"كلوا واشربوا".. أي سعادة يمنحنا الطعام؟
من السعادة الشخصية إلى وعود الآخرة وصولاً إلى المجتمع والأدب.. ما دور الطعام في حياتنا؟ ولماذا نبتهج عندما نأكل؟
"تظهر الأمهات الصينيات حبّهن لأطفالهن، ليس عبر العناق والقبلات، بل من خلال أحشاء البط وسرطان البحر"، ايمي تان، روائية أميركية.
***
يقول الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689 - 1755) إن: "هناك ثلاثة أشياء مهمة في الحياة. الأول هو الطعام. أما الإثنان الباقيان فلم أجدهما بعد".
قد يكون مونتسكيو يبالغ قليلاً في تجاهل ضرورات الحياة الأخرى، لكن من المؤكد أنّ الطعام هو من أفضل النعم على الإنسان، وحب الأكل هو الحب الأول والحقيقي لأي إنسان مهما علا شأنه.
فأنت مهما كنت حزيناً وذابلاً من الداخل، ومهما حطمتك هموم الحياة اليومية واجتمعت عليك الفتن والبلايا والمحن والرزايا، يكفي أن تتناول بضع لقيمات من طبقك المفضل أو قضمة من شطيرتك اللذيذة أو ارتشاف جرعة من مشروبك المميز حتى يتحسن مزاجك على الفور. فما سر ارتباط الطعام بالسعادة والبهجة؟ لماذا نبتهج إلى هذا الحد عندما نأكل؟
كيمياء السعادة.. الطعام والسيروتونين
إذا كان الطعام، وقبل كل شيء الطعام الجيد، حاجة حيوية للجسم، فهو أيضاً متعة لحواس الذوق والشم واللمس والبصر التي تستيقظ جميعها عندما نأكل. يؤكد علماء البيولوجيا والكيمياء أنَّ السعادة مقترنة بإنتاج مواد كيميائية أهمها مادة السيروتونين. يستخدم دماغنا السيروتونين لتحسين مزاجنا ورفع معنوياتنا، بالإضافة إلى تنظيم نومنا وتخفيف شعورنا الألم.
ولكن مادة السيروتونين هذه لا تأتي من العدم، فصناعتها داخل الخلايا العصبية تتم عبر استخدام الأحماض الأمينية الناتجة من هضم الطعام، وخاصة اللحوم والأجبان والمكسرات والموز والديك الرومي لغناها بالفيتامين "ب" وبحمض "التربتوفات" الذي يتحول إلى سيروتونين داخل أدمغتنا.
هناك ناقل عصبي رئيسي آخر يساعد على تنظيم الحال المزاجية واستقرارها وخفض القلق والتوتر، وهو حمض جابا أمينوبوتيريك (GABA)، المعروف باسم "الفاليوم" الطبيعي بسبب آثاره المهدئة على الجسم والأعصاب. ولكي نحصل على هذا المهدئ الطبيعي لا بدّ لنا من أن نتناول طعاماً غنياً بالغلوتامين الذي يُعتبر اللّبنة الأساسية لبناء حمض الــ (GABA) وهو متوافر بمستويات عالية في لحوم البقر وبذور السمسم وعباد الشمس واللوز والجوز.
تظهر الدراسات النفسية أنَّ الأطعمة التي تسبب لنا الراحة مرتبطة بشكل أو بآخر بالحنين الى ماض بهيج قد انقضى. ويحكي مارسيل بروست كيف أن تذوقه لقطعة حلوى صغيرة بعد سنين طويلة من الانقطاع، أعادت إليه ذكريات الماضي العذب مع والدته وعمته.
ولكن، هناك فرق كبير بين الأطعمة التي تحتوي على مُركبات بإمكانها أن تؤثر في كيمياء الدماغ، وبين تلك التي تجعلنا نشعر بالرضا بسبب ارتباطها بذكريات سعيدة.
وتظهر الدراسات النفسية أنَّ الأطعمة التي تسبب لنا الراحة مرتبطة بشكل أو بآخر بالحنين الى ماض بهيج قد انقضى.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنَّ طعام الراحة يختلف من شخص إلى آخر تبعاً للتجربة الفردية لكل إنسان. فكل شخص منَّا لديه طبقه المميز برائحته ومذاقه الذي يعيد إليه ذكرى أيام فاتنة ولَّت، أو أطياف أشخاص أعزاء يسكنون في سويداء القلب.
لعل ما قدمه الكاتب الفرنسي مارسيل بروست (1871 - 1922) مع كعكة المادلين la petite madeleine، كان من بين أفضل ما كُتِب عن ارتباط الذاكرة اللا إرادية للإنسان بالطعام. إذ يحكي لنا بروست في رواية "البحث عن الزمن المفقود"، كيف أن تذوقه لقطعة حلوى صغيرة بعد سنين طويلة من الإنقطاع أعادت إليه فجأة ذكريات الماضي العذب في الريف الفرنسي مع والدته وعمته ليوني.
تختلف الأطعمة المريحة نفسياً وفقاً للجنس، وتؤكد دراسة أنّ النساء يملن للبحث عن الراحة في الأطعمة الغنية بالسكر، بينما يتجه الرجال عادة نحو شرائح اللحم والحساء.
وكذلك رؤية سلة مليئة بالخضار مُرسلة من القرية واستنشاق رائحة مناقيش الزعتر جعلت الكاتبة اللبنانية كارمن بستاني تتذكر الزمن الماضي السعيد والأطباق الشهية من الباذنجان التي كانت تعدها لها والدتها.
المثير للاهتمام أيضاً أنَّ الأطعمة المريحة تختلف وفقاً للجنس، حيث تؤكد دراسة أجريت في جامعة كورنويل عام 2005 أنّ النساء يملن للبحث عن الراحة في الأطعمة الغنية بالسكر، بينما يتجه الرجال عادة نحو شرائح اللحم والحساء.
في المقابل، فإن نقص بعض الأطعمة - أو على الأقل بعض مكوناتها الأساسية - يمكن أن يجعلك حزيناً ومكتئباً. فقد كشفت دراسة أجراها "معهد فرانكلين" حقيقة أن البلدان في أميركا الشمالية وأوروبا التي لا تأكل الكثير من الأسماك، تعاني من معدل انتشار مرض الاكتئاب بين سكانها عشر مرات أكثر من تايوان، حيث الأسماك هي عنصر أساسي في النظام الغذائي الشعبي.
الطعام لإبهاج السجناء
من يُشكك في قدرة الطعام على إسعاد المرء وإشاعة البهجة في نفسه، فعليه أن يعود إلى التاريخ ويتعلم من معتقلي سجن الباستيل. هذا السجن الفرنسي الشهير لم يكن مخصصاً للفقراء، وقد سُجن فيه العديد من الشخصيات المرموقة.
ولجأ هؤلاء السجناء لكي يُرفهوا عن أنفسهم خلال أسرهم الطويل إلى المأكولات اللذيذة، فأحضروا إلى زنازينهم كلّ ما تشتهيه أنفسهم.
ورد على لسان عيسى المسيح وعده لتلاميذه بأنه سيشرب الخمر معهم في ملكوت الله الجديد، وذلك بعد أن يدين الله العالم ويحاسب البشر في يوم القيامة.
الروائي الفرنسي الماركيز دو ساد (وفقاً لكتاب "انتصارات وإخفاقات التغذية" لجان - لويس شلينجر ولويس مونييه)، الذي كان ضيفاً لامعاً في هذه القلعة، جلب معه النقانق، والكمأ، والبيض الطازج، والكثير من الخضار، إضافة إلى كريمات الشوكولاتة والعديد من المربيات.
ولكم أن تتخيلوا مفاجأة ثوار 14 تموز/يوليو عام 1789 عندما قاموا باقتحام السجن الأسطوري ليجدوا احتياطات طعام هائلة مخصصة للسجناء ذوي الرتب العالية! يبدو أنَّ الشدائد في فرنسا لا تُثبط الشهيّة على الإطلاق!
وعد الآخرة.. "كُلُوا وَاشْرَبُوا هنيئاً"
يعلم المؤمنون من أتباع العديد من الديانات أنّ السعادة بعد الموت مرتبطة أيضاً بالطعام اللذيذ، حيث الجنة تحفل بما لذّ وطاب من المآكل والمشارب.
فها هو القرآن الكريم يقدم لنا آيات عديدة عن إغراءات الطعام التي سيستمتع بها المؤمنون الذين صبروا في هذه الحياة وكافحوا وأطاعوا الله. وجاء في الآية 24 من سورة الحاقة "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ".
أما في المسيحية فقد ورد على لسان عيسى المسيح وعده لتلاميذه بأنه سيشرب الخمر معهم في ملكوت الله الجديد، وذلك بعد أن يدين الله العالم ويحاسب البشر في يوم القيامة، إذ قال المسيح لتلاميذه: "أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدَ الْيَوْمِ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هَذَا حَتَّى يَأْتِيَ الْيَوْمُ الَّذِي فِيهِ أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي". مرقس [14: 25]
هكذا تتطلع أفئدة وبطون العابدين الخاشعين بلهفة إلى جنان الخلد، حيث الثمار اللذيذة والفاكهة ولحوم الطيور الشهية والخمر وأنهار العسل واللبن. ولذلك ما على المؤمن إلا مجاهدة نفسه الأمّارة بالسوء حتى يستمتع في الآخرة بكل هذه الطيبات.
ويعتبر الطعام كذلك من وسائل التقرب إلى الله: في عيد الأضحى مثلاً، يذبح المؤمنون الخراف ويقدمون لحومها للفقراء كي يشعروا هم أيضاً بفرحة العيد.
أما كفارات الذنوب المختلفة، فتنص عادة على إطعام الفقراء والمساكين، وهذا ما يعزّز من قيمة الغذاء في الحياة، ويشجع على تعميمه وتوزيعه وعدم احتكاره.
"خبز وملح".. الطعام لعلاقات أسرية سعيدة
للغذاء ميزة مهمة أيضاً وهي قدرته على خلق الأواصر الاجتماعية وتعزيزها، فهل نتخيل حفلة أو مناسبة عائلية من دون وليمة؟
الطعام حاضر دائماً في كل الأفراح والأعراس والمناسبات وهو وسيلة للتآزر الاجتماعي وتمتين روابط الصداقة والعلاقات المهنية.
إنَّ تناول أفراد العائلة لوجبة الفطور أو الغداء أو العشاء معاً، هو من أكثر الأمور المقويّة لشعور الإنسان بالجماعة والارتباط بالآخرين؛ كما أنه يحقق لدى الفرد نوعاً من الاسترخاء النفسي والشعور بالغبطة والسرور بحكم تبادل أطراف الحديث الذي يتخلله المزاح والدعابة.
ويشير المثل الشعبي الشهير "بيننا خبز وملح" إلى دور تشارك الطعام في الحدّ من تصعيد الضغائن والبغضاء والعداوة ويوفر أجواء التفاهم والتسامح والاحترام المتبادل.
الأُمّ التي تستثمر وقتها في الطبخ لعائلتها لا تفعل ذلك بسبب الواجب، بل لكي تزيد من لُحمة الأسرة. ويتحول تحضير الطعام من واجب ثقيل إلى هدية ثمينة يقدمها الأهل للأولاد، احتفاء وتأكيداً على الرباط العائلي المقدس وتأسيساً لمستقبل مشترك.
وإذا عدنا إلى تاريخ شبه الجزيرة العربية، نجد أنّ العرب مدحوا البشاشة والترحيب بالضيف ودعوته إلى المائدة. ومن ينسى فضل الرجال الأسخياء أمثال حاتم الطائي الذي ذبح ناقته الوحيدة لإكرام ضيوفه وإدخال البهجة على قلوبهم؟
تخلص دراسة لعالم الاجتماع الفرنسي جان كلود كوفمان نشرت عام 2005، إلى أنّ الطبخ والأكل معاً يوطدان الأواصر العائلية. وأن الأُمّ التي تستثمر وقتها في الطبخ لعائلتها لا تفعل ذلك بسبب الواجب، بل لكي تزيد من لُحمة الأسرة.
هكذا يتحول تحضير الطعام من واجب ثقيل إلى هدية ثمينة يقدمها الأهل للأولاد. وتحتفي هذه الهديّة بالرباط العائلي المقدس وتؤدي إلى تأسيس مستقبل مشترك على أرض صلبة.
ويؤكد السوسيولوجي الفرنسي كلود فيشلر أن استهلاك الطعام يتميز بشيء حميمي للغاية، ولا عجب في ذلك، لأننا عندما نتناول طعاماً معيناً فهذا يعني هضمه في الجزء الأكثر حميمية من أنفسنا.
علاوة على ذلك، من الضروري وجود علاقة ودِّية معينة مع شخص ما لكي نستطيع مشاركته وجبة الطعام، فنحن لانأكل مع أعدائنا، بل مع أشخاص نحبهم ونشعر بالارتياح لوجودهم.
"كالماء للشوكولاتة".. أو الطعام بوصفه مادة روائية
رأى الأدباء الدور العظيم للطعام فلجأوا إلى تصوير الوجبات والاجتماعات حول الموائد، وقدّموا لنا كتباً لذيذة تُسيّل اللُعاب.
لم يجعل الروائيون الطعام مجرد ديكور بسيط أو مجرد ترف سردي لإضفاء الواقعية على قصصهم، بل العكس، استغلوه روائياً بهدف إبراز العادات والتقاليد المجتمعية والصراعات الطبقية للبيئة التي تعكسها الرواية.
إنّ اختيار نوع المأكولات في الرواية وأسلوب تناول الشخصيات للأطعمة، يكتنز تمثيلات ثقافية عديدة ويعكس الشروخ الاقتصادية بين مختلف الفئات الشعبية، كاشفاً عن أحاسيس ورغبات الشخصيات الدفينة.
في هذا السياق، نذكر رواية "كالماء للشوكولاتة" للمكسيكية لاورا إسكيبيل (1989)، والتي تعد من أفضل الروايات التي تناولت موضوع الطعام وعلاقته بالمشاعر الإنسانية.
وتدور أحداث الرواية في بداية القرن الـ 20 في المكسيك وسط حرب أهلية طاحنة. تيتا، الابنة الصغرى لسيدة متسلطة تدعى ماما إيلينا، تعشق الشاب بيدرو الذي عندما التقت عيونهما للمرة الأولى، شعرت بإحساس "عجين الزلابيا حين يلامس الزيت المغلي".
لكن تيتا ممنوعة من الزواج من حبيبها بسبب التقاليد البالية التي تفرض على الابنة الصغرى البقاء عازبة للاعتناء بوالدتها فتخسره لمصلحة شقيقتها سارة.
اختيار نوع المأكولات في الرواية وأسلوب تناول الشخصيات للأطعمة، يكتنز تمثيلات ثقافية عديدة ويعكس الشروخ الاقتصادية بين مختلف الفئات الشعبية، كاشفاً عن أحاسيس الشخصيات ورغباتها الدفينة.
تلجأ تيتا إلى المطبخ لكي تهرب من الجحيم الذي تعيش فيه ويصبح الطهي وسيلتها للتعبير عن ذاتها، فتبدأ بإظهار مواهبها الفذة. تسعى تيتا كلّ يوم إلى تقديم وصفات مختلفة، فكل مناسبة لها طبقها المميز وكل شهر في السنة له تحضيراته الخاصة.
وتقوم بطلة الرواية بإعداد هذه الوصفات بطرق فنيّة، ونتابع نحن كقراء، تأثيرات إبداعاتها على عواطف الشخصيات ومشاعرها من فرح وحزن وإثارة.
ونذكر مثلاً لحظة تقديم تيتا وجبة "طير السمان مع بتلات الورد" لأفراد عائلتها حيث يُصاب جميع الحاضرين بحال عاطفية جامحة لا يمكن السيطرة عليها. تجعلنا هذه الرواية نكتشف سحر التوابل والنكهات والعطور والألوان وسحر العشق، سحر الدموع، وسحر الشرارة النهائية.
عشاق الطعام السعيد سيجدون ضالتهم أيضاً في رواية "شوكولا" (1999) للكاتبة البريطانية جوان هاريس التي تحولت لاحقاً إلى فيلم من بطولة جولييت بينوش وجوني ديب. تصل البطلة فيان روشيه وابنتها إلى قرية صغيرة في الريف الفرنسي وتفتتح متجر شوكولا "سيليست برالين" الذي تفوح منه رائحة السكر والشوكولاتة.
يثير قدوم فيان، وهي امرأة غير متدينة،ضجة عارمة في القرية الهادئة ويهدد وجودها القس المتزمت فرانسيس.
لكن فيان تنجح بفضل الحلوى الرائعة التي تُعدّها في جذب القلوب إليها، فهي تنشر الحبور بين السكان بفضل قطع صغيرة من الشوكولا المُعتقة بالفلفل البريّ الحلو المذاق.
فيان،التي تعلمت من والدتها إعداد الجرعات المناسبة للشوكولا، تتمكن من تحقيق نجاح مذهل مستعينة بنكهات الفانيليا والقرفة وثمرات البندق. تستطيع فيان في نهاية الرواية أن تنتصر على الاتجاه القمعي المتمثل بالكنيسة وتفوز بإعجاب أهل القرية وحب رجل حياتها.
اقرأ أيضاً: لماذا لم تتخلَّ الشعوب عن فوائد القرفة منذ 2000 عام؟
ولا بد لنا من ذكر رواية "عاشقة التوابل" (2006) التي تحكي عن فتاة هندية تدعى تيلو. تدربت تيلو على فنون تحضير التوابل القديمة خلال إقامتها على جزيرة نائية. تسافر تيلو في ما بعد إلى الولايات المتحدة حيث تفتتح كشكاً صغيراً لبيع التوابل وتنجح في عملها بسبب قدرتها على تخمين نوع البهارات المناسب لكل زبون، ما يمنحه الاتزان النفسي والجسدي والإحساس بالفرح والانشراح. تعتمد تيلو خلطات غريبة من الثوم والكركم والفلفل والحلبة والكزبرة لتعديل مزاج زوار متجرها.
أما في الأدب العربي، فجميع عشاق المطالعة شُغفوا بصوت دقات العجين عند بزوغ الفجر في ثلاثية نجيب محفوظ (1956). هذه الدقات هي إيذان ببدء نهار جديد في عائلة أحمد عبد الجواد، حيث يستيقظ أفرادها من نومهم ويستعدون لتناول الفطور اللذيذ المؤلف من المُدَّمس المقلي بالسمن والبيض والجبن والليمون والفلفل المخللين والشطة.
رغم المنظر البهيج للطعام الذي تعده الأمّ، يقاوم الأولاد الإغراء وينتظرون والدهم السيد أحمد المتسلط أن يعطيهم الأمر ببدء الأكل. جميع قراء الثلاثية تلهفوا على تذوق الحلويات والطواجن التي تعدها أمينة بمهارة وتناول الشركسية التي أثارت خلافاً حاداً بين خديجة وحماتها.
كل من قرأ رواية "بين القصرين" تمنى أيضاً رؤية حجرة الفرن التي تطهو فيها أمينة الطعام "لما تتزين به من مباهج المواسـم عند حلولها حين تتطلع إليها القلوب الهاشة لأفراح الحياة، وتتحلب الأفواه لألوان الطعام الشهية التي تقدمها موسماً بعد موسم كخشاف رمضان وقطائفه وكعك عيد الفطر وفطائره".
تستثمر بعض الروايات ثيمة الطعام للتعبير عن الحب المستحيل وتخطي خيبات الحياة المريرة كرواية "برتقال مر" (2015) للبنانية بسمة الخطيب. تلجأ البطلة مي، التي عانت طوال حياتها من التنمر والقسوة بسبب فقرها ويُتمها ومظهرها العادي مقارنة بأخواتها الفاتنات وخالتها الخارقة الجمال، إلى الطبخ لإثبات ذاتها وموهبتها.
تدور لعبة السرد حول استعداد البطلة للقاء الحبيب بعد موعد طال انتظاره، فتُحَضّر له وليمة شهية مؤلفة من مغربية وكبة بنكهة المردقوش وحلوى المغلي التي تتقن صُنعتها بشهادة نساء القرية. تزاوج الروائية بين ماضيها في القرية الذي تفوح منه عطر زهرة النارنج وحاضرها البيروتي، وتقص علينا ذكرياتها الأليمة وسطوة المجتمع اللبناني الذكوري وقسوة أمها وحنان جدتها التي ربتها.
لا بد من الاعتراف بأنّ جزءاً كبيراً من سعادة المرء يكمن في الطعام اللذيذ والصحبة الجميلة. الطعام هو شغف وعشق لا ينتهي وقد يلجأ إليه البعض لحل أزماتهم العاطفية.
المصادر والمراجع
1. «Can food make people happy? » https://science.howstuffworks.com/life/inside-the-mind/emotions/food-happiness.htm
2. Ibid
3. Marcel Proust, A la recherche du temps perdu, Gallimard, 1913
4. Carmen Boustani, La Guerre m’a surprise à Beyrouth, Paris, Karthala, 2010.
5.«Can food make people happy? » https://science.howstuffworks.com/life/inside-the-mind/emotions/food-happiness.htm
6. Jean-Louis Schlienger, Louis Monnier, Heurts et malheurs de l’alimentation, Armand Colin, 2013.
7. Jean-Claude Kaufmann, Casseroles, amour et crises. Ce que cuisiner veut dire. Paris, A. Colin, coll. Individu et société, 2005, 346 p.
8.Claude Fischler, «Le complexe alimentaire», in Communications, 56, 1993, Le gouvernement du corps, pp.207-224
9. Laura Esquivel, Comme l’eau pour chocolat, Transworld, 1993.
10. Joanne Harris, Chocolat, Hardback, 1999.
11. Chitra Banerjee Divakaruni, La maîtresse des épices, Editions Philippe Picquier, 2002.
12. نجيب محفوظ، بين القصرين، دار القلم، 1973
13. بسمة الخطيب، برتقال مر، دار الآداب، 2015