كيف أثّرت "مدرسة فرانكفورت" في نتاج مفكّرين عرب؟
أنتجت مدرسة فرانكفورت العديد من طروحات الفلسفة الاجتماعية والسياسية والنقد الثقافي. هذه المدرسة أثّرت في العديد من المفكرين العرب، من هم؟ وكيف تأثروا؟
أنتجت مدرسة فرنكفورت [1] أو النظرية النقدية المستمرة في أجيالها الأربعة منذ تأسيسها عام 1923 في ألمانيا تحت اسم معهد البحوث الاجتماعية، العديد من الطروحات التي تُصنّف في خانة الفلسفة الاجتماعية والسياسية والنقد الثقافي.
وبالرّغم من التمايزات التي تطبع كل جيل بسبب من اختلاف تأثير المناخات التاريخية وحيثياتها، إلا أنّ فلاسفة المدرسة ومفكّريها لم يقعوا في فخ التقليد والاتباع والتكرار الإحيائي لتراث مدرسة كانت عصية على التمدرس، بمعنى أنّ الخلف فيها لم يحتذ نهج السلف، ما جنّب النظرية النقدية الانقياد إلى السلفية التنظيرية غير القابلة للتجديد.
بل إنّ تاريخ مسار النظرية النقدية تعرّض للانزياحات والانقطاعات كما الاتصال والاستمرار. ولقد غذّت الأجيال الثلاثة اللاحقة على الجيل المؤسس المدرسة ببراديغمات [2] جديدة كل الجدّة "كالتواصلية العقلانية" لدى يورغان هابرماس، والاعتراف مع أكسيل هونيث، والتسارع مع هارتموت روزا.
وفي حين يشكّل العمل في رحاب المدرسة الواسع والفسيح محطّ اشتغال بحثي ينطلق من خصوصية المدرسة الأوروبية أو الحداثية، فإنّ اقتبال العالم العربي لفكر النظرية النقدية لم يلق اهتماماً كافياً، من هنا، فإنّ هذه الدراسة القابلة للتوسيع والإضافة تُعنى بالبحث والتقصّي عن تأثيرات أفكار النظرية النقدية وحضورها في نصوص بعض المفكّرين العرب.
تطرح هذه الورقة البحثية جملة من الأسئلة منها: كيف هي أشكال حضور النظرية النقدية في نصوص بعض المفكرين العرب؟ هل كان هذا التأثر والتأثير صريحاً أم مضمراً؟ وهل كان على الوتيرة نفسها؟ أم أنه تأثّر بالمراحل التاريخية التي رافقت مسار صعود مدرسة فرنكفورت واستمرارها حتى لحظتنا الراهنة؟
هل كان نقل المفكرين العرب لمحمولات النظرية النقدية ولموضوعات فلاسفتها، من باب التعريف بها ليس إلا؟ أم أنهم انهموا بصياغتها لتصير ملائمة محاكية لواقعنا العربي ولمشكلاته؟ وكيف فهم هؤلاء المفكرون العرب وظيفة النقد ودوره في تفسير الواقع وتغييره؟
***
النظرية النقدية في الفكر العربي: ملامح عامة؛ الماركسية ونقد المنظومة الغربية
إن تشكيل هوية النظرية النقدية لم يأت منفصلاً عن التراث الفلسفي الغربي الذي استطاع مفكرو مدرسة فرنكفورت أن يختزنوه داخل مكوّنات نظريتهم، بعد أن أخضعوه لمصفاة النقد والغربلة.
كذلك فأنّ فكر كلّ من سمير أمين (1931 - 2018) وإدوارد سعيد (1935 - 2003) في العمائر الفكرية التي بنوها، وكذلك ماركسية هشام غصيب (1950) المشذّبة، ونهج عبد الوهاب المسيري (1938 - 2008) في نقد مادية الغرب، ومحاولة محمد نور الدين أفاية (1956) شرح براديغم التواصلية الهابرماسي وتبسيطه والتدليل على ارتباطه بالنقد، تمهيداً لتوطينه في الحياة الاجتماعية في كتابه:"الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة؛ هابرماس نموذجاً"[3]. كل هذه المساهمات لم تُقدّم من باب الاصطناع والتوليد القسري، وإنما جاءت استجابة لحاجة العقل العربي لتشريح حال تراجع عالمنا وتعيين مواضع الخلل.
كما أنها حاولت أن تكون استمراراً لاتجاهات الفكر الفلسفي الغربي ببعده الكوني، أي بعد أن نفضت عنه صبغة حصرية المنشأ،لتستوعب ملامحه الإنسانية، مستقية منه العناصر النقدية والمعاني الصالحة للمجتمع والوجود الإنساني باختلاف الزمان والمكان، بخاصة عندما تنهمّ هذه الاجتهادات الفكرية بقضية الحرية الفردية والجماعية.
وللخروج من العمومية، لا بدّ من بعض التوضيحات المنهجية حول كيفية تقفّي أثر مدرسة فرنكفورت لدى المفكرين العرب المذكورين. ذلك أن حضور النظرية النقدية متفاوت المستويات ويتراوح بين أن يكون مباشراً وصريحاً، وبين أن يكون ضمنياً ومضمراً.
كما أنّ لهذا التأثير مناخاته وظروفه بخاصة في ما يخصّ أثر فكر الجيل الأوّل أو المؤسّس لهويّة النظرية النقدية التي ولدت من رحم الماركسية، متبنّية معظم طروحاتها في البداية، كما أنّ الأحداث التي عصفت بالقارة الأوروبية بخاصة بعد نشوب الحرب العالمية الثانية وتفشّي التوتاليتاريات [4] الأيديولوجية والسياسية، وانقسام العالم إلى قطبين متناحرين متماحكين، شكّلا مركزي استقطاب وإلحاق لدول العالم، وتغوّل المنظومة الرأسمالية.
كل هذه التحوّلات تتالت لتشكّل منعطفاً نقدياً انقلابياً وأحياناً مرتدّاً في الوجهة النقدية - النظرية لدى مفكّري المدرسة، وصوّبته باتجاه تشريح المشروع الحداثي الذي قاد بدوره إلى هزّ الثقة بالعقل الغربي والحفر في طبقاته لانتباش جذر السيطرة والرغبة في الهيمنة الملازمة لطبيعة هذا العقل، والكامنة في ثناياه بحيث أنها لا تلبث تتمكّن منه لتتسلّل إلى الوجود الإنساني فتحتلّه، محدثة الثقوب في اللبوسات التي تعاقبت على العقل الغربي، وليس آخرها لبوس الحداثة الزاهي بألوان مبشّرة لم تلبث أن تبدّدت بفعل طفوح السيطرة وتهديمها للبنيان الحداثي الذي خانت مآلاته بداياته.
في هذه الورقة هدفنا الإضاءة على مسألتين:
الأولى: المنابع الماركسية للنظرية النقدية الواضحة في البيان التأسيسي وهو مؤلّف هوركهيمر [5].
الثانية: التبدّل الذي يؤرّخ له مع "جدل التنوير"[6]، والذي يفيض بنقد الحداثة والسيطرة والسلطة والمجتمع الرأسمالي، ويعاين الباثولوجيات[7] المرضية لهذا المجتمع كالأداتية [8] والتشيؤ [9] والاغتراب [10] والاستهلاك.
عند هاتين المسألتين، أي الخلفية المعرفية الماركسية ونقد المنظومة الغربية يلتقي المفكرون العرب لا سيّما سمير أمين وهشام غصيب وعبد الوهاب المسيري - في المرحلة الأولى من اهتماماته الفكرية - مع فلاسفة مدرسة فرنكفورت، حيث أنّ الجميع ينهل من معين كارل ماركس ويتّخذ الجهاز المفاهيمي الماركسي عدّته الإبستمولوجية لمقاربة القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وبالتمسّك بالمادية التاريخية كمنهجية، وإن مطوّرة، كما في محاولة هابرماس في كتابه "ما بعد ماركس"[11].
يستفيد عبد الوهاب المسيري من القاموس المفاهيمي لمدرسة فرنكفورت الذي طوّرت من خلاله مفاهيم مثل التشيّؤ (لوكاتش وماركس)، والاغتراب (هيغل وماركس)، الاستهلاك، الأداتية، وضياع حرية الفرد واختزاله في التنميطات النفسية والعقلية المصنّعة والمصنوعة من قبل جهاز الرأسمالية.
ولعلّ الماركسية التي شكّل معهد البحوث الاجتماعية وطناً لتجديدها وإحيائها ورفدها بعناصر تثريها من خلال تشبيكها مع التخصصات العلمية الأخرى لتوسيعها وفك قيود الجمود عنها، هي الماركسية نفسها التي اقتنع بها المفكرون الماركسيون العرب (سمير أمين وهشام غصيب)، أي أنهم حيّدوها عن الأصولية أو النصوصية [12] التي لا تتنازل عن أي جزء، متشبثّة بالكل الماركسي فتعتبره صالحًا لكل زمان ومكان.
وإن كانت الماركسية تركّز بشكل أساسي على المعطى المادي والاقتصادي، لتقيمه مرتكزاً لتحديد علّة البؤس والقهر واللاعدالة في المجتمعات، فإنّ النظرية النقدية تفلّتت من أسر التفسير الذي ينهمك بالعوامل المادية مختزلاً مشاكل الإنسان في جانب واحد. لذلك انبرى مفكرو المدرسة لبلورة مقولات النقد الثقافي بخاصة عندما عكفوا على هدم العقلانية الغربية وإماطة اللثام عن حقيقة نزوعاتها الهادفة إلى الغلبة والتفوّق والاستعلاء والتحكّم.
المسيري والنظرية النقدية: نقد مادية الغرب
إذا كان فلاسفة النظرية النقدية قد بحثوا عن آثار السيطرة فأطالوا المكوث النقدي عند مقولة السلطة ليبيّنوا حلولها في العائلة وفي الدولة وفي المؤسسة وفي الرموز الثقافية والدينية وفي الإعلام وفي الصناعة الثقافية، ومن ثمّ دلّلوا على تأثيرات أفاعيلها المخترقة للنفوس والعقول، على المستويين الفردي والجماعي، فإنّ المفكّرين العرب استعاروا من مدرسة فرنكفورت هذه المقولات، مثل عبد الوهاب المسيري الآخذ على الغرب الإفراط في ماديته والغلو في إغراق الفرد الغربي في بعد واحد مادي (وهي فكرة مستعارة من هربرت ماركوزه وكتابه الإنسان ذو البعد الواحد [13]) وهو ما يسميه "مطلق مادي" (الصراع الطبقي الماركسي- التفسير الجنسي الفرويدي- النفعية عند بنثنام).
ويستمدّ المسيري من مدرسة فرنكفورت الذي يجاهر بأخذه عنها نقده للغرب. ويستفيد من قاموسها المفاهيمي الذي طوّرت من خلاله مفاهيم مثل التشيّؤ (لوكاتش وماركس)، والاغتراب (هيغل وماركس)، الاستهلاك، الأداتية، وضياع حرية الفرد واختزاله في التنميطات النفسية والعقلية المصنّعة والمصنوعة من قبل جهاز الرأسمالية.
إذا كان ميشال فوكو قد زوّد سعيد برؤية اتساعية تضبط الخطاب الغربي الهيمني كخطاب مفاهيمي معرفي في الدرجة الأولى، فإنّ تأثير مدرسة فرنكفورت يتجلّى في مقولات النقد الثقافي التي تذهب في المنحى ذاته.
فهذه الأخيرة تروّج لصيغ معرفية موحية ومؤثرة، وتشيع قوالب إدراكية جاهزة وأحادية تختصر داخلها كينونة الأفراد فتصير شحيحة وضحلة. وهو يتبنّى هنا الجدل السالب الذي اشتهر به أدورنو وماركوزه، والذي هو قدرة العقل على اتخاذ موقف نقدي أمام الأداتية التي تقتحم حياته،حيث أن "الجدل السلبي يشحن الطاقة النقدية المواجهة للعقل البشري ليتجاوز عالم الأشياء، ويتحرر من النمطية والتسطيح الوجودي والاختزالية الماهوية لطبيعته، ليرى إلى أبعاده الإنسانية الأخرى".
ويبتكر المسيري مصطلح حوسلة الإنسان أي استغراقه في المد الجارف للاستهلاك، أو السُعار الاستهلاكي [14].
تقارب أمين والنظرية النقدية بين الماركسية ونقد السيطرة الغربية
في حين كان المسيري يختزل تناوله النقدي للنسق الحضاري الغربي في كتابه "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان"، من خلال إلحاحه على المساءلة القيمية والأخلاقية للاتجاهات الفكرية الغربية الحداثية، والتركيز على إدانتها باعتبارها حطّت من مكانة ماهية الإنسان الوجودية، فإنّ نموذج سمير أمين المنتمي إلى اليسار الماركسي الثوري الناقد للماركسية بطبعتها السوفياتية، ذهب هو الآخر إلى نقد محورية الغرب.
فقد استند أمين إلى التحليلات الاقتصادية منتجاً نظرية التبعية التي تحلّل بعمق الاستقطاب. أي كيفية اعتياش المركز وانتعاشه على حساب تجفيف الأطراف أو التبادل غير المتكافئ بين الطرفين.
يتنصّل أمين في كتابه "أزمة المجتمع العربي" [15]، من العلاقة الانعكاسية أو الجدلية الثابتة والمعمّمة بين البنى التحتية والبنى الفوقية، وهو موقف استعاره من مفكّري النظرية النقدية. ويمعن في نقد التمركز الغربي واستشراء تأثيرات العنجهية وادّعاء التفوّق، أي نقد السيطرة ولكن من خارج القارة الأوروبية، ومن خارج التقيّد بالنزعة الاقتصادوية الماركسية الكابحة لاتساع رؤية تحليلية شاملة لخلفية مبررات توسّع الغرب وبسط سيطرته.
فأمين انتبه إلى البعد الثقافي الثاوي في مبررات وحجج الرواية الغربية لترسيخ المشروع الهيمني الكولونيالي التوسّعي والاستعماري، مستنداً إلى صياغة مقولات ثقافية استخلصها من قراءته العميقة لأيديولوجيا التمركز الأوروبي أو الأورومركزية أو الاستشراق، مفنّداً خرافات العقل الأوروبي منذ ما قبل الحداثة، وهو ما استلهمه من النظرية النقدية في كتاب "جدل التنوير" الحافر في طبقات العقل الغربي كما أسلفنا الذكر.
"جدل التنوير" يتقصّى أنتروبولوجياً ثيمة التقدّم الغربي ويبحث عن أصولها في التاريخ والخرافة، وينسّبها إلى تاريخ طويل متشابه الملامح، ولا سيّما أسطورة "أولي"، وهو مثال الفرد الغربي الذي يحاول عند كل مفترق أن يتجاوز الأسيجة التي يكبّل نفسه بها، ولكنّه يعود ليصفّد حريته إلى أساطير جديدة كما فعل في العصر الحداثي، حيث نكص إلى أسطورة جديدة عنوانها العلم والأداتية.
وإن كانت نظرية أمين الثقافية غير مستوفية شروط البنيان الفكري المتكامل كما هو الحال في تحليلاته الاقتصادية، إلا أنه يمكن أن نعثر على هذه الأفكار في مقالات متفرّقة مثل: "نحو نظرية للثقافة غير أوروبية التمركز"[16] (مجلة الوحدة/1988)، وفي كتابه "نحو نظرية للثقافة، نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس" [17].
ونجد في هذا النقد ملامح متقاربة ومتطابقة مع طروحات مؤلّف "جدل التنوير"؛ فبحسب أمين اعتمدت أيديولوجيا التمركز الغربي على الخرافات التي تكمن في عمق عقل المثقّف البرجوازي الأوروبي. واعتباره أنّ هذه الادّعاءات امتداد للأساطير وللفلسفة الإغريقية التي احتكرت وبشكل ثابت على مرّ التاريخ حصرية احتضانها للفلسفة والعلوم التي نشأت فقط في بلاد اليونان.
هذه الأسطورة تعود وتتكرر في المرحلة الحداثية لتصير أيديولوجيا لا تاريخية، تحتكر العقلانية وتصيّر العلم أسطورة بحلّة حديثة. عند هذه النقطة يتوافق سمير أمين مع الأطروحة المركزية لـــ "جدل التنوير" التي تحفر أركيولوجياً في العقل الغربي وتعود به إلى الأسطورة -الجذر، وهي الوهم الغربي في التميّز والتفوّق والسيطرة.
ذلك أن "جدل التنوير" يتقصّى أنتروبولوجياً ثيمة[18] التقدّم الغربي ويبحث عن أصولها في التاريخ والخرافة وينسّبها إلى تاريخ طويل متشابه الملامح، ولا سيّما أسطورة أولي Ulysses [19]، وهو مثال الفرد الغربي الذي يحاول عند كل مفترق أن يتجاوز الأسيجة التي يكبّل نفسه بها، ولكنّه يعود ليصفّد حريته إلى أساطير جديدة كما فعل في العصر الحداثي، حيث نكص إلى أسطورة جديدة عنوانها العلم والأداتية.
مقولات النقد الثقافي بين سعيد والنظرية النقدية: نقد الغرب نحو خطاب متكامل
في سياق نقد الخطاب المركزي الغربي وتجلياته الاستعمارية ومحاولة فرضه نموذجاً حضارياً، لا بدّ من الإشارة إلى إدوارد سعيد، صاحب الهويّة الفكرية المفتوحة على اللاتحديد.
استفاد سعيد من ميشال فوكو في إنضاج محاولته التفكيكية للمنظومة المعرفية الغربية في كتابه "الاستشراق" [20] الذي حلّل من خلاله الخطاب المؤسساتي الغربي عن الشرق.
وإن كان فوكو قد زوّد سعيد برؤية اتساعية تضبط الخطاب الغربي الهيمني كخطاب مفاهيمي معرفي في الدرجة الأولى، فإنّ تأثير مدرسة فرنكفورت يتجلّى في مقولات النقد الثقافي التي تذهب في المنحى ذاته.
فكما أن زيف الحداثة قد انكشف في المجتمعات الغربية التي آلت إلى أقفاص وأغلال، أو إلى عوالم إدارية موجهّة ومستعمرة ومحتقرة، صار فيها الوجود الإنساني مشيّأ، اغترب فيها الفرد عن أصالة كينونته، كذلك فإن الغرب الحداثي امتدّ ليحتلّ عبر قسرياته الثقافية الجاهزة، الشرق، وذلك عبر تسخيره للمؤسسات الثقافية، وتجنيده للمفردات والصور النمطية التدنيسية والتبخيسية، وتباهيه بالمذاهب الفكرية، وتوظيفه للبيروقراطيات الاستعمارية في مشروعه الاحتلالي الكولونيالي. ولا يتأخر إدوارد سعيد عن إجهاره بالتأثر بتيودور أدورنو وأسلوبه النقدي في الموسيقى والنقد الأدبي.
محمود أمين العالم: هربرت ماركوزه يقود الماركسية إلى طريق مسدود
مع الجيل الأوّل والمناخ السياسي الاشتراكي، والحضور الشيوعي العالمي، نبقى مع محمود أمين العالم الذي يحشد تساؤلاته المشكّكة بطروحات هربرت ماركوزه أو الماركوزية كما يسمّيها في مؤلفه "ماركوز وفلسفة الطريق المسدود"[21].
وبالرغم من أن تنظيرات صاحب "أيروس والحضارة"[22]، هيأت لمناخ ثوري عالميّ صاخب، وألهمت حركات التحرر في العالم بما فيها عالمنا العربي، إلا أنّ محمود أمين العالم يرتاب بفلسفة ماركوز التي بحسب رأيه "تطمس الوعي الصحيح بحقائق حياتنا ووقائع عصرنا، وتدفع بفكرنا ونضالنا إلى ما أزعم بأنه طريق مسدود" [23].
دافعان يكمنان خلف تهشيم المفكّر الماركسي العربي لفلسفة ماركيوز التي ليست سوى "امتداد للعديد من النظريات الموغلة في الفوضوية".
الأوّل: انزياح ممثل الجيل الأوّل عن النهج الماركسي المستقيم، حيث تقاس استقامته بمدى إخلاصه للمقولات الماركسية كما كانت في بداياتها، بخاصة في ما يتعلّق بالتأويل الماركوزي لطبقة البروليتاريا التي تبرّم معظم مفكّري مدرسة فرنكفورت من نهايتها التي تؤول إلى انتصار حتمي. فماركوزه بحسب محمود أمين العالم قزّم طبقة البروليتاريا إلى حفنة ممن سماهم اليسار الجديد، وهي تضم المنبوذين والعاطلين من العمل وأصحاب البشرة السوداء وسكان مدن الصفيح والشباب والطلبة.
هؤلاء الذين يصنّفهم ماركوزه على أنهم قوى الرفض العظيم، لا يمكن التعويل عليهم للقيام بالثورة والتغيير المنشودين.
ويدفع الشك مفكرنا العربي للتحليل عميقاً وراء ابتعاد منظّر النظرية النقدية عن الماركسية الأصيلة، ليصل إلى قناعة بأن كل ما ابتدعه ماركوزه انطلاقاً من ترويجه لاستيعاب الرأسمالية للبروليتاريا داخل منظومتها وتفريغ الطبقة العاملة من طاقتها الثورية، مروراً بتسليمه اليائس "أو ما يشبه العجز عن إمكانية النضال ضد طبيعة الرأسمالية الاستغلالية والقمعية"، وصولاً إلى مماهاته بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي، حتى ليبدو أنه يساند ضمنياً هذا الأخير، هو ليس سوى تجويف للماركسية، وتحريف لمقولاتها المركزية، وحياد غير بريء عن الخط الماركسي، بل هو تواطؤ مع الإمبريالية الأميركية لإضعاف الماركسية ومشاركة في الحرب عليها.
يحذّر العالِم المفكّرين العرب المنتشين بأفكار ماركوزه الذائعة الصيت والشائعة في تلك الفترة، وينبّه إلى أنّ استقبال الانتلجنسيا العربية للماركيوزية محفوف بالأوهام التي تصوّرها على أنّها "رؤية جديدة وأخيرة للخلاص" و"تقدّم نبوءة جديدة للحرية"، في حين أنها ليست سوى "بريق سطحي"، يغري المثقفين و"يورّطهم أشد التورّط في خيانة ما يصبون إليه لخدمة أمتهم العربية".
وأما السبب الآخر الذي أثار حفيظة المفكّر المؤازر لقضايا وطنه العربي والمناصر لها، هو موقف هربرت ماركوزه من القضية الفلسطينية والعداء العربي - الصهيوني الذي لم يأت تقدّمياً وتحرّرياً، وهو يكشف نفاق الفيلسوف الذي يدّعي التقدّمية في حين أنّه لا يقف إلى جانب القضايا العادلة للشعوب المستضعفة، فـــــ "ماركوزه الذي يزعم لنفسه الثورية، يقف من إسرائيل موقفاً شخصياً جداً". وهو لم يعترف بحقيقة الثورة العربية وبأحقيتها وبأبعادها التحررية والتقدّمية، ولم يقر بمشروعية النضال الفلسطيني، ولم يُدِن الطبيعة العنصرية للدولة الإسرائيلية.
يحذّر العالم المفكّرين العرب المنتشين بأفكار ماركوزه الذائعة الصيت والشائعة في تلك الفترة، وينبّه إلى أنّ استقبال الانتلجنسيا العربية للماركيوزية محفوف بالأوهام التي تصوّرها على أنّها "رؤية جديدة وأخيرة للخلاص" و"تقدّم نبوءة جديدة للحرية"، في حين أنها ليست سوى "بريق سطحي"، يغري المثقفين و"يورّطهم أشد التورّط في خيانة ما يصبون إليه لخدمة أمتهم العربية".
وفيما يصبّ العالم جام نقده الارتيابي آخذاً على ماركوزه تشويهه للمعاني الأصلية للمفاهيم الماركسية، فإنّ ابتعاد منظري مدرسة فرنكفورت عن حرفية النص الماركسي هو تقليد اتّبعته المدرسة خلال أجيالها الأربعة.
واتّخذ هذا التعاطي النقدي مع ماركس أشكالاً كثيرة؛ فهو تارة من باب التجديد والحرص على تنقية الماركسية من علائق الجمود، وحفاظاً على المنهج الجدلي من أن تعيق تطوّره مكابح الشطحات اليوتوبية التي اعترت صاحب ثيمة البروليتاريا.
وهو اتصال كما مع هابرماس، وأحياناً انقطاع وتنكّر كما مع أكسيل هونيث المتبرّم من قصور التفسير المادي لأزمات مجتمع الاحتقار، ومن ثمّ عود على بدء إلى رحاب المقولات الماركسية مع نانسي فريزر.
هشام غصيب والنظرية النقدية: في تحيين الماركسية
لم يكن المفكرون العرب الماركسيون بعيدين عن الاقتبال النقدي للماركسية، بخاصة أولئك الذين حرّروا أنفسهم من عبء الانتماء إلى تنظيم الأحزاب الشيوعية التي تعاطت بأغلبيتها مع نصوص ماركس بحرفيتها أو ما سمّاه فلاسفة النظرية النقدية بالأرثوذوكسية الماركسية، أو كما ذهب لوكاتش إلى أن الماركسية الأرثوذكسية تعني التسليم غير النقدي بنتائج البحث الماركسي، فهي ليست تفسيراً لكتاب مقدس.
ويُعتبر هشام غصيب أحد الماركسيين العرب البارزين الذين كثّفوا جهودهم الفكرية نحو توظيف العدّة المفاهيمية والمنهجية الماركسية أولاً لتصويب مسيرة المشروع الماركسي وإجلاء اللبس والغموض عن بعض الإشكاليات النظرية لا سيّما مفهوم الجدل أو الديالكتيك والمادية التاريخية، والثاني متعلّق بالأوّل ومرتبط به، أي الاستفادة من هذه التجديدات في تحسين المجتمع، لأن الماركسية، على حدّ قوله، لا تقتصر على بعض النخب فقط، بل هي "على ارتباط وثيق بهموم الناس العاديين" وبخاصة أولئك الذين يعانون من الفقر المدقع والفاقة.
شكّل الجدل أو الديالكتيك ثقل اشتغال مفاهيمي ومعرفي في مدرسة فرنكفورت، فأعادت صياغته وتتّبعت مساراته المتناقضة والمقلوبة مع ماركس وماديته الجدلية، (فليس وعي الرجال هو الذي يحدد كيانهم، ولكن كيانهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم).
يظهر هذا الفهم الجدلي والعميق لفلسفة ماركس في كتاب غصيب "نقد العقل الجدلي"[24]، حيث هدف مؤلفه إلى تخليص المنهج الجدلي من شوائب التحريف والفهم الخاطئ الذي لحق به، وهو يفعل ذلك على غرار (لوكاتش وكورش ومدرسة فرنكفورت وغرامشي وسارتر وألتوسير).
شكّل الجدل أو الديالكتيك ثقل اشتغال مفاهيمي ومعرفي في مدرسة فرنكفورت، حيث أعادت صياغة الديالكتيك كما صاغه هيغل (أطروحة ماركوزه)، وتتّبعت مساراته المتناقضة والمقلوبة مع ماركس وماديته الجدلية (فليس وعي الرجال هو الذي يحدد كيانهم، ولكن كيانهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم).
والتزمت المدرسة بمحايثة المنهج الجدلي لراهن المجتمع باعتباره طريقة لاستقراء أزماته وتقديم التحليل الصائب لأسباب البؤس وعلله، عبر الانطلاق من الأرض والتربة الاجتماعيتين التي منها تنبثق الفكرة، لا العكس، وهذا ما التزمه مفكرو المدرسة كأساس ومبدأ شرّعه هوركهيمر في الوثيقة التأسيسية للمدرسة عنينا به كتابه "النظرية النقدية والنظرية التقليدية"، من خلال تشديده على ربط النظرية بالممارسة.
تستحيل الوضعية ميتافيزيقا بحلّة محدّثة تؤقنم البنى المفهومية، فتصير كما العقلانيات السابقة لها، مشيحة بوجهها عن لحظة زمنها، ومكتسية طابع الضرورة بحجة إطلاق صوابيتها، تحوّم بعيداً من عالم الإنسان.
وفي سياق تكريسه للوظيفة النقدية للمنهج الجدلي ينحو غصيب في كتابه المذكور باتجاه نقد الوضعية أو الوضعانية [25] من منظور مادي جدلي، فأظهر تهافت الخطاب الوضعي وقصوره عن تلمّس الحقائق الاجتماعية بموضوعية، بالرغم من ادّعائه لامتلاكها.
دأب هوركهيمر ومن بعده ماركوزه ومن ثم هابرماس في تهفيت ادّعاءات الوضعية بخاصة في العلوم الاجتماعية كما قدّمها كلّ من أوغست كونت وإميل دوركهايم. فالوضعية هي واحدة من إفرازات النظرية التقليدية، وإحدى أوجهها الكثيرة التي تقمّصتها عبر التاريخ ولا سيّما في المرحلة الحديثة.
يُخضع المنظرون النقديون الوضعية العلمية لنقد متعدّد المستويات، تتشابك وتتداخل في المنطلقات والمسارات لتلتقي عند مقولة السيطرة. فتعقّب هوركهيمر، "جذور الفكر الوضعي رجوعاً حتى ديكارت (1596- 1650). ذلك الفكر الذي جعل العلوم تبدو وكأنّها التزام صافٍ - لا فائدة عملية له البتة".
يفترق غصيب عن مفكّري النظرية النقدية الذين أخفقت بالنسبة لهم مقولة التقدّم التاريخي ذات الأصول الهيغلية، فالتقدّم والوصول إلى النهايات السعيدة هو أسطورة مزيّفة تدغدغ الفكر البشري لكنها عبثية لا طائل منها.
فالوضعية منذ نشأتها في ما يسمى "عصر الأنوار"، تضمّنت الاعتقاد بثبات القوانين الطبيعية، وأعلت من شأن تفاسيرها للعالم الطبيعي كمثال وطيد وراسخ، يؤمُّ الوعي بالمعرفة في كافة المجالات الأخرى.
وانغمست الوضعية في المسلك التجريبي الاختباري، مشهرة الطلاق مع التفكير الفلسفي على اعتبار أنّه من مخلّفات المرحلة السّابقة. هوت الوضعية إلى فخاخ الميتافيزيقا [26] برفعها من شأن المباشر والظاهر المعطى والحسي التجريبي وازدرائها للفكر والتأمّل، ومن خلال جزمها بإطلاقية اليقين في قوانينها.
هكذا، فإنّ الوضعية تستحيل ميتافيزيقا بحلّة محدّثة تؤقنم البنى المفهومية، فتصير كما العقلانيات السابقة لها، مشيحة بوجهها عن لحظة زمنها، ومكتسية طابع الضرورة بحجة إطلاق صوابيتها، تحوّم بعيداً من عالم الإنسان.
سخّر هشام غصيب ماركسيته المنقّحة، التي تزوّد منها بأدوات مفاهيمية وابستمولوجية، لقراءة واقعنا ولنقد التراث العربي، ولتصويب موقفنا المتشنّج من الغربي وروّج لمفهوم الاستغراب في مقابل الاستشراق، وآمن بالنضال الفكري الدؤوب والمتراكم لنيل التحرر، ووضع خارطة طريق للتقدّم الذي لا يزال ينتظر القوى الاجتماعية الصاعدة المتحصّنة بالفكر العلمي، على حد قوله.
وهنا يفترق غصيب عن مفكّري النظرية النقدية الذين أخفقت بالنسبة لهم مقولة التقدّم التاريخي ذات الأصول الهيغلية، فالتقدّم والوصول إلى النهايات السعيدة هو أسطورة مزيّفة تدغدغ الفكر البشري لكنها عبثية لا طائل منها.
براديغمات الجيل الثاني: محمد نور الدين أفاية نافذة إلى تواصلية هابرماس
مع الجيل الثاني يعدّ هابرماس رائداً للفلسفة المعاصرة، فهو متعهّد النظريات الكبرى، والفيلسوف النهم الذي ولّف شتى الفلسفات والميتودولوجيات في عمارة فلسفية تتكئ على خلفية حداثية. وفيما يخصّ مدرسة فرنكفورت قصف الجيل الأوّل جبهة الحداثة ("أفول العقل"[27] لهوركهيمر و"جدل التنوير"، و"الإنسان ذو البعد الواحد"السالفي الذكر)، حيث تكثّف في هذه المؤلفات نقد النظرية النقدية للمشروع الحداثي، وهو مشوب بالتورّم والسوداوية والتهديم، ما دفع هابرماس إلى القول:" كان على "جدل التنوير" أن يخفّف من غلواء إبهاماته، فهو محاولة مفهمة سيرورة التدمير الذاتي للأنوار...تجلّى عن لبس وغموض لا بدّ من اتّقائه"[28].
وعلى النقيض من التقويض، اجتهد صاحب "القول الفلسفي للحداثة" في إعادة إدماجها ضمن خريطتها التاريخية، وتسديد خطاها نحو بنائية تعيد ترشيد المنطلقات والأهداف التي التزمت بها في بداياتها، وإدراجها ضمن مخطط حضاري تقدّمي وإنساني تحرّري.
يبتعد صاحب براديغم التواصلية عن الأسلوب المتشنج في نقد الحداثة، مستمهلاً إصدار الحكم عليها، متوخياً مساءلتها على ضوء انفتاحات العلوم في عصره، مفترضاً أنّها لم تستنفد كل إمكانياتها المخبّأة، متريّثاً في قبول الدخول إلى ما بعد الحداثة التي ليست سوى شكلًا مستمرًّا للحداثة ذاتها. ويتساءل:"هل انقضى عهد الحداثة فعلًا كما يزعم أتباع ما بعد الحداثة؟".
جاءت العقلانية التواصلية ثمرة الاندفاع الهابرماسي لمد الجسور بين الانقطاعات والفجوات التي ألمّت بالجسم الحداثي، وللتخفيف من التصدّعات والشروخ المشوّهة للجوانب المضيئة التي يمكن أن نعود إليها في المعطيات الحداثية لاستنطاقها والمضي بها قدماً.
إذاً يلج هابرماس في مشروع ترميمي تصالحي، قصد صاحبه أن يستدعي دعائمه من كنوز الحداثة نفسها رافضاً الاستعجال في رمي كل منجزاتها، فقام بعملية غربلة ليفصل زؤانها عن حنطتها التي يمكن استخراجها والمضي بها لقطف ثمارها التي يجب أن نستمهلها وقتاً لتنضج.
وجاءت العقلانية التواصلية ثمرة الاندفاع الهابرماسي لمد الجسور بين الانقطاعات والفجوات التي ألمّت بالجسم الحداثي، وللتخفيف من التصدّعات والشروخ المشوّهة للجوانب المضيئة التي يمكن أن نعود إليها في المعطيات الحداثية لاستنطاقها والمضي بها قدماً، إن العقلانية التواصلية هي ممارسة مصوّبة ومقوّمة للعقلانية الحداثية لتصير كما كانت منذ بدايتها تحررية.
والسؤال المشروع هنا: إذا كانت تواصلية هابرماس العقلانية المرتكزة على اللغة وأخلاقيات الحوار بشكل أساسي، والتي تتطلّب فضاء عاماً مشتركاً، وتوافقات مفهومية لغوية واضحة خالية من توتّرات السلطة وتدخّلات المنفعة وتعاليات فلسفات الوعي، هي نتاج الحداثة نفسها ومتأصّلة في تربتها، حيث تجد جذورها في الاتجاهات الفلسفية الحداثية بامتياز (كانط وهيجل)، كيف بيّأ (خلق بيئة) المفكرون العرب مفهوم التواصلية في أرض غريبة عنها، وفي مناخ لامس قشرة الحداثة، من دون أن يعيش معتركاتها أو أن تدخل في نسيج مجتمعاته؟
لا بدّ هنا من لفت النظر إلى أنّ حضور النظرية النقدية في نصوص المفكرين العرب في جيليها الثاني والثالث، يختلف عنه كما عرضنا له لدى الجيل الأوّل. والسبب يعود إلى أنّ شيوع تأثيرات مفكري المدرسة المؤسّسين يرتبط بالمناخ العالمي حينذاك والذي شهد حركات تحرر استوحت من الماركسية والاشتراكية والشيوعية المنتعشة والرائجة في تلك المرحلة التاريخية، فنشط مفكرون عرب ماركسيون على غرار من ذكرناهم انخرطوا في الحراكات الثورية الطامحة إلى التخلّص من الاستعمار الغربي والتبعية له، مستلهمين من التجارب الماركسية الغربية على اختلاف تنويعاتها.
ولكن مع الأجيال اللاحقة للمدرسة وصولاً إلى الرابع منها، انكفأت هذه التطلّعات مع انحسار الموجة الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفياتي، وهذا يعني أنّ طموحات هؤلاء المفكّرين لم تنجح في تأصيل نفسها في المجتمع العربي (وذلك لأسباب كثيرة قابلة للنقاش بعيداً من جلد الذات)، وهذه ظاهرة مستمرة منذ عصر النهضة العربية التي بقيت في حدود نصوص النهضويين العرب على اختلاف مشاربهم وقناعاتهم، ولكنها لم تجد لها قنوات تصلها إلى أرضية الواقع.
استناداً على هذا الافتراض، فإنّ تعرّف العالم العربي إلى منظّري مدرسة فرنكفورت في أجيالها اللاحقة على مرحلة التأسيس، لم يخرج كثيراً عن حدود الأوساط الثقافية والفكرية والأكاديمية، وهو راج عبر الترجمة والاجتهادات الشخصية التي صدرت عن مهتمين بالفكر الفلسفي الغربي.
وهكذا فإنّ محمد نور الدين أفاية يبسّط فلسفة هابرماس ويشرح براديغمه عن التواصلية في كتابه "الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة؛ هابرماس نموذجاً".
لم يهدف المفكّر المغربي فقط إلى تصدير هابرماس والقضايا الفلسفية والمعاصرة إلى العالم العربي، فهو استكمل في هذا الكتاب ممارسة قناعته بأنه يجب على العالم العربي أن يوسع اهتمامه لمسائل ملحّة تمسّ الفرد والمجتمع العربيين، كالهويّة والديموقراطية وتصويب المفاهيم السياسية وضرورة تذليل العقبات الأيديولوجية والمقدّسة الكابحة والمحرّمة للتفكير النقدي من أن يلقى سبيله إلى العقل العربي ومؤسساته السياسية.
فالتواصلية تفترض احتضانها من قبل واقع سياسي يقبل الاختلاف وينفتح على الحوار المتطلّب لحجج نابعة من العقل الحر، ومتخففة من سيطرة السلطة والتصخّم الأيديولوجي أياً كان مصدرهما حتى لو كان الدين نفسه، بل ويخضع هذا الأخير للنقاش التحليلي الهادئ والعقلاني والأخلاقي الذي يبحث عن المشتركات في الفضاء العام حيث يحق للجميع التلاقي والتواصل.
ويقول أفاية إن:" التفلسف لا يمكن اختزاله في مجرد لعب تأملي، وإنما هو انخراط فكري ووجودي لتغيير أحوال الذات، وتحسين ظروف العيش"[29]. وتغيير أحوال الذات يعني تحوّل الفرد العربي من حال التبعية إلى حال المواطنة، فهذه الأخيرة تساوي بين الأفراد فيصيرون واعين بذاتيتهم وقابلين للآخر مهما كانت نوع اختلافه عنهم، فكلما تبدّد الالتباس في فهم الذات ووعت هذه الأخيرة كونها ذات حرّة فإنها ستقبل على الآخر كذات موجودة لا يصمّ الآذان عن سماع سرديتها.
فسيادة منطق المرجعيات الحتمية، والمطلقيات السياسية والدينية المتحصّنة وراء حدود المقدّس تلجم العقل العربي عن التفكير خارجها، وترفض بالتالي كل من ينتمي إلى المختلف عنها والمغاير لها، فتنعدم إذ ذاك التواصلية وتُسدّ سبل العبور إلى الآخر.
لم يهدف أفاية إلى تصدير هابرماس والقضايا الفلسفية والمعاصرة إلى العالم العربي، فهو استكمل ممارسة قناعته بأنه يجب على العالم العربي أن يوسع اهتمامه لمسائل ملحّة تمسّ الفرد والمجتمع العربيين، كالهويّة والديموقراطية وتصويب المفاهيم السياسية وضرورة تذليل العقبات الأيديولوجية والمقدّسة الكابحة والمحرّمة للتفكير النقدي من أن يلقى سبيله إلى العقل العربي ومؤسساته السياسية.
من هنا، يشجّع أفاية الانفتاح على فلسفة الفكر الحداثي ويتبنّى رأي هابرماس بأن الحداثة جدوى مستمرّة، فنحن بحاجة إلى العقلانية الأنوارية بغض النظر عن المواقف المناقضة لها والجاهرة بإفلاسها.
ويقول:" إنّ لمسائل العقلنة والتحديث والتواصل طابع راهنية غير متوقفة في المجتمع العربي، كما أنّ قضايا المشروعية والحوار السياسي والديموقراطية تمثّل أسئلة مؤرقة على المجالات السياسية العربية"[30].
وتجدر الإشارة إلى أنّ مجموعة من النصوص الأساسية لمفكري النظرية النقدية قد تمّت ترجمتها إلى العربية، كما ترجمت بعض مقالات هابرماس وبدأنا نعثر في الآونة الأخيرة على من يستشهد ببعض نصوصه، أو يستلهم نمط سؤاله لا سيّما في ما يتعلق بالحداثة.
النظرية النقدية في جيليها الثالث والرابع: حدود الانتشار وضرورة الاستعمال
يبقى أكسيل هونيث في الحقل التواصلي متجاوزاً ربطه حصراً بعامل اللغة. ولكن ممثل الجيل الثالث يرى أن هابرماس لم يترك مكاناً للظواهر الاجتماعية النزاعية، وذلك بناءً على الواقعة الأساسية للمجتمع، ألا وهي الصراع والمنافسة بين الذوات الاجتماعية.
ما يصوّب هونيث البوصلة نحوه، والذي لم يتّسع التنظير في التواصل ليشمله، هو معايشات الذوات لإحساسات الذل المتأتّي من وضعيات الإقصاء والتبخيس الفردي والاجتماعي، التي تورث آثاراً سلبية لدى الموجود في مرماها، وما تسفر عنه من توليد مشاعر انتقاص للهوية الذاتية.
هذه التجارب الأخلاقية تُصنّف أيضاً من ضمن الصيغة التواصلية المشوّهة التي لم يلحظها نموذج التواصل الهابرماسي المنكفئ في حصرية المستوى اللغوي، "لقد كان منطلق نموذج التواصل، هو القول بأنّه لا يمكن فهم الافتراضات المعيارية للتفاعل الاجتماعي إذا تمّ اختزالها في الشروط اللغوية للتفاهم...ولكن بخلاف ما ذهب إليه هابرماس، توجد لدينا هنا علاقة وطيدة بين الأضرار التي تقع من ناحية الشروط المعيارية للتفاعل الاجتماعي والتجارب الأخلاقية التي تعيشها الذوات في عملية التواصل اليومي. وعندما يتمّ انتهاك هذه الشروط، ولا يحصل الشخص على الاعتراف اللائق به، يشعر من الناحية الأخلاقية بأنه كان عرضة للاحتقار ...وهكذا فإنّ نموذج التواصل لا يُختزل في نظرية اللغة، بل يجب أن يسع نظرية الاعتراف". يفترض هونيث إذن أنّ أستاذه انجرّ إلى ما أسماه "نوع من العماء تجاه تجارب الظلم/ الجور"[31].
لسنا هنا بصدد التعريف ببراديغم الاعتراف أو الخوض فيه، على الرغم من أهمية كونه من الموضوعات الحيوية الراهنة في الفلسفة الاجتماعية والسياسية المعاصرة. وهو مفهوم فتيّ التنظير، وراهن من حيث ضرورته على أن يكون حلًّا لأزمات المجتمع المعاصر الممزق، الغالبة عليه صفة الاحتقار بخاصة مجتمعاتنا العربية.
لا تزال مفاهيم كالاعتراف وإعادة التوزيع والتسارع والتسامح في المرحلة الأولى من تعرّف العالم العربي إليها، وهي محصورة في الأوساط الأكاديمية والجامعية والثقافية.
ولقد عُني كمال بومنير المفكر والكاتب الجزائري [32] بنقل وترجمة نصوص لهونيث ولنانسي فريزر، معرّفاً بتناولهما لمفهوم الاعتراف كلّ من زاويته. ومن كتبه حول الاعتراف نذكر" الحق في الاعتراف"(2018)، "سؤال الاعتراف"(2019)، "أكسيل هونيث، فيلسوف الاعتراف"(2015).
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ اجتهادات هذا المفكّر طالت الجيل الرابع للمدرسة فعرّفنا إلى هارتموت روزا في كتابه"التسارع، الاغتراب، والتصادي"[33]، وهو دراسات ونصوص مترجمة قدّم لها هارتموت روزا نفسه.
ولدينا أيضاً راينر فوست صاحب مفهوم التسامح، وجوديث بتلر وسيلا بن حبيب. هؤلاء منظرو النظرية النقدية في مرحلتها المعاصرة، وهم يجتهدون ويتفكّرون في مسائل تتقاطع بين الفلسفة الاجتماعية والسياسية، مستفيدين من كامل التراث الغربي النقدي لا سيّما الألماني.
لا تزال مفاهيم كالاعتراف [34] وإعادة التوزيع والتسارع والتسامح في المرحلة الأولى من تعرّف العالم العربي إليها، وهي محصورة في الأوساط الأكاديمية والجامعية والثقافية.
والمفارقة هي أنّ ثقافتنا العربية أحوج ما تكون إلى هذه القيم - المفاهيم بسبب من تهالك فضاءنا أو فضاءاتنا السياسية العربية، التي تطبق عليها المرجعيات والرؤى الأيديولوجية المتغوّلة في ساحات الفكر العربي حيث تتجذّر التسلّطية.
فالفكر الإطلاقي يحوّل الوجود العربي إلى مكان تنتعش فيه الأيديولوجيات اللاعقلانية، المعاندة للاعتراف والتواصل والتسامح، فهذه المفاهيم تتطلّب ممارسة جديدة للعقلنة، والديموقراطية والحرية هما الشرط القبلي لممارستها.
ونستشهد هنا بقول لعبد الإله بلقزيز:" فكرة الاعتراف هي الغائب الأكبر في الثقافة العربية المعاصرة المهدّدة بالتصلّب والانسداد بسبب التعصّب المرضي للذات المغالية في ذاتيتها ونرجسيتها والتي تروّج لقيم الإنكار، وتمنعنا من تذوّق طعم الاعتراف والاستفادة من ثمراته في نسيج المعرفة والثقافة"[35].
المراجع والمصادر
[1] مدرسة فرنكفورت أو معهد البحوث الاجتماعية. تأسس المعهد بتمويل من فليكس فايل عام 1923 وتمّ افتتاحه عام 1924. وكان رجال المعهد مجموعة من الماركسيين كجورج لوكاتش و كورش وغرونبرغ، الذين أخذوا على عاتقهم تفعيل الخطاب الماركسي وإعادة زخمه. وقد مهّد هذا المناخ التحضيري لافتتاح المعهد، إلى أن جاء القرار بتأسيسه بشكل رسمي بقرار من وزارة التربية في ألمانيا، من أبرز رجالاته؛ ماكس هوركهيمر(1895-1973) وتيودور أدورنو (1903-1969) في الجيل الأوّل، ثم يورغن هابرماس (1929) في الجيل الثاني، ثم أكسيل هونيث (1949) في الجيل الثالث، وهارتموت روزا (1965) في الجيل الرابع.
[2] البراديغمات Les paradigmes، بحسب توماس كون البراديغم هو نموذج إرشادي محدّد للمعرفة، أو هو توجيه نظري أو مقياس معرفي، وهو يحتوي مجموعة من المبادئ والنظريات موجّهة للمعرفة. أنظر Alain Chalmers, Qu’est-ce que la science? Poper, Kuhn,Lakatos, Feyerabend, le livre de poche, coll. “Biblio essays”, Paris,1987.. توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، منشورات عالم المعرفة، العدد 168، ديسمبر، 1992.
[3] أفاية محمد نور الدين، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة؛ نموذج هابرماس، أفريقيا الشرق، بيروت، 1998.
[4] توتاليتارية Totalitarisme، تُستخدم المفردة لوصف الأنظمة الشمولية والاستبدادية الطغيانية، وتترجم أيضاً بالكليانية.
[5]هوركهيمر ماكس، النظرية التقليدية والنظرية النقدية، ترجمة مصطفى التاوي، مراجعة مصطفى خياطي، عيون المقالات، الدار البيضاء، ط1، 1990.
[6] هوركهيمر ماكس وتيودور أدورنو ، جدل التنوير، ترجمة جورج كتورة، ط1،بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2006.
[7] الباثولوجيا أو علم الأمراض أو المرضيات وهو فرع من فروع الطب يعنى بدراسة طبائع الأمراض والتغييرات التركيبية والوظيفية المقترنة بها، والتغييرات والتشوهات الناتجة عنها. عُمّم استخدامها في الدراسات النفسية والاجتماعية.
[8] الأداتية ونقصد بها هنا العقل الأداتي أو النزعة الأداتية حصراً في الفلسفة الاجتماعية، أو نمط التفكير الذي يعمّم العلاقات الاستعمالية التي تتيح السيطرة على الطبيعة كما الإنسان. ولقد تمعّن مفكرو النظرية النقدية في هذه النزعة الملازمة لمقولة السيطرة، ويعبّر هابرماس عن تحليل النظرية النقدية للأداتية، باعتبارها تعبيراً عن التشظي والانكسار والانحراف الأنطولوجي الذي أصاب المجتمعات الحديثة.
[9] التشيّؤ Réification، أي تحوّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء.
[10] الاغتراب Aliénation، حالة سيكو - اجتماعية ووجودية ينزلق إليها الفرد فيصير غريباً عن ذاته وحقيقته وفرديته.
[11] هابرماس يورغن، ما بعد ماركس، ترجمة محمد ميلاد،دار الحوار،الطبعة الأولى،2012.
[12] النصوصية بمعنى التمسّك بحرفية النص الماركسي، ويعبّر عن هذه النزعة أيضاً بالأرثوذكسية أو الصراطية الماركسية.
[13] ماركوزه هربرت، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط3،1973.
[14] أنظر كتاب المسيري عبد الوهاب، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر، دمشق، 2002. والمسيري عبد الوهاب، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مكتبة الشروق الدولية، 2006.
[15] أمين سمير، أزمة المجتمع العربي، دار المستقبل العربي،القاهرة،1985.
[16] أمين سمير، نحو نظرية للثقافة غير أوروبية التمركز، مجلة الوحدة، ديسمبر، 1988.
[17] أمين سمير، نحو نظرية للثقافة؛ نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، معهد الإنماء العربي، بيروت، ط1، 1989.
[18] ثيمة Thema، وتعني الفكرة الأساسية أو الموضوعة أو التكوين الرئيس للنص أو الكتاب.
[19] وهو الشخصية المركزية في الأوديسة أو الملحمة الأسطورية المنسوبة لهوميروس.
[20] سعيد إدوارد، الإستشراق،المعرفة السلطة الإنشاء،ترجمة،كمال بو ديب،مؤسسة الأبحاث العربية،1978.
[21] ماركوزه هربرت، إيروس والحضارة، ترجمة: مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1988.
[22] العالم محمود أمين، ماركوزه أو فلسفة الطريق المسدود، دار الآداب، بيروت، 1972.
[23] المصدر نفسه، ص11.
[24] غصيب هشام، نقد العقل الجدلي، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2011.
[25] الوضعية هي فرع من فروع الابستمولوجيا أو نظرية المعرفة. نشأت في القرن الثامن عشر، ومؤسسها هو عالم الاجتماع أوغست كونت. تذهب هذه الفلسفة إلى أنه لا صلاحية في العلوم إلا لتلك التي تستند على الحس والتجربة.
[26] الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة. وهي فرع من فروع الفلسفة يتناول بالدرس جوهر الأشياء والمسائل الغيبية كالله والنفس.
[27] هوركهيمر ماكس، أفول العقل، أو كسوف العقل. Max Horkheimer, Éclipse de la raison, Payot, 1974
[28] هابرماس يورغن، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995، ص109.
[29] أفاية محمد نور الدين، في النقد الفلسفي المعاصر؛ مصادره الغربية وتجلياته العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2014 ص117
[30] أفاية محمد نور الدين، في النظرية النقدية: المشروع الفلسفي لهابرماس، الفكر العربي المعاصر، 2015.
[31] - هونيث أكسيل، الصراع من أجل الاعتراف؛ القواعد الأخلاقية للمآزم الاجتماعية، المكتب الشرقية، بيروت، ط1، 2015، ص155.
[32] هو أستاذ التعليم العالي في كلية العلوم الإنسانية في جامعة الجزائر، مؤلف ومترجم. مهتم بمدرسة فرنكفورت ومتخصص بنتاجاتها تأليفاً وترجمة.
[33] من كتبه : Accélération, une critique sociale du temps. Traduit de l’allemand par Didier Renault, Paris, La .Découverte, 2010 و أيضًا: Aliénation et Accélération, vers une théorie critique de la modernité tardive, La Découverte, 2012.
[34] يعدّ مفهوم الإعتراف من أهم ما يعمل عليه في مجال الفلسفة الإجتماعية المعاصرة،وهو يشهد نشاطاً تنظيرياً أنتج إلى الآن العديد من الكتب حوله، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب"الصراع من أجل الاعتراف" لأكسيل هونيث،و"مسارات الاعتراف" (2004) للفيلسوف الفرنسي بول ريكور، وكتاب"الاعتراف والتوزيع" (2011) لصاحبته المنظرة الأميريكية نانسي فريزر.
[35] بلقزيز عبد الإله، الثقافة العربية وفكرة الاعتراف، سكاي نيوز عربية، أكتوبر 2020.