كيف ستؤثّر الحرب في أوكرانيا على هوية الفائز بـ"نوبل للأدب"؟
لا توفر الحملة الغربية على كل ما هو روسي، على خلفية الحرب في أوكرانيا، المجال الثقافي. فهل ستستخدم في ذلك الجائزة الأدبية العالمية الأكبر؟ ولمن ستذهب "نوبل للأدب" هذا العام؟
لا يمكنُ فصلُ السياسةِ عن أيِّ شيءٍ في العالم، لأنّها تتدخّل بكلِّ شيءٍ فيه، خاصَّةً في فترات الاستقطاب الحادّ، كالتي نعيشها منذ 24 شباط/فبراير من العام الجاري، عندما بدأت القوات الروسية عمليتها العسكرية في أوكرانيا.
لا تنطلقُ الأسطر التالية من موقفٍ سياسي، إنّما تسعى إلى إيضاح تأثير السياسة في الميادين الأخرى البعيدة عنها نظرياً، والتي يؤدّي تدخُّلها فيها إلى نتائجَ غيرِ موضوعيةٍ وغيرِ عادلةٍ. سنتناول هنا الإعلان عن اسم الفائز بجائزة "نوبل للأدب"، الذي يُكشف عنه في الخميس الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر من كلِّ عامٍ، مع الإشارة إلى أنَّ التأثير السياسي الأوضح يظهر في "نوبل للسلام".
نستند في افتراضنا وجودَ تدخّل سياسي في تحديد هوية الأديب الفائز إلى مجموعةٍ من الوقائع التاريخية، التي حدثت في الماضيين القريب والبعيد، تُبيّن تأثّر نتائج الجائزة بالظروف السياسية العالمية، التي تواكب مناخاً سياسياً عاماً، بالإضافة إلى الإشارة إلى المناخ العالمي الحالي (أي المناخ الغربي، على اعتبار أنَّ الغرب وإعلامه لطالما حدَّدا هذا المناخ)، المعادي لروسيا، لا كدولةٍ أو نظامِ حُكمٍ فقط، بل حتّى كثقافة، وهو الأمر المستغرَب من دول "متحضِّرة"، تذهب إلى معاداة الحضارة عندما تختلف في السياسة!
قمع الثقافة الروسية: دوستويفسكي وغيرغييف وآخرون
يمكن اعتبار بعض الخطوات المُبكِّرة المُتَّخذة ضد الثقافة الروسية انفعاليةً وغيرَ محسوبةٍ إلى حدِّ الغباء، كقرار إحدى جامعات مدينة ميلانو الإيطالية، مطلع آذار/مارس الماضي، إلغاء مقررها عن أدب الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، قبل أن تتراجع عن ذلك. إلا أنَّ هذه الخطوات اتّخذت مع مرور الأسابيع طابعاً مدروساً، كجزءٍ من الحرب الغربية الشاملة ضد كلِّ ما هو روسي.
تهدف هذه الإجراءات الغربية إلى خلق فارقٍ ثقافي بين بلدين تجمع بينهما الكثير من القواسم المشتركة، تاريخياً وسياسياً وثقافياً ودينياً واجتماعياً، من أجل الوصول إلى خلق تمايزٍ في الشخصية الوطنية لكلٍّ منهما، على اعتبار أنَّ الثقافة هي أهم عوامل تبلور الهوية الوطنية لأيِّ بلدٍ.
على صعيد اللغة مثلاً، هناك تشابهٌ كبيرٌ بين اللغتين الروسية والأوكرانية، فالفارق بين كثير من كلماتهما لا يتعدى فارقاً في طريقة نطق الأحرف. يمكن للروسي أن يفهم جزءاً كبيراً من كلام الأوكراني، والعكس صحيح. حتى أنَّ بعضَ الكُتّاب الأوكرانيين يكتبون باللغة الروسية، أشهرهم على الإطلاق أندريه كوركوف (مولود في سان بطرسبورغ ويعيش في كييف)، الذي يتمّ تقديمه في العالم خلال الأشهر الأخيرة كأبرز الأصوات الأدبية الأوكرانية، وقد ترجمت رواياته إلى أكثر من 35 لغةً (لديه روايتان مترجمتان إلى اللغة العربية)، وستزداد ترجمتها في الفترة القادمة، إذ إنَّها تناولت في السنوات الأخيرة الظروف السياسية لبلده، كما أنَّ روايته الأخيرة، "النحل الرمادي"، التي صدرت السنة الماضية، تتّخذ من المناطق الريفية في إقليم "دونباس" بيئةً مكانيةً لها، وهو يرصد من خلالها انعكاس واقع الانقسام المستجدّ في نفوس السكّان، وتأثير العمليات العسكرية المتبادلة في تلك المناطق على حياتهم.
تهدف الإجراءات الغربية إلى خلق فارقٍ ثقافي بين بلدين تجمع بينهما الكثير من القواسم المشتركة، تاريخياً وسياسياً وثقافياً ودينياً واجتماعياً، من أجل الوصول إلى خلق تمايزٍ في الشخصية الوطنية لكلٍّ منهما، على اعتبار أنَّ الثقافة هي أهم عوامل تبلور الهوية الوطنية لأيِّ بلدٍ.
كما تزامن قرارُ الجامعة الإيطالية مع قرارٍ تعسّفيٍّ آخر، تخلّت بموجبه "أوركسترا ميونخ" الألمانية عن خدمات قائدها، الروسي فاليري غيرغييف، أحد أشهر قادة الأوركسترا في العالم حالياً، لأنّه لم يلبِّ طلبها باتّخاذ موقفٍ معارضٍ لخطوة بلاده تجاه أوكرانيا (هو لم يؤيّد الخطوة كذلك). يُضافُ إلى كُلِّ ما سبق التشكيك في هوية عددٍ من روائيي القرنين الـ19 والـ20 الروس، مثل نيكولاي غوغول وآنا أخماتوفا، وعقوبات غربية استهدفت أب الأدب الروسي، الشاعر ألكسندر بوشكين، كما ألغيت العديد من الحفلات الأوروبية لفنانين ومغنيّ أوبرا وموسيقيين روساً...
وفي مقابل ذلك كان هناك احتضانٌ للثقافة الأوكرانية، التي يتمّ تقديمها إلى العالم والتسويق لفردانيّتها، كما فعل "مهرجان برلين الدولي للأدب" مؤخراً، الذي أطلق "دعوة دولية للاطّلاع على الأدب الأوكراني"، وعرّف القرّاء بـ5 من الروائيين الأوكرانيين، داعياً إلى قراءتهم. في الوقت ذاته، تذكّرت الجوائز الأدبية فجأةً الكُتّاب الأوكرانيين، ومنهم الكاتبة تانيا ماليارتشوك، التي فازت بجائزة "يوزيدوم" للأدب في ألمانيا، عن كتابها "ذكريات الحوت الأزرق"، الذي تعالج فيه "مسألة الهوية والتاريخ الأوكرانيين".
سوابق تسييسية فاقعة: ونستون تشرشل متوَّجاً بـ"نوبل للخطابات"
نادراً ما يخلو الإعلان السنوي عن اسم الفائز بجائزة "نوبل للأدب" من انتقاداتٍ، تمسُّ أحقّية الفائز بالمقارنة مع آخرين من المرشحين الدائمين، أو تطاول مواقفه السياسية وآراءه الشخصية، التي لا يُعبّر عنها بالضرورة في أدبه. آخر هذه الأمثلة الكاتب النمساوي بيتر هاندكه، الفائز بدورة العام 2019، الذي انتُقِد بسبب موقفه الداعم للصرب في الحرب التي شهدتها يوغسلافيا، في تسعينيات القرن الماضي.
كما لفت في الجوائز الأدبية الكبرى خلال العام الماضي أنَّ جميع الفائزين كانوا من ذوي البشرة السمراء، مما يدعم فرضية التوجّه العالمي الموحّد، الحامل لقضيةٍ معيَّنةٍ، كانت في العام الماضي الإضاءة على مسألة الهجرة غير الشرعية والنزوح الذي تسببه الحرب، والدعوة إلى التعاطف مع اللاجئين ومساعدتهم على الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة؛ فتوِّج الكاتب البريطاني تنزاني الأصل، عبد الفتاح غورناه بـ"نوبل للأدب"، وفاز بـ"بوكر الدولية" الفرنسي ديفيد ديوب، وذهبت الجائزة الأدبية الفرنسية الأعرق، "غونكور"، إلى السنغالي محمد مبوغار سار، وحصل على جائزة "بوكر" الأم، المخصصة للرواية المكتوبة باللغة الإنكليزية، الروائي الجنوب أفريقي دايمون غالغت.
لفت في الجوائز الأدبية الكبرى خلال العام الماضي أنَّ جميع الفائزين كانوا من ذوي البشرة السمراء، مما يدعم فرضية التوجّه العالمي الموحّد، الحامل لقضيةٍ معيَّنةٍ، كانت في العام الماضي الإضاءة على مسألة الهجرة غير الشرعية والنزوح الذي تسببه الحرب.
كما أنَّ الروائية البولندية أولغا توكارتشوك فازت بجائزة العام 2018، التي تأجّل إعلانها إلى العام التالي بسبب فضيحة تحرّشٍ واعتداءٍ جنسيَّيْن، قام بهما زوج إحدى أعضاء اللجنة، فكان أن أعطيت الجائزة لامرأة، مع العلم أنَّ واحداً من أبرز المآخذ على هذه الجائزة أنَّ عدد الأديبات الفائزات بها قليلٌ جدّاً.
لكنَّ فوز رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بـ"نوبل للأدب" (نعم، للأدب)، في العام 1953، كان حدثاً أقرب إلى النكتة، ولا حاجة إلى القول إنَّ في الأمر سياسةً، خاصّةً أنَّ الرجل لم يؤلّف كتاباً واحداً في حياته، وقد نال الجائزة "لخطاباته الرائعة في الدفاع عن القيم الإنسانية السامية"، كما جاء في بيان فوزه، الصادر عن اللجنة التي اختارته. تجدر الإشارة إلى أنَّ اسم تشرشل كان مطروحاً للفوز بـ"نوبل للسلام" (وهو للتذكير رئيس وزراء بريطانيا في فترة الحرب العالمية الثانية)، ويبدو أنَّ ما فاز به كان بمثابة جائزة ترضية.
سفيتلانا ألكسييفيتش كردٍّ على ضمّ القرم؟
يبقى الدافع الرئيس إلى افتراضنا تأثيراً لهذه الحرب في الجائزة الأدبية العالمية الأكبر، فوز الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش بها في العام 2015، الذي أتى بعد التدخّل العسكري الروسي، السريع والمحدود، في شِبه جزيرة القرم في العام 2014، وتنظيم استفتاء فيها بعد ذلك، وافق بموجبه سكّان هذه المقاطعة على الانضمام إلى جمهورية روسيا الاتحادية، بعد أن كانت جزءاً من أوكرانيا منذ العام 1954.
يُعرف عن ألكسييفيتش معارضتُها للسياسات الروسية، التي تتردد أصداؤها داخل بلادها، بسبب التحالف القائم بين الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، كما أنّها معارِضة لسياسات الاتحاد السوفييتي، الذي كانت بلادها جزءاً منه، وعبّرت عن معارضتها هذه من خلال مواضيع كُتُبِها قليلة العدد، ذات الصبغة السياسية، التي كرّستها للزلّات والعثرات في مسيرة هذا الاتحاد، كحربه في أفغانستان (فتيان الزنك)، وانفجار المفاعل النووي في تشيرنوبل (صلاة تشيرنوبل)، وصولاً إلى انهيارِه، ونمط الحياة الصعبة والمقنَّنة التي عاشها مواطنوه (زمن مستعمل – نهاية الإنسان الأحمر). بل إن الأمر يذهب عندها أبعد من ذلك، فهي تنتقد كلَّ ما له علاقة به، كالطعام والمنتجات، طريقة الحياة والعمل والتفكير، الهندسة وتصميم البيوت.
يُعرف عن ألكسييفيتش معارضتُها للسياسات الروسية الحالية، كما أنّها معارِضة لسياسات الاتحاد السوفييتي، الذي كانت بلادها جزءاً منه، وعبّرت عن معارضتها هذه من خلال مواضيع كُتُبِها قليلة العدد، ذات الصبغة السياسية، التي كرّستها للزلّات والعثرات في مسيرة هذا الاتحاد.
يمكننا القول إذاً إنَّ ألكسييفيتش لا تكتب أدباً، إذ إنّها تضع الخيال جانباً في كلِّ ما تكتب. ما تنجزه أقرب إلى تحقيقاتٍ صحفية توثيقية مطوّلة، تعتبر أنّها أهم من الأدب، وأكثر منه تعبيراً عن وجدان الناس ومشاعرهم ومصاعب حياتهم. تنقل ألكسييفيتش حالاتٍ مؤثّرةً فعلاً لأناسٍ عايشوا أحداثاً مفجعة، كفقدان أحبّاء، أو تهجيرٍ من الأمكنة، أو تغيُّرٍ جذري أصاب الحياة. لكنَّ قولها إنَّ نمطها الكتابيّ أهمُّ من الأدب، وأكثر منه تعبيراً، فيه إهانةٌ لإرثٍ إنسانيٍّ ضخمٍ من الأدب التخييلي العظيم، الذي يشكّل سجلّاً مُترعاً بالمشاعر البشرية الحية، بل يمكننا اتهامها بناءً عليه بالكسل، لأنّها لم تنطلق من الواقع إلى أفق الخيال، مطوِّرةً المواد الخام التي بين يديها، والتي تجعلنا نشعر بشيءٍ من الضيق والملل ونحن نقرأ تلك الشهادات المطوَّلة، التي تُفرِّغها في كتبها نقلاً عن أحاديث الشهود.
كما أنَّها تسير عكس التيار الذي دعا إليه كاتبٌ مثل غابرييل غارسيا ماركيز منذ أواسط القرن الماضي (ليس كُلٌّ الفائزين بـ"نوبل" في مستوى واحد بالطبع، البعض يبدون وكأنَّ الجائزة هي من فازت بهم)، حيث حثَّ على كتابة التقارير الخَبرية في الصحف بأسلوب القصص، لكسر الجمود الذي يعتري تقديم المعلومات والكشف عن الأحداث، وهو الأسلوب الذي يصلح اليوم بشكلٍّ خاص، نظراً إلى المُزاحمة المرئية التي تتعرض لها الصحف من وسائل التواصل الاجتماعي، والتي دفعت بعددٍ منها إلى الإغلاق.
من سيفوز يوم الخميس؟
قبل أيام قليلة من الإعلان عن اسم الفائز بـ"نوبل للأدب"، وافقت 4 مقاطعات كانت خاضعة للسيادة الأوكرانية على الانضمام إلى روسيا، بموجب استفتاءات شعبية أجريت فيها، وذلك بعد 7 أشهرٍ من حرب كبيرة مستمرة قصمت العالم، الأمر الذي يبدو معه ما جرى في العام 2014 أشبه بضربةِ كفٍّ. فكيف سيكون ردّ الفعل الغربي على جميع الصعد، ومنها الصعيد الثقافي؟
يبدو ما جرى في أوكرانيا في العام 2014 أشبه بضربةِ كفٍّ أمام ما يجري اليوم. فكيف سيكون ردّ الفعل الغربي ضد روسيا على جميع الصعد، ومنها الصعيد الثقافي؟
لا يمكننا معرفة اسم الفائز بجائزة هذا العام قبل حلول يوم الخميس، الـ6 من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، ولن ندخل في الترشيحات والتخمينات، فدائماً ما فاجأتنا الجائزة بأسماء لم تكن في الحسبان، مثل عبد الفتاح غورناه الذي لم يكن من بين الأسماء المتوقعة في العام الماضي، والمغنّي الأميركي بوب ديلان، الفائز بجائزة العام 2016، عن كتابته لكلمات أغانيه، أو السيد ونستون تشرشل نفسه كما أسلفنا.
لكننا نعرف اسماً لن يفوز بهذه الجائزة أبداً؛ لن يفوز بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأنّه تجرّأ على "التجريب" من خلال كتابة فصلٍ جديدٍ في كتاب تاريخ العالم الحديث، يختلف بشكلٍ جذريٍّ عن الرواية التي يُراد لها أن تكونَ سائدةً.