كيف أصبحت "إسرائيل" دولة الإبادة الجماعية؟ (2 - 2)
ينقل العكش عن العديد من الباحثين أنّ المذابح الإبادية المقدّسة من أبرز معالم تاريخ العبرانيين الأوائل وحياتهم الاجتماعية في الصحراء.
يؤكد منير العكش في كتابه "اليهود والعنف" أن كلمة "أيدلوجيا" لو ظهرت قبل أن ينشر فيلسوف العقل الأخلاقي إمانويل كانط كتابه "الدين في حدود العقل" لما وجد لديانة العهد القديم المتجسّدة في فكرة "إسرائيل" (فكرة احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة وتاريخ بثقافة وتاريخ) ما يعبّر عنها تعبيراً أدق وأوفى من أنها أيدلوجيا إبادية.
وقبل أسابيع أكد تبنّي هذه الأيدلوجيا ما نشرته وكالات الأنباء عن تحريض رئيس المعهد الديني التوراتي "ييشيفاة شيرات موشيه" في مدينة يافا، الحاخام إلياهو مالي لطلابه الذين يخدمون في "الجيش" الإسرائيلي بعد تخرّجهم، على "ارتكاب مجازر ضد سكان غزة" وذكر أنه بموجب الشريعة اليهودية يجب قتل جميع سكان غزة. وعندما سُئل عن المسنين والأطفال، أجاب بأن "الأمر نفسه ينطبق عليهم"،"لا يوجد أشخاص أبرياء، والأمر نفسه ينطبق على الشخص المسن القادر على حمل السلاح".
إقرأ أيضاً: آفي شلايم: "الموساد" نفذ عمليات التفجير ضد اليهود في بغداد في الخمسينيات
وأضاف: "يوجد فرق بين سكان مدنيين في أماكن أخرى وسكان مدنيين في غزة. وفي غزة، وفقاً للتقديرات، 95 - 98 في المئة يريدون إبادتنا". وعندما سُئل: "الأطفال أيضاً؟"، أجاب: "الأمر نفسه. لا يمكنك الفذلكة مع التوراة. اليوم هو طفل، وغداً هو مقاتل. ولا توجد تساؤلات هنا. المخربون اليوم كانوا أطفالاً في سن 8 سنوات في العملية العسكرية السابقة. فإذن، لا يمكنك أن تستكفي هنا. ولذلك فإن الحكم على غزة مختلف هنا".
وقال الحاخام إلياهو مالي إن "الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة هي حرب دينية. والقانون الأساسي في حرب دينية، وفي هذه الحالة في غزة، هو أن (لا تُبقوا أحداً مِنها حيّاً) (سفر التثنية في التوراة)، وإذا لم تقتلهم؟ فهم سيقتلونك. وإرهابيو اليوم هم الأطفال في العملية العسكرية السابقة الذين أبقيتهم على قيد الحياة. والنساء هن عملياً من يصنعن هؤلاء الإرهابيين".
وأضاف أن المعادلة هي: "إما أنت وإما هم. (...) (القادم لقتلك، اسبق واقتله) (التلمود البابلي). ولا يسري هذا فقط على الفتى في سن 14 أو 16 عاماً، أو الرجل في سن 20 أو 30 عاماً الذي يرفع سلاحاً عليك، وإنما على جيل المستقبل أيضاً. وكذلك (يسري) على من ينتج جيل المستقبل أيضاً. لأنه في الحقيقة لا يوجد فرق".
إقرأ أيضاً: دراسة جديدة عن "اليهود والعنف" للمؤرخ منير العكش (1 - 2)
إن جزءاً كبيراً من كتاب منير العكش "اليهود والعنف" يدور حول فكرة الإبادة الجماعية عند اليهود. فيكشف بأن كلّ النصوص التي تتحدث عن فكرة "إسرائيل" "الأرض الموعودة" (فكرة احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة وتاريخ بثقافة وتاريخ) وتدعو إليها تضعنا أمام أيدلوجيا إبادة جماعية تتجسّد اليوم بالحركة الصهيونية.
إقرأ أيضاً: "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها" .. كتاب يكذّب أسطورة أرض الميعاد
ويذكر المؤلف أنه لتأكيد الذهاب بهذه الأيدلوجيا الإبادية لفكرة الأرض الموعودة "إسرائيل" إلى أقصى مداها من تدمير وذبح "حتى لا يبقى على قيد الحياة أحد" غير هذه العشائر البدوية، أي الإبادة الوجودية والمحو الكامل لأبناء الحضارات الإنسانية الأولى، كان رب هذه العشائر - كما تصوّره توراة العهد القديم - يغضب ويهتاج ويعاقب كل من لا يلتزم حرفياً بفريضة "التحريم".
كانت القاعدة الذهبية التي نسبوها إلى "ربهم" وهم في زحفهم إلى "الأرض الموعودة" هي: إن لا تُبيدوا أبدكم وأفعل بكم ما أفعل بهم.
وينقل العكش عن العديد من الباحثين أن المذابح الإبادية المقدسة من أبرز معالم تاريخ العبرانيين الأوائل وحياتهم الاجتماعية في الصحراء (أي معالم "الذهنية اليهودية" وفكرة "الأرض الموعودة" نفسها كما تعرضها توراة العهد القديم). ولهذا كان من أوضح معالم هذه الذهنية ومعالمها الشخصية "الإله المحارب" الذي خلقوه عل صورتهم ومن ضلع بداوتهم وصحرائهم. وحيث وجدهم وقدّسهم وصانهم كحدقة عينه (التثنية 32، 10).
ويكمل: كلّ الأسفار الخمسة الأولى (التوراة) تشحن هذه الحروب بالمعنى الإبادي "التحريمي" المطلق من دون التساؤل لمرة واحدة فقط ما إذا كانت هذه الحرب حقاً أو باطلاً، أخلاقية أو غير أخلاقية. هناك عمى مطبق من "الإله المحارب" عن مسألة الأخلاق، عن مسألة الحقوق والملكية والإنسان. ففي كل الأسفار الخمسة لا تعثر على كلمة أو معنى يفيد الحب أو المودة أو الصداقة... لا من لسان رب هذه العشائر ولا من لسان أنبيائه.
إقرأ ايضاً: "إسرائيل"إلى نهايتها: قصّة مخاوف الآباء المؤسّسين
ويكشف العكش في كتابه المهم "اليهود والعنف" أن كلمة "عبري" ليست اسماً لجنس أو عرق، بل هي صفة تعني "البدوي" كما تعني "العابر" و"اللص" وتعني "قاطع الطريق" و"الدخيل النشاز" و"البربري".
ويلفت المؤلف عناية القارئ إلى أن الأسفار الـ 39 في العهد القديم كلها باستثناء سفري راعوث ونشيد الأناشيد مسكونة بهاجس الحرب والنهب وبتمجيد دمار حضاراتنا الأولى وقتل شعوبها التي صنعت الإنسانية من وادي الرافدين إلى وادي النيل.
ويؤكد العكش أن نسبة هذه الاَفات والشرور وأخلاق النهب إلى السماء وتمجيدها أو التغني بها كانت وما زالت من أدهى علامات امتهان "توراة العهد القديم" لفكرة الألوهية، وكانت وما زالت من أبرز طقوس عبادة الذات لدى العشائر البدوية.
ويبيّن العكش أنه تعبيراً عن هذه الذهنية أجمع مؤرخو العالم القديم على وصفهم بالبرابرة تارة وباللصوص وقطاع الطرق تارة أخرى.
ويوضح أن أسفار التوراة ترسم لمن يقرؤها بإمعان صورة تاريخية كاملة للذهنية اليهودية التي كان الحاخام إلياهو مالي أحد نماذجها. فليس سرّاً أن تاريخ هذه الذهنية الذي يخبط بعضه بعضاً لا يتفق إلا على مسألة واحدة لا خلاف عليها وهي أن العبرانيين ودياناتهم المنسوبة إلى "الآباء" كانت ديانات "رجال مطلوسين بالرمل" يتنقّلون في بيئة صحراوية لا تشبهها إلا البيئة الجغرافية والاجتماعية التي ظهر فيها مُدّعو النبوة الأعراب، وكان لها الأثر الأكبر في نشوء هذا الدين وتكوينه والتحكّم بمسار تاريخه وعنفه الاستثنائي. وهي إذا عجزت – وقد عجزت فعلاً – عن أن تكون تاريخاً فإنها رسمت صورة تاريخية واضحة للذهنية اليهودية، وكشفت بذلك عن روح تلك العشائر البدوية وأسباب عنفها وعبادة ذاتها. والذهنية هنا هي إشارة إلى مجموع الخبرات والتجارب والأوهام والسلوك وأنظمة الحياة التي عاشتها هذه العشائر في صحرائها أيام الآباء ثم شملها التقليد العبراني في توراة العهد القديم وجعلها ديناً وظيفياً تعمل فيه الآلهة عند هذه العشائر بالسخرة.
إقرأ أيضاً: اغتيال الزّمن المقبل
ويشير العكش إلى تأثير الأنتربولوجيا فيقول: كانت الصحراء تفصح عما يعني لهم الدين. فيها صارت أحلامهم التاريخية بالغزو والنهب عصب الذهنية اليهودية؛ صارت اجتراراً لذلك الهوس المقدّس بتدمير واستعباد ونهب حضارات الشرق القديم، وصارت جرأة مخيفة على اتهام ربهم بكل ما يكرهونه لأنفسهم وقذفه بكل ما صنعت أيديهم الملطخة بالدم.. ولهذا تجد مع كل مجزرة في هذه الأسفار تعبيراً يفيد ببراءة جزّاريها واتهام "الرب" بما فعلوه فيها. فهو الذي دفع الضحايا لسيوفهم.
ويؤكد العكش أنه لا يمكن فهم هذه الذهنية من دون النظر في عناصرها البدوية واقتصاد النهب والعنف الذي قامت عليه عبادة الآباء. فهي ذهنية لم تنشأ فجأة، بل نضجت على جمر الصحراء وصيغت عبر مراحل طويلة من الزمن وَرِمَت فيها عبادةُ الذات ووَرِمَت معها الهلوسات الأيديولوجية التي تعكس طموحات بدو هذه الصحراء وأحلامهم في وراثة بلاد الآخرين واستباحتها التي لا تتحقّق إلا بالعنف المميت.
ويرى العكش في كتابه "اليهود والعنف" أن هذه الذهنية أنتجت العنف الميت الذي يحمل رائحة الأرض التي خرج منها فقد طغى عليه فقه الغزو والنهب والاستعباد وحياة صعاليك الصحراء لا فقه الدين ولا فقه الأخلاق. أنت لا تجد في كل التاريخ الذهني الذي صاغته المرحلة الآبائية (في التكوين والخروج والتثنية بخاصة) كلمة إنسانية لا عنصرية واحدة عن الأخلاق، أو القيم، أو الفضائل، أو الهداية، أو المحبة، أو العطف، أو الإحسان، أو الإصلاح، أو الروحانيات، أو حتى التوحيد، باستثناء مذابح هستيرية وحرق جثث احتفالية كانت تقام باسم طقس التحريم. كانت عنصرية مسكونة بتأليه الذات وعبادتها؛ معركة وجودية مقدّسة بين إسرائيلي أو غير إسرائيلي.
ويوسّع العكش كشفه لهذه الذهنية العنيفة بقوله: "أيّ محلل نفسي مبتدئ يلاحظ أن رواة نصوص هذه الذهنية كانوا يتلذذون بشاعرية "معصرة غضب الرب" ووحشية عصرها "دم شعوب الأرض" (إشعيا 63 : 2– 6). أي قارئ عادي يدرك أنهم كانوا يتقدّسون بمشاهد التطهير العرقي والجرائم التي ارتكبت في أرض مصر بحق كل بيت وطفل مصري. يروونها بروح مختنقة بالشماتة تتواضع أمامها ألف أوشفيتز. أي لاهوتي حصيف يعرف أنهم كانوا يتعبّدون بالتحريم "الذبح والحرق والتدمّي" ويزعمون أن ربهم الذي خلقوه على صورتهم ومن ضلع بداوتهم "يُسر برائحة الجثث المشوية".
ويعتقد المؤلف بأن هذه الذهنية أكثر ما تجلت بـ "فكرة إسرائيل" وحروبها الإبادية فهي حروب: ليست في أرضهم وبلادهم وبين أقوامهم وليست دفاعاً عن النفس، وليست ضد أقوام حاربوا دينهم وأنبياءهم، وهي أخيراً لا تشير من قريب أو بعيد إلى نشر الدين أو الدعوة إليه، أو إلى هداية البشر وتهذيب أخلاقهم.
يعتبر العكش أن الذهنية التي أسسها الآباء من مادة حياتهم الصحراوية وما زالت فاعلة في سلوك مستعمري فلسطين وأخلاقهم هي الثابت الوحيد والفاعل في هذا التاريخ فبصماتها القوية على التاريخ لم ترسم صورة لذهنية الماضي البعيد وحسب، بل إنها تحكّمت بمسار المستقبل؛ مسار حركات الاستعمار والاستيطان والتمييز العنصري والإبادات الجماعية. ويؤكد العكش أن هذا "ما يزيد القناعة بأن هذه الأسفار الخمسة المسماة بالتوراة مجرد هلوسة أيديولوجية مسعورة نسبت إلى الآباء بعد أن كتبت في وقت متأخر على قياس حاجات ذلك المجتمع البدوي في بيئته الصحراوية القاسية. كلّ حفريات مقابر الوهم – كما يبيّن إسرائيل فنكلستين Israel Finkelstein ونيل سيلبرمن Neil A Silberma لم تأتِ بدليل واحد على صحة تهويمات "تاريخية" أطلقت من خارج التاريخ.
ويؤكد العكش أن الكثير من الباحثين الذين تناولوا فكرة الأرض الموعودة وصفوها (فكرة احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة وتاريخ بثقافة وتاريخ) أو غزو كنعان كما صيغت في توراة العهد القديم. نعم وصفوها... بالفظائع ونسبوها إلى البربرية وقالوا عنها إنها فكرة مذابح إبادية مقدسة.
ويبيّن العكش أنه "مهما كان الأصل لهذا الإله... فإن صورته لم تكتمل إلا في مخيلة العبرانيين البدو الذين لم تلهمهم عبادة ذاتهم صورة أفضل من صورتهم ومسكناً له أفضل من خيمتهم... لهذا ظل الإله المحارب في مخيلتهم مرتبطاً بالصحراء والحياة البدوية حتى أزمنة متأخرة وظل لا يختلف عن شيخ القبيلة" كما نشهد في نشيد الدبورة (القضاة 4:5، وانظر التثنية 23: 10 و12) وفي مسيرة إيليا إلى "جبل الله حوريب".
وينقل العكش عن كاتبين: الأول عن العالم الأميركي هنري شميث قوله إن القبائل الإسرائيلية تبنّت الإله يهوه المحارب... لأسباب حربية وحدتهما في غزو كنعان/ فلسطين تحت راية هذا الإله المحارب.
إقرأ أيضاً: جمال حمدان الشخصية الأهم التي بَحَثت وحَلَّلت "إسرائيل"
والثاني عن جورج فوهرر في كتابه "تاريخ الدين الإسرائيلي" فيقول عن الفترة المبكرة من تاريخ الإسرائيليين عندما كانوا بدواً في الصحراء يعيشون على نهب البشر وأكل لحم السماء: إنها شهدت أسوأ الغزوات البربرية التي عانت منها حضارات العالم القديم، غزوات شنتها قبائل بدوية صحراوية، كان معظمها يعيش في جزيرة العرب، ويعيش بعضها الأقل في حدودها الشمالية على أطراف بادية الشام.
ويكشف المؤلف أن ما يفاقم من وحشية هذه الفكرة ويؤكد براءة السماء من جرائمها "تحريمها" أن ليس هناك نص واحد في الأسفار الخمسة الأولى (التوراة) يقرنها بهداية أو تعليم ديني أو إصلاح أو أخلاق أو فضائل.. أو صفاء روحي يبتعد بها شعرة عن الغرائز الدنيا أو يرتفع بها إصبعاً فوق وحل الأرض فيسمو بها عن عبادة الذات واغتصاب بلاد الاَخرين.