحج إلى أحد القديسين، فبدلاً من الثياب المخططة للسجناء، كان المجرم يعتمر قبعة ويحمل عصا وينطلق مشياً في سعيه إلى التكفير عبر التعب.
هذه النظرة المخصصة إلى التعب كانت تتعاضد مع رؤية الطب في تلك الأزمنة إلى جذور التعب والناتج عن فقدان السوائل من الجسم، حيث يصبح التعرّق خطراً ونزيف الدم مرعباً، وإن كان من أنف أحدهم بعد مطاردة طيور الحجل، فهو دلالة على نقصان السوائل في الجسم، وإشارة إلى أنّ التعب قد نال من الجسد، مثلما حدث مع الدوق دو بيري. لم يلحظ التاريخ معاناة الفلاحين والعمال والعبيد وركّز على الدوق دو بيري! ممّا يُظهر لنا كم كان مفهوم التعب الذي نعرفه حالياً من العضلي إلى الذهني مغمضاً لارتباطه ببنيات المجتمع الفكرية، فإن لم تشرعنه هذه المنظومات الفكرية وتلحظه فهو سيظل غائباً على الرغم من وجوده الصارخ، فعندما توّج الاتحاد السوفياتي سابقاً العامل (أليكسي ستخانوف) كأحسن عامل، لاستخراجه مئة طن من الفحم في ليلة واحدة من دون أن يتعب؛ كان هذا الفكر يمدح الفكر الشيوعي لا جهد العامل، الذي كان من الممكن عدم رؤية تعبه لو كان في منظومة سياسية أخرى. لقد كان ارتباط التعب بالفكر الديني في العصور الوسطى هو ما جعل الفارس في الحروب الصليبية ممدوحاً لتعبه ومثمّناً له. ولا يفرق عنه الحاج والمجرم في رحلتهما لنيل الغفران. ومن جهة أخرى كان هذا الفكر يهمل التعب في الطبقات الفقيرة ويضيء عليه عند الطبقات الغنيّة وعليّة القوم.
عبر هذه المقارنة نجد أنّ التعب الملحوظ كان نظرة مرتبطة بالديني والمجتمعي إلى جانب الطبي، فلقد نصح أطباء ذلك العصر المتعبين أن يكثروا من شرب الماء والمرطبات لتعويض فقد السوائل، حتى درجت في الأدبيات كلمة: (الانتعاش) دليلاً على الراحة بعد التعب. هكذا نجد الطبيب قسطنطين الأفريقي في القرن الحادي عشر استناداً لنظرية السوائل في الجسم ينصح أحد مرضاه: "عليك تجنّب الأعباء الثقيلة والعزوف عنها لأنّ القلق المفرط يجفّف أجسادنا".
تنوّع فهم التعب مع بداية النهضة الأوروبية وتزايد الفضول الفكري حوله وقسم جندرياً، فالرجال هم من يخضعون للتدقيق فيما يتعلّق بمظهرهم الجسدي لمعرفة مدى ملاءمتهم وتحمّلهم لأنواع معيّنة من العمل كأن يصبحوا جنوداً. وبدأت ملاحظة آثار التعب على العقل بسبب المجهود الفكري، مع أنّ مظاهر التعب الفكري لم تكن قد حدّدت بعد كما في قرننا الحالي، لكن بدأ الحديث عن السأم من عمل ما، ما يمكن اعتباره أول دليل على الاعتراف بالجانب النفسي للتعب. ومع البدء في قياس الوقت والمسافة بشكل أكثر دقة للمسافرين والعمال، بدأت الخلافات تنشأ حول مقدار العمل الذي يُطلب من العمال القيام به أيضاً. على الرغم من استمرار الاعتقاد بأنّ السبب الرئيسي للإرهاق هو عدم توازن السوائل الجسدية، فقد بدأ تطوير تفسيرات أكثر تحديداً وبدأ إيلاء المزيد من الاهتمام للعلامات التحذيرية الدقيقة للإرهاق، حتى مع بقاء طرق العلاج مماثلة لتلك الموجودة في العصور الوسطى. فلم يبدأ الاعتراف بالفقر كجذر للتعب حتى أواخر القرن السابع عشر، وهذا لا يعني أنّ وضع الفقراء كان يتحسّن. كان لا يزال يُعتقد أنّ الفقر مستوطن في المناخ والجغرافيا والعجز ولا دخل للبنى الاجتماعية التي بناها البشر فيه.
التعب وعصر التنوير:
جلب القرن الثامن عشر مزيداً من التركيز على المشاعر بسبب فكر التنوير، وسعياً للتغلّب على التعب بطريقة لا تتعلّق بالدين. وتمّ التعرّف إلى المزيد من مصادر التعب، وبالتالي، أصبح التعب أكثر شخصية. لم يعد الضعف علامة على سقوط البشرية، بل أصبح تجربة إنسانية حقيقية بدأت تدفع الناس إلى الاهتمام بتجاربهم الشخصية، هكذا امتلأت رسائل نابليون لجوزفين بكلمة التعب. بدأ العلماء بفحص الهشاشة الوجودية للإنسان عن كثب، لكن لم يكن هناك حتى الآن أي دليل على أنّ الضائقة النفسية تؤدي دوراً في التعب. ومع ذلك، أصبح مفهوم الإرهاق أكثر شخصية، وبدأ الناس في إيلاء المزيد من الاهتمام لتجاربهم الخاصة إضافة إلى ما يمليه المجتمع، مما مهّد الطريق للوعي بالبعد النفسي للإرهاق. حيث بدأ العلماء في تصنيف التعب على أنّه فقدان النشاط جسدياً كان أو نفسياً.
دفعت دراسة التعب إلى تحليل العمل كأحد مصادر التعب، فلقد كان عصر التنوير يهدف إلى زيادة الكفاءة وتنظيمها مع احترام حدود جسم الإنسان. وبدأ العمال في عدد لا يحصى من المجالات في التمرّد ضد الرتابة الآلية الخالية من الروح في وظائفهم، الأمر الذي أدّى إلى تغيير في فهم التعب، عند أرباب العمل. أمّا طبّياً فقد انتقلت العلاجات إلى تقوية ألياف الجسم؛ أصبحت الكهرباء وسيلة شائعة للقيام بذلك، كما كانت التمارين الرياضية التي تعمل على بناء القدرة على التحمّل إحدى الوسائل لدفع التعب.
في القرن التاسع عشر انتقلت الدراسات وتصنيفات التعب، إلى الاعتراف بالحرمان واليأس كمصادر للتعب، ممّا دعا إلى البحث عن ظروف عمل أفضل وساعات عمل أقصر. حيث أصبح الشعور بالتعب بمثابة علامة على مشاركة الفرد في رفاه مجتمعه، إضافة إلى محاولته تحسين مكانته في الحياة. ومع ذلك ظل الجانب الأكبر من التعب ينظر إليه جسدياً، حيث تمّ الانتقال طبّياً إلى الرئتين اللتين تعتبران مزوّد الجسد بالطاقة، فأصبح انتقاء العمال والجنود وفقاً للصدر العريض وعظام الترقوة القوية، فهما يعتبران علامات على القدرة على العمل وتحمّل التعب.
التعب والإرهاق العقلي:
تسلّل العنصر النفسي من التعب إلى الفهم العام، وخاصة بعد تطبيق أسلوب الحزام الناقل من قبل فورد في إنتاج السيارة. فقد خفض ساعات العمل من أكثر من 9 ساعات إلى نحو 6 ساعات فقط في ستة أشهر؛ ومع ذلك، ارتفعت شكاوى العمال من أنّهم فقدوا القدرة على التفكير بأنفسهم. احتلت الصحة النفسية مساحة كبيرة في الثقافة مطلع القرن العشرين، لكنّها لم تصل إلى عالم العمل.
ومع ذلك، فإنّ التركيز المتزايد على التجربة الفردية أفسح المجال لفهم منحيّين للتعب: الجانب الجسدي والجانب العقلي؛ وذلك أدّى إلى الاهتمام بالمشاعر عند النظر في التعب. بدأ الفكر في تضمين المفاهيم العقلية/ العاطفية للإرهاق، وأصبحت فكرة أنّ الإرهاق يمكن أن يحدث بسبب الكثير من التطوّر، فمع تزايد الهوس بالسرعة في نهاية القرن التاسع عشر أصبح القلق بشأن الحمل الزائد للأخبار، مدار شكوى من الصحافيين، فلم يعد بإمكانهم الراحة ولكن عليهم أن يكونوا مستعدين في أي لحظة. حتى الرئيس الأميركي روزفلت اعترف بعبء الاضطرار إلى البقاء متيقظاً دوماً في كتابه: "الحياة الشاقة".
لم يوفّر التعب حتى التعليم، لدرجة أنّ أحد المعلّقين الاجتماعيين اشتكى من أنّ الأطفال لديهم يوم عمل أطول من البالغين، وكان يعتقد أنّ الإفراط في العمل يتلف الجسد، والزيادة في التعليم ستؤدي إلى إتلاف دماغ الطفل. ونتيجة لذلك أخذت تأثيرات الصحة البدنية والعقلية تجد لها موضع قدم في مكان العمل والتعليم، لكن أرباب العمل أصرّوا على أنّ الإرهاق يتراجع بشكل مطرد حتى عندما أنكر العمال ذلك، وهو ما يدعوه فيغاريلو بالتناقض المركزي للمجتمع الحديث.
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر مولد المواد المصنّعة كعلاجات للتعب. ولقد تمّ اكتشاف الكوكايين في عام 1855، ووصفه الأطباء على نطاق واسع بعد عام 1880. واعتقد الكثيرون أنّ احتساء كوكتيل من الكوكايين والنبيذ مع كلّ وجبة من شأنه أن يعيد أنماط النوم الصحية، ويزيد الإنتاجية، ويقضي بشكل شبه كامل على مشاعر الإرهاق والعجز المؤلمة الناجمة عن الوهن العصبي. وفي إطار السعي لاستعادة الحيوية، بدأ أيضاً استخدام مركّبات أخرى، مثل مسحوق الأفيون وأنواع مختلفة من المخدرات، على نطاق واسع كعلاج للتعب العقلي والجسدي. وكان العلاج الرئيسي هو اقتراح إمكانية التغلّب على التعب بقوة الإرادة.
ظهرت في القرن العشرين رؤية أخرى للتعب إضافة إلى ما سبق، إذ أصبح يُنظر إلى التعب على أنه ينشأ من العقبات التي تحول دون تحقيق الذات وكل مصدر عام للاستنزاف الجسدي والعقلي. أنتجت الحرب العالمية الأولى مستويات غير مسبوقة من التعب في العالم وجعلته مشكلة ملحّة، وكانت المرة الأولى التي أعطى فيها الباحثون وزناً متساوياً بين ما تمّ الشعور به وما لُوحظ. ومنذ ذلك الحين، حصل التعب على مكانه في عالم علم النفس.
خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين، اكتشف الباحثون أنّ العمال شعروا بالهزيمة والاكتئاب بسبب الكساد. وضاعف تلك المشاعر التقدّم التكنولوجي، مما أدى إلى خلق المزيد من أنواع التعب بدلاً من الراحة للعمال. وقد نبّه علم النفس المهني، بأنّ الحلول النفسية هي العلاجات الأكثر جدوى، فعندما درس الباحثون آثار الحرب العالمية الأولى، رأوا أنّ سبب الإرهاق هو أسلوب الحياة الحديث وليس المجهود البدني. فأصبحت العلاقة بين الجسدي والعقلي متبادلة، مما دفع الرياضيين والمفكّرين إلى العسكريين (بما في ذلك قوى المحور والحلفاء)، إلى استخدام الأمفيتايين وغيره من المركّبات الكيميائية لمقاومة التعب.
حقّق المجتمع بعد الحرب العالمية الثانية تطورات للتخفيف من تعب العمال، كخطط التقاعد والإصلاحات الشاملة لأماكن العمل، والتي ركّزت بشكل أكبر على الصحة البدنية والعقلية للعمال أكثر من التركيز على الإنتاجية. كان الهدف تصميم مكان عمل مريح للعمال وتخفيف المجهود الذي يحتاج العامل إلى القيام به. ومع ذلك تغلغل الإرهاق بشكل عام في المجتمع، والذي أثاره الشعور المتجدّد بالتقدّم المجتمعي نحو المدينة الفاضلة، ولكنه ظهر بشكل مختلف اعتماداً على الوضع الاجتماعي: بالنسبة للبعض، كان ذلك فراغاً لا يمكن ملؤه؛ وبالنسبة للبعض الآخر، كان ذلك بمثابة السعي لتحقيق شيء أفضل؛ فيما كان ذلك لآخرين شعوراً غامراً بالهزيمة.
ظلّ السؤال مطروحاً بقوة في مفهوم التعب؛ لماذا شعر الناس بالفراغ الوجودي مع كل تلك التطورات؛ من تحديد أوقات العمل والإجازات والرعاية الصحية. كانت إحدى الإجابات هي أنّ الناس كانوا يضعون أهدافاً غير قابلة للتحقيق، ولكن الواقع كان يشير إلى أن ظروف العمل، من انتقال مراكز الشركات خارج البلاد، والزيادة في الوظائف المؤقتة غير الدائمة، والعدد الذي لا يحصى من سياسات الشركة والمبادئ التوجيهية التي تفتقر إلى طريقة واضحة للمتابعة كانت كلّها أسبابًا لزيادة التعب. فمع انتشار تقنيات المراقبة الرقمية على العمال ارتفعت مستويات الضغط النفسي. وفي إحصاء جرى عام 2017، كانت كلمة (الضغط النفسي) هي الخيار الأول لـ 78% من العاملين عندما يُطلب منهم وصف علاقتهم بعملهم.
لقد كان التعب في خلفية الصورة عندما كتب فيغاريلو كتابه، لكن مع تقدّمه في الزمن نحو عصرنا الحالي، غدا التعب في واجهة الصورة، ولن يُهزم أبداً، فارضاً وجوده الأبدي على حياتنا. لذلك يجب أن نقرأ تاريخ التعب، للنظر في كيفية تشكيل التعب لقصصنا الفردية وكذلك تاريخنا البشري.