كنان أدناوي.. احتفالات خصب موسيقية في دمشق
يسعى أدناوي منذ بداياته الموسيقية إلى تغيير الصورة النمطية للعود كجزء من التخت الشرقي ومرافق للغناء.
يثبت المؤلف الموسيقي وعازف العود السوري كنان أدناوي، أنه جدير بالجوائز التي حصل عليها مؤخّراً في كل من بيروت والرياض، وأن تقديم إحدى مؤلفاته الأوركسترالية على مسرح البولشوي الروسي بمشاركته على العود، ليست سوى تأكيد لمستوى موسيقاه من الناحية الجمالية والأكاديمية على حد سواء.
فمن تابع العزف المنفرد الذي قدّمه في الجزء الأول من الأمسية التي أقامها في "أوبرا دمشق"، سيلحظ كيف يندغم أدناوي مع آلته، وتصبح النوتات التي يعزفها لا تصدر فقط من أوتار العود، وإنما تنبع أساساً من صدر هذا العازف السوري ودماغه، ثم لا تلبث أن تتحوَّل بوعي كبير، واقتدار في تكنيك العزف، إلى مقطوعة منسجمة بهدوئها وصخبها، بحزنها وفرحها، وكأنها ترجمة للأحاسيس وانبجاسات الروح على اختلاف التنقلات المقامية التي تتطلَّبها الحالة الشعورية.
وما يسعى إليه أدناوي منذ بداياته الموسيقية، وتابعه في هذا الحفل، هو تغيير الصورة النمطية للعود كجزء من التخت الشرقي ومرافقاً للغناء، وتالياً التفريد بهذه الآلة وإظهار مساحاتها الشاسعة في التعبير والتصوير، بعيداً عن المفهوم التقليدي للتطريب، وإنما بتأكيد إمكانياتها غير الشائعة، وتثوير آليات العزف عليها والأصوات الصادرة عنها، وما يستتبع ذلك من تقنية ضرب الوتر بالريشة أو الأصابع، والعَفْق وتموضعاته من أول نقطة على الزند وحتى القَمْرة في بعض الأحيان.
افتتاحية "تموز" التي بدأ بها أدناوي مع الفرقة، تدخل في أجواء سحرية للأسطورة في تواؤم بين العود والكلارينيت والبيركشن، ليبدأ العود ثورته مُحفِّزاً الكمان في متتاليات لحنية متصاعدة يدعمها الإيقاع، ثم يأخذ الساكسوفون مساحته الخاصة، ولا سيما في الطبقات العالية، وبالتناغم مع الآلات الوترية والنفخية والإيقاعية تتجسّد دورة الفصول التي تمثلها الأسطورة من خلال عدة حركات بسرعات مختلفة، لنستمع إلى ما يشبه احتفالات خصب موسيقية تُعيد تخليق الميثيولوجيا السومرية بأسلوبية فريدة.
أما مقطوعة "تحية"، وهي أولى مؤلفات أدناوي عندما كان طالباً في "المعهد العالي للموسيقى"، فتبرز من خلالها طاقة روحية عالية، تتعزز بدايةً مع إيقاع المقسوم الذي يرسم خلفية اللحن الذي يشتغل فيه العود والكمان جملاً رشيقة، لا تلبث أن تتواءم من سحبات الناي الطويلة وتفريداته المميزة التي تفرض تغيُّر الإيقاع وإبطاءه، قبل أن يعود إلى حوارية مغايرة مع العود وتقسيماته تتصاعد حِدَّتُها بإشراك بقية الآلات وصولاً إلى الختام.
واستمراراً في مزاج السفر عبر الألحان، شهدت الأمسية ثلاثية جديدة بين العود مع السوبرانو ساكس والإيقاع على آلة الفخارة (أودو) تحت عنوان Travel mood، وعلى غرائبية هذا الثلاثي، إلا أن المتتاليات اللحنية أظهرت انسجاماً خاصاً، أدخل الآلة الشرقية ضمن مناخات من الجاز، وفق نوع من التوأمة الموسيقية بين آلتين بعيدتين ظاهرياً عن بعضهما، لكن أدناوي استطاع تحقيق مقاربة استثنائية بينهما لها جمالياتها العديدة، مبعداً صفة الشرقية عن العود، مصطحباً إياه إلى جغرافيات موسيقية مغايرة.
وتر إحدى مقطوعات الألبوم الذي أصدره كنان الشهر الفائت، تعطي للأوتار مجدها كما يُقال. فمن ضربات ريشة العود إلى نقرات أوتار القانون، إلى سحرية سحبات التشيللو والكمان ونقرات الكونترباص والبيانو، تخيّم أجواء من الحزن الشفيف، وكأن الوتر يعيش حالة تراجيدية من الحيرة والوَجْد يغذيها إيقاع الوحدة الكبيرة الرباعي مع نفخات الناي التي تختم المقطوعة.
نعود بعدها إلى مَوْسَقَةِ التاريخ عبر مؤلَّف "أوغاريت" الذي يبدأ بضربة من الطبل ثم يبدأ الكلارينيت بصولو فيه مشهدية مميزة، يكملها التشيللو في ما يشبه توطيد مناخ موسيقي يليق بالمملكة التي خرجت منها الأبجدية الأولى إلى كل العالم، ليأتي العود وبقية الآلات لتعزيز أبجدياتها اللحنية والاستغراق في زيادة الحيوية التي تأتي كإعادة استكشاف نغمية بتنويعات درامية تزيح النقاب عن منابع النوتة الموسيقية الأولى في التاريخ، وتتيح لجماليات الأصوات أن تثبت مكانتها واستمراريتها في الزمن.
"مزاج" هو عنوان المقطوعة التي قدّمها أدناوي مع الفرقة، وتضمّنت محاولة للغوص في عمق الحالة الشعورية، عبر موسيقى هادئة وانسيابية بدايةً، لا تلبث أن تتوتر ويتسارع إيقاعها للتعبير عن الصخب الداخلي، مع المحافظة على النوتات الطويلة خاصةً للآلات النفخية التي تتقاطع بحوارية فرحة بين العود والإيقاع، تتصاعد دراميتها مع اندغام الآلات الوترية ضمن ذاك الحوار الموسيقي، وصولاً إلى ذروة من التشاركية.
ولإتاحة المجال أوسع لارتجالات العازفين، جاءت معزوفة Before and on time التي أبرزت مهارات الموسيقيين جميعهم، وجماليات مهاراتهم وخبراتهم العالية في التعامل مع آلاتهم، ضمن جو من تأكيد أهمية الزمن في الموسيقى، وحيوية اللعب بتوليفات أدائية مميزة، حققت تفاعلاً فريداً بين العازفين وجمهور "أوبرا دمشق" الذي واكب كل واحدة من الارتجالات بالتصفيق الحار كعربون للمتعة التي وصلتهم طيلة فترة الأمسية التي امتدت لساعة ونصف الساعة من الزمن.
وشارك أدناوي في الحفل كلّ من عبد الجواد حريتاني على التشيللو، غطفان ادناوي على الكمان، ليلى صالح.. كونترباص، وعلى الفلوت آني إبراهيميان، وبيانو إياد جناوي، وهارب رهف شيخاني، وعلى الساكسوفون دلامة شهاب، وديمة موازيني على القانون، كمي مرشد على آلة الناي، وفي الإيقاع كلّ من سيمون مريش وعلي أحمد.