كيف حاكم روجيه غارودي الصهيونية الإسرائيلية؟
كتاب أثار عاصفة من الاحتجاجات التي زادت من الحصار على غارودي باعتباره "فيلسوف المحرقة"، وهو الذي أكد أنه وضع المحرقة (الهولوكوست) في صورتها الحقيقية.
بعض ما قاله للقلة التي كانت تتجرأ على زيارته قبل وفاته عام 1912. "لو تسنى لهم لأرغموني على أن أحفر قبري بأظافري لكي يدفنوني حياً. لكنهم دفنوني فعلاً، وإن بوسائل أشد هولاً". "كنت أتمنى أن أضع كتاباً، ومن خلال تجربتي هذه، حول التقاطع بين البربرية والعبقرية في الثقافة الغربية، لربما أدركت حينذاك لماذا الحكومات الغربية أكثر إسرائيلية من الإسرائيليين". " لو كنت يهودياً، وعبّرت عن آرائي في إسرائيل لما تعرضت لما تعرضت له في فرنسا، ومن دون أن يأخذ أحد بمسيرتي كوني قاتلت ضد النازية، واعتقلت، وكدت أعدم بالرصاص...".
ديزني لاند والفلسفة
لا أحد يمكن أن يتصور ما حدث للفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، وهو فيلسوف الأمل، بسبب كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، إذ حكم عليه بالسجن الموقوف لمدة 9 أشهر، مع تغريمه مبلغاً قدره 250.000 فرنك ما أدى إلى خرابه المالي، عاتباً على العرب الذين لم يقفوا معه في محنته. تألم أكثر حين ساهم ثري عربي بمبلغ نصف مليار دولار لإقامة مدينة ديزني لاند في باريس باعتبار "أن صناعة الدمى أكثر جدوى للبشرية من صناعة الأفكار".
قال "كنت أراهن على أن يحدث هذا الكتاب الذي وضعته، مستنداً إلى وثائق دامغة، وإلى أقوال ذات صدقية عالية، زلزالاً في اللاوعي الفرنسي، وحتى في اللاوعي الأوروبي، لكنني فوجئت بتعريتي حتى من عظامي وحصاري بالأسلاك الشائكة".
اسمه أزيل من الموسوعة الفلسفية، ومن كل الموسوعات الأخرى. قال "لا أعتقد أن الحاخامات هم من قام بالثورة الفرنسية. لكن، ما حدث أن هذه الثورة حررت اليهود من الاضطهاد لكي يضطهد قادتهم الآخرين".
"... لكن رأسي بقي طليقاً. لم يتمكنوا من إقفاله بالشمع الأحمر". لهذا وضع كتابه "Le proces du sionisme israelien" الذي نقله إلى العربية كل من رانيا أبو ناصيف وبيار ريشا (وقد عدت إلى الأصل الفرنسي وما كتب حوله) بعنوان "غارودي يقاضي الصهيونية الإسرائيلية".
ما قاله لدى صدور الكتاب أثار عاصفة من الاحتجاجات التي زادت من الحصار عليه، باعتباره "فيلسوف المحرقة"، وهو الذي أكد أنه وضع المحرقة (الهولوكوست) في صورتها الحقيقية بعدما تم تسييسها لأغراض زبائنية، معتبراً أن من انقض عليه خاف من زعزعة البنية الأيديولوجية والتاريخية التي شكلت الحيثيات السياسية لإقامة "إسرائيل". هكذا، حلّت الأسطورة محل التاريخ، كذلك محل الحقيقة.
الصهيونية تكذب...
قراءة الكتاب تظهر أن غارودي استند في محطات كثيرة إلى آراء يهود بارزين يمثلون شتى الاتجاهات السياسية والفكرية، وهو الذي فوجئ بأن المثقفين الذين تمتلئ بهم المقاهي، لم يرفعوا قبضاتهم احتجاجاً على "موت الحرية" لتبدو الثورة أمام أزمة البقاء...
ثمة نقطة لافتة جداً في الكتاب وهي أن الصهيونية كانت تكذب حين عمدت إلى "التسويق اللاهوتي" للدولة. في مذكرات مؤسس الحركة تيودور هرتزل قوله "في 23 تشرين الثاني 1895، كتبت إلى حاخام لندن الكبير، كما إلى مرادوك كاهن، كبير حاخامات باريس، أني لا أخضع لأي باعث ديني في مشروعي" لهذا توجّه في كانون الثاني 1912 إلى سيسيل رودز، رئيس وزراء مستعمرة الكاب، وصاحب إمبراطورية الماس، طالباً استخدام نفوذه لدعم المشروع الصهيوني، كون هذا المشروع وجد لتكريس بقاء الاستعمار، والحيلولة دون أي حركة تهدد المصالح الاستعمارية.
غارودي لاحظ أن هرتزل "استخدم الديانة كأداة سياسية لتغطية مؤسسته الاستعمارية. وعلى طريقة "اللاأدريين" الذين يعدّون القيم الحقيقية للقضايا الدينية أو الغيبية غير محددة، ولا يمكن لأحد تحديدها، لا سيما المتعلقة بوجود الله أو عدمه ـ عدّ نفسه لاأدرياً".
وفي مذكراته كتب أن الحاخامات سيكونون ركيزة أساسية، ومنظمة؛ لتشكيلهم حالة تراتبية مؤثرة. لكن، مع بقاء سلطتهم تابعة للدولة. كما كتب أن "مناهضي السامية سيكونون أفضل حلفائنا". من هنا قوله للوزير الروسي فون بلهيف، غداة المجزرة الرهيبة التي نفذها هرتزل نفسه ضد اليهود في مدينة كيشنيف (العاصمة الحالية لجمهورية مولدوفا) في نيسان 1903 إنه سيخلصه من الثوار اليهود.
الفيلسوف الفرنسي أظهر مدى المكيافيلية (بالحدود القصوى) في المشروع الصهيوني حين وعد هرتزل الإنكليز بحماية طريق الهند، انطلاقاً من أوغندا أو فلسطين ـ وكلتاهما تتقاطعان مع القارات الثلاث ـ توازياً، مع التعهد لإمبراطور ألمانيا غليوم الثاني بحماية مشروعه برلين – بيزنطة - بغداد من الإنكليز.
غارودي رأى في مقابلة أجريت معه حول الكتاب وجود شواهد لا تحصى على دور أثرياء اليهود في إضرام الحروب داخل القارة العجوز، مشيراً إلى ذلك النوع من الحاخامات من أصحاب "النبوءات السوداء" حول الظروف التي يظهر فيها المسيح المخلص (المخلص لليهود فقط) وهم الذين لاحظ حتى ألبرت أينشتاين، حين زار القدس عام 1923 أنهم لم يتمكنوا، أو ربما تقصّدوا، عدم تحويل إلههم من إله قبلي إلى إله كوني (تجربة باروخ سبينوزا في القرن السابع عشر دليل على ذلك).
هكذا، يبقى ذلك الإله الذي يتقيأ الدم، في ضوء تلك الفتاوى أو التفسيرات التي ترى في الآخرين "ظواهر حيوانية" خلقوا لخدمة اليهود.
جدار النار
في كتابه، يشير غارودي إلى قول الحاخام كوهين إن "جداراً من النار" يفصل اليهود عن الآخرين. كل آخر هو عدو بالقوة. هنا "أيديولوجيا الكراهية الأبدية". يستشهد ببعض المؤرخين الذين كتبوا عن "متلازمة آماليك". وتبعاً لما تقوله الميثولوجيا اليهودية فإن الآماليك هم قبائل يمينية انقضت على العبريين لدى خروجهم من مصر.
ويشير إلى أنه في جلسة الكنيست يوم 7 كانون الثاني/ يناير 1952 لمناقشة إصلاحات هيكيلية، رفعت لافتة ضخمة فوق المبنى كتب عليها "تذكروا ما فعله بكم الآماليك". تقتضي الإشارة إلى أن رمز "الآماليك" في سفر يشوع يعني "ما يجب إبادته" ليستعيد المؤلف قول مناحيم بيغن "لم يقتل آباءكم ألماني واحد. كل ألماني نازي. المستشار كونراد أديناور هو ووزراؤه قتلة".
مثال آخر: خلال تدريس سفر يشوع (مدرج في المناهج الرسمية) وزع أستاذ في "تل أبيب" يدعى تاماران نصاً على ألف تلميذ جاء فيه أن السفر قال "صعد الشعب نحو المدينة (أريحا) واستولى عليها وقتل كل من فيها من الرجال النساء والأطفال. 1 ـ هل حسناً فعل يشوع والإسرائيليون برأيك؟ 2 ـ لنفترض أن جيشنا احتل قرية عربية أثناء الحرب، هل يجب أن نفعل بسكانها ما فعله يشوع بسكان أريحا؟
حدث هذا في عام 1972. الإجابات كانت مخيفة. 70 % قالوا "نعم". لنلاحظ أن القادة السياسيين والعسكريين في "إسرائيل" يستندون في أدائهم الهمجي في غزة إلى النصوص التوراتية أو التلمودية الأكثر دموية. بسلئيل سموتريتش ذهب بعيداً في التأويل الأبوكاليبتي للنص. دم الفلسطينيين لغسل التراب حتى من وقع أقدامهم، إذ يفترض ألاّ يطأ أرض الميعاد سوى اليهود...
الفيلسوف الفرنسي لاحظ أن المهاجرين الأوائل إلى أميركا أخذوا بـ"متلازمة آماليك" لإبادة الهنود الحمر. هذا ما لفت الفيلسوفة الأميركية آنجيلا ديفيس التي تحدثت عن "تلك البارانويا الغرائبية لدى ساستنا الذين يبدو أن الأرواح الشريرة تستوطن رؤوسهم كورثة للعنة الإبادة".
هكذا، وكما يقول غارودي، يتشكل العقل السياسي في "إسرائيل" وحيث البقاء يفترض، على الأقل، إقامة سور من الكراهية بين اليهود والآخرين. لذلك، دعا، وبالدرجة الأولى، إلى تحرير اليهود من الترسبات الأيديولوجية التي تعدّ كل ما يفعلونه إنما هو برغبة إلهية. لم يقل بمشيئة إلهية.
المال وصناعة الحياة
حتماً، لا يدافع صاحب "كيف نصنع المستقبل" عن الجرائم المروعة التي ارتكبها النازيون. اعتراضه على البروباغندا التي انتهجها دعاة الصهيونية لاستثمار المأساة في "السوق السياسية" حيث يجري "المزج العشوائي بين دماء الضحايا والوحول السياسية".
يعلم أن الأدمغة الصماء هي التي تتحكم بذلك النوع من السياسات ليسأل "أين كان العرب إبان الهولوكوست؟". حالهم حال اليهود وقد تعرضوا للتنكيل حتى على أيدي العثمانيين الذين ينتمون إلى الديانة نفسها. هنا اعتراضه. ينبغي إبقاء القضايا الكبرى أو التراجيديات الكبرى بعيداً عن "الأيدي القذرة".
هذا حين كانت ممالك أوروبية تنظر إلى اليهود كأحصنة طروادة داخل المجتمعات التي يعيشون فيها ليتبين لاحقاً أنهم أحصنة أورشليم. لا ولاء البتة للدولة التي تحتضنهم بل الانغماس، وحتى الانغماس الأيديولوجي، في لعبة المال التي تتقاطع، جدلياً، مع اللعبة السياسية. جورج سوروس، نجم وول ستريت، قال "حتى الموتى يرقصون لرنين الذهب". في نظره المال لا يصنع التاريخ فحسب. إنه يصنع... الحياة!
الكتاب يوضح أن المؤلف شكك في طريقة احتساب ضحايا الهولوكوست (6 ملايين). المعطيات التي قدمت إلى محكمة نورنبرغ لم تكن دقيقة أو موثقة. اعتمدت على التخمين الذي لا بد أن يكون عشوائياً في مثل هذه الظروف الدرامية، ومن دون أن يحد ذلك من هول الحدث. ولكن، باستطاعة الإسرائيليين أن ينبشوا قبور العرب، ويحولوا عظامهم إلى علف للدواجن، ولكن ليس مسموحاً لأي باحث أن يفتح أي ملف يتعلق بالهولوكوست، مع اعتبار أن الشيوعيين كانوا يوضعون في الأفران أيضاً، من دون أن يأتي المؤرخون على ذكرهم.
جزائريون أنقذوه من الإعدام
يتوقف غارودي عند تلك التفرقة "الفظة" بين الضحايا، فقط للتوظيف السياسي، مع أن دلائل كثيرة تثبت أن أدولف هتلر كان يكره، ويتوجس، من "البلاشفة" أكثر مما كان يكره، ويتوجس، من اليهود. يرفع الصوت في وجه الذين يتهمونه بالتواطؤ مع النازيين مذكّراً بأنه أمضى 33 شهراً في المعتقل النازي، وقد حكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص، لكن الجنود الجزائريين في حكومة فيشي رفضوا فعل ذلك، لأن دينهم يحرّم عليهم قتل الأسرى.
ربما ما أثار منظمة "ليكرا" (العصبة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية) التي أقامت الدعوى ضده، اتهامه الإسرائيليين بأن البنية الفلسفية أو الأيديولوجية للدولة تقوم على الكراهية، مؤكداً أن استخدام الدين يتوخى فقط التعبئة السيكولوجية والعملانية. دافيد بن غوريون الذي أعلن قيام "إسرائيل" كان ملحداً، ومع ذلك قال بـ "إقامة مملكة داود الثالثة"، وضرب القدس بقنابل النابالم وهو يشق الطريق أمام وثنية صهيونية أبدلت إله "إسرائيل" بـ"دولة إسرائيل".
غارودي استعاد قول المؤرخ والأستاذ الجامعي إسرائيل شاحاك "غالبية شعبنا فقدت إلهها وأحلّت محله وثناً للعبادة مثلما عبدت العجل الذهبي في الصحراء. أما اسم هذا الوثن فهو دولة إسرائيل".
أكثر من مرة أشار غارودي إلى التداخل أو التماهي بين المكيافيلية العمياء والأيديولوجيا العمياء مستعيداً ما ورد في كتاب الباحثة اليهودية الألمانية آن آرندت "آيخمان في أورشليم". "في البدء، كانت سياسة النازيين تقوم على التعاطف مع اليهود ومن دون جدل، مع الصهيونية". ألم يقل اليهودي ألفريد روزنبرغ وهو المنظّر الرئيسي للنازية عام 1935 بمساندة الصهيونية ليتم نقل اليهود إلى فلسطين؟
جاذبية الدم أم جاذبية الأرض؟ حتى قبل قيام "إسرائيل"، كتب مدير الصندوق الوطني اليهودي يوسف وينز عام 1940 "فليكن واضحاً أن لا مكان لشعبين في هذا البلد، حتى إذا ما تركنا العرب فلن يترددوا لحظة في قتلنا أو في اقتلاعنا".
وقال " لا سبيل آخر سوى تهجيرهم. يجب ألا تبقى قرية واحدة، أو قبيلة واحدة. ولنشرح لفرنكلين روزفلت، ولكل رؤساء الدول الصديقة أن أرض إسرائيل ليست صغيرة. إذا رحل العرب، كل العرب، وإذا ما دفعت حدودها قليلاً إلى الشمال على طول نهر الليطاني وشرقاً إلى مرتفعات الجولان".
الكتاب ركّز على قول دينز "أرض إسرائيل من دون العرب. لا مجال للمساومة. علينا طرد العرب إلى الضفة الغربية أو سوريا أو العراق ". لكن أركان الائتلاف يرون في الضفة جزءاً من أرض الميعاد، وإلى حد القول بنقل السكان بالحاويات إلى البحر الميت. "تصوروا رد الفعل إذا ما قيل فرنسا أو أميركا من دون يهود". تكريس لثقافة الغيتو في زمن العولمة.
لطالما تحدث غارودي عن زمن الهويات المركبة، وحتى الديانات المركبة، بعدما تحوّلت الكرة الأرضية فعلاً إلى قرية كونية.
يشير المؤلف إلى تصريح رئيس الكنيست مئير كوهين عام 1967 إلى أن إسرائيل "اقترفت خطأ بعدم طرد 200000 أو 300000 عربي من الضفة (تقريباً كل السكان آنذاك) ليعلّق "هنا نحن في صميم محاكمتي المغلفة بالذهنية الصهيونية. لذا، عندما أتحدث عن السياسة الصهيونية أنها "تطهير عرقي" أو "عنصرية شوفينية" لا يكون ذلك إثماً وإنما إضاءة لواقع الحال".
هاجسه الفلسفي ردده أكثر من مرة. لا يمكن التعامل مع القرن بلغة الغيتو. الإسرائيليون جاؤوا من أصقاع الدنيا، أي يفترض أن يكونوا قد تفاعلوا مع كل الثقافات ومع كل الحضارات، كيف لساستهم أن يبنوا الدولة بمنطق اجتثاث الآخر أو إزالة الآخر؟
"ما حدث أنهم علقوني على الخشبة لأن فرنسا التي أعرفها علمتني كيف أفتح نوافذي على كل الآخرين. هكذا شاهدت لدى محاكمتي آلام الفلسفة وآلام الحقيقة وأيضاً آلام الحياة".
استذكر كيف أن صحيفة "لورور" خرجت في 13 كانون الثاني عام 1898 بعنوان مقال لاميل زولا "إني أتهم...". وكان المقال رسالة إلى رئيس الدولة فيليكس فور دفاعاً عن النقيب اليهودي ألفريد درايفوس الذي اتهم بالتجسس لحساب ألمانيا "من دون أن يوجد لدى محاكمتي ذلك الـ"زولا الآخر" الذي يصرخ في وجه السلطة لانتهاكها البربري للحقيقة. أيضاً للعقل البشري...
كثير من النسيان أهيل على ضريح روجيه غارودي. ما كان رأيه لو كان على قيد الحياة وشاهد ما يحدث للفلسطينيين الذين تنتمي إليهم زوجته سلمى التاجي الفاروقي؟
هؤلاء هم الإسرائيليون بالقلب الميت والعقل الميت. الآن، في غزة. إنهم على مسافة صفر من الهاوية أم من النهاية؟