كامو تحت مجهر إدوارد سعيد وطه حسين والجزائريين
"تمثيل للدعاية الاستعمارية"و"ثرثار".. كيف تعاطى إدوارد سعيد وطه حسين مع ألبير كامو؟
حلت في 7 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري الذكرى الـ 109 لميلاد الأديب الفرنسي ألبير كامو، الذي كانت مأساته، وربما لا تزال حتى اليوم، غير الطفولة السيئة في بلكور بالجزائر العاصمة، أنّه كان ينتمي إلى المستعمِرين الأصليين والمستعمَرين بالظروف الاجتماعيّة، كما يقول الكاتب والشاعر الجزائري أرزقي مترف.
لذا، نجد أغلب الدراسات المكتوبة حول أدب كامو، تتناول صورة الجزائر أو العربي أو الآخر إجمالاً في اثنتين من أشهر رواياته، هما "الغريب" و"الطاعون".
على الطرف الآخر، تناول المفكر إدوارد سعيد هذه المسألة بشيءٍ من التفصيل في كتابه "الثقافة والإمبريالية" بعنوان "كامو والتجربة الاستعمارية الفرنسية"، كما كان للأديب المصري طه حسين رأي مختلف في كامو، الشهير بأدب التمرد، والذي لا يزال يثير جدلاً بين المثقفين الجزائريين.
عن صاحب أدب التمرّد
يمكن اعتبار ألبير كامو، الجزائري الفرنسي، والمتَّهم في كلٍّ منهما، ظاهرةً فلسفية وأدبية وثقافية ندر وجودها في العالم. صحيحٌ أنّ الظروف، مُضافة إلى جهده ودأبه من أجل الشهرة والمجد، ساعدت في ذلك، إلا أنّ أصوله المختلطة كذلك جعلته يتوقف في أعماله عند مشكلات الهوية، وهي التي منحته أن يكون ثاني أصغر حاصل على نوبل للآداب، عام 1957 قبل ثلاث سنوات من وفاته، في حادث سيارة، من دون "تمرد" ولا "مقاومة"، ما عده الدارسون دليلاً على صدق فلسفته التي تنادي باللامعقول، لا سيما عبد الرحمن بدوي في كتابه "دراسات في الفلسفة الوجودية" الذي يقدّم فيه حياة كامو منذ الولادة.
إلى جانب ذلك، فإنّ كتباً كثيرة دونت لشرح فلسفة كامو وأدبه، بعيداً من صورة "الآخر" فيها. نذكر منها كتاب جون كروكشانك "ألبير كامي وأدب التمرد" الذي ترجمه جلال العشري للهيئة المصرية العامة للكتاب، وربما هو الكتاب الوحيد الذي كُتب عن كامو في حياته، إذ صدرت طبعته الأولى عام 1959.
نذكر كذلك كتاب عبد الغفار مكاوي "ألبير كامي، محاولة لدراسة فكره الفلسفي" وكتاب سوزان عبد الله إدريس عن وزارة الثقافة السورية "مشكلة الإنسان في فكر ألبير كامو"، ولا بد أن يكون هناك كثير غير هذه الكتب، منها كتاب رونالد أرونسون الذي صدر عن سلسلة "عالم المعرفة" بعنوان "كامي وسارتر" (ترجمه شوقي جلال)، ويوضّح ويصوّب كثيراً من علاقة هذين الرجلين اللذين استوليا على القرن العشرين فلسفياً وفكرياً وأدبياً، أهمّها رفض كامو لوجودية سارتر، ومحاولته طوال حياته ألّا يكون ظلاً له ولا منتمياً إلى فكره. إذ هكذا كان يراه الناس، إضافة إلى دعوة كامو سارتر إلى الاشتراك في المقاومة. يفصل الكتاب علاقة الفيلسوفين التي استمرت بضع سنين ثم انتهت بالقطيعة لجملة من الأسباب، ثم تشوّهت صورة كامو قليلاً.
إدوارد سعيد: كامو تمثيل للدعاية الاستعمارية الفرنسيّة
وُلد ألبير كامو عام 1913 في قرية موندوفي، أمّه عاملة بيوت إسبانية وأبوه مراقب لأقبية حفظ الخمور، لكنه صار المؤلف الوحيد من الجزائر الفرنسية الذي يمكن أن يُعد بتسويغ تام مؤلفاً ذا مقام عالمي.
كتب إدوارد سعيد أنّ كامو على قدر بالغ من الأهمية في سياق الاضطراب الاستعماري البشع الناتج من مخاض تفكيك الاستعمار الذي مرّت به فرنسا في القرن العشرين، لكنه لا يزال باقياً اليوم بوصفه كاتباً "كوني النزوع" تضرب جذوره في عملية استعمارية صارت الآن نسياً منسياً. إنّ أكثر الأوصاف اقتباساً من قبل الكتّاب والباحثين في قضيّة كامو كان قد وصفه إدوارد سعيد: "رجل أخلاقي في موقف لا أخلاقي".
ما أراد سعيد فعله في هذه الدراسة هو معاينة قصص كامو كعنصر في الجغرافية السياسية الفرنسية للجزائر. إنّ كتابات كامو، وفقاً لصاحب "الاستشراق"، مفعمة بحساسية استعمارية متأخرة تأخراً فائقاً، بل إنها بطريقة ما حساسية مشلولة، كذلك بالنسبة إليه فإنّ المفارقة اللاذعة تكمن في أنّ كامو حيثما يسرد قصة في رواياته أو في مقطوعاته الوصفية، فإنّ الحضور الفرنسي في الجزائر يُصاغ إما كسردية خارجية، كأنه جوهر لا يخضع للزمان أو التأويل، أو بوصفه التاريخ الوحيد الجدير بأن يُسرَد كتاريخ.
يستخلص سعيد أنّ أعمال كامو، ممثلة في "الغريب" و"الطاعون" و"المنفى والملكوت"، تمثل المستعمِرين المستوطِنين وهم يكتبون لجمهور فرنسي يرتبط تاريخه الشخصي ارتباطاً لا فكاك منه بهذه الدائرة الجنوبية من فرنسا، أي الجزائر.
أما مراسيم التواشج مع الأرض المستعمَرة، في أعمال كامو المذكورة، فيقوم بأدائها مرسو في الجزائر (رواية الغريب)، وتارو وريو داخل أسوار وهران (رواية الطاعون)، وجانين خلال ترقّب خاشع في صحراء (المنفى والملكوت).
ويختم سعيد بالقول إنّ محدوديات كامو وإخفاقاته تبدو شالة بشكل غير مقبول، لأنه كان أمامه دائماً البديل الأصعب والأشد تحدياً المتمثل أولاً في محاكمة احتلال فرنسا للأراضي والسيادة السياسية ثم في رفضهما.
لقد عد سعيد إذن أعمال كامو تمثيلاً للدعاية الاستعماريّة الفرنسيّة فيما يتعلق بالجزائر. مرسو يقتل عربياً، لكن هذا العربي ليس له اسم ويظهر بلا تاريخ وبوضوح بلا أب أو أم.
كامو تحت مجهر طه حسين: ثرثار
لــ "عميد الأدب العربي" طه حسين رأي مختلف في كامو قاله جهاراً قبل عقود في لقاء تلفزيوني مع الإعلامية ليلى رستم إلى جانب عدد من قامات مصر الأدبية والفكرية.
ومما قاله حسين آنذاك أنّ كامو لم يكتب في حياته قصصاً طبيعية فيها من مواصفات الأدب ما يمكن اعتباره أدباً، باستثناء روايته "الغريب"، وما عدا ذلك في سائر نتاجاته لم يكن سوى شخص ثرثار، لا يدري ما يقول.
ويخصص صاحب "الأيام" كذلك صفحات قليلة من كتابه "نقد وإصلاح" لقول رأيه في "قصة تمثيلية" لكامو اسمها خطأ التقدير، ويكتب عن كامو أنه "أحد هؤلاء الأدباء المتشائمين الذين أخذ عليهم التشاؤم نفوسهم من كل أقطارها، وهو قد واجه قرّاءه في أواخر الحرب الثانية وفي أعقابها بمذهبه الفلسفي المشهور، مذهب العبث..".
كامو تحت مجهر الجزائريين
لمناسبة مرور 50 عاماً على رحيل كامو، دعت أطراف من فرنسا والجزائر للمشاركة في قافلة تجوب الساحل الجزائري وتضم شخصيات ثقافية جزائرية وفرنسية.
كانت غاية القافلة تقديم كامو كرمز للتسامح والذاكرة المشتركة، إلا أنّ مناهضة نخبة من المثقفين والسياسيين أدت إلى إلغائها.
يتبنى عدد من مثقفي الجزائر رأي إدوارد سعيد في كامو، لا سيما أستاذ الفلسفة محمد نور الدين جباب الذي يقول: "لا يستطيع ناقد -مهما كبر شأنه- أن يفضح النزعة الاستعمارية والعنصرية المبثوثة في نصوص ألبير كامو مثلما فعل إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية".
إنّ حبّ كامو للجزائر، كما يراه عديدٌ من المثقفين الجزائريين، هو جزء من الولاء للمشروع الكولونيالي القائم على أن الجزائر قطعة من فرنسا. مع ذلك، رأى الكاتب ياسين سليماني آنذاك أنّ هذا النقاش بمجمله بمثابة فشل للنخبة المثقفة في الجزائر.
لا يمكن أن يغفر الجزائريون معارضة كامو لاستقلالهم، إلى جانب عدد من المقولات في أعماله، منها أنه دعا الجزائريين في مقالاته ورواياته عرباً، وهو بذلك جرّدهم من أيّ هويّة، أو انتماء قومي.
إنّ رسالة من صديق كامو، الروائي الأمازيغي مولود معمري، بعد صدور رواية "الطاعون" تؤكد ذلك، حيث جاء فيها: "قرأت رواية الطاعون وكان لديّ انطباع بأنني فهمت كتابك كما لو أنني لم أفهم كتبك الأخرى، لكنني آسف أن من بين جميع الشخصيات، ما من مواطن أصلي وأنّ وهران تبدو لك مثل مقاطعة فرنسيّة عاديّة. هذا ليس عتاباً، لقد ظننت فقط لو لم تكن هذه الفجوة بيننا، كان من الممكن أن تعرفنا بشكل أفضل وتشعر بأنّك قادر على التحدّث عنّا بالكرم نفسه الذّي تقدره جميع الشخصيات الأخرى، ما زلت أشعر بالأسف لأنك لا تعرفنا جيداً بما فيه كفاية وأنّه ليس لدينا من يفهمنا ويساعدنا على فهم أنفسنا".
إنّ أغلب آراء المثقفين الجزائريين يمكن أن تتلخص فيما كتبه الروائي واسيني الأعرج: "يا للأسف، كل هذه القوة وهذه الطاقة الخلاقة غيبتها الخيارات اللاحقة لألبير كامو عندما أصبح صوت الجزائر الأخرى جزءاً من المنظومة الثقافية الباريسية في ذلك الوقت. فجأة، سكت الطفل الإسباني/الجزائري الفقير بسبب انتصار ألبير كامو الآخر، الذي أصبح صوتاً فرنسياً ثقافياً كبيراً يدافع عن جزائر متعددة تحت راية الاستعمار الفرنسي، جعلها اندلاع الثورة التحررية، غير ممكنة، بل بلا معنى".
على الطرف الآخر، يعاني هذه الأيام المؤرخ الفرنسي من أصل جزائري، بنجامين ستورا، معاناة كامو نفسها، لا سيما بعد أن كلفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إعداد تقرير حول "تاريخ الاستعمار وحرب الجزائر".
كتب المؤرّخ عام 2013 كتاباً عن كامو عنوانه "كامو المحترق" وضّح فيه ما قد تجهله شريحة واسعة من الجزائريين اليوم عن كامو، بحسب تعبير الكاتبة فائزة مصطفى، في مقالٍ حديث لها عنوانه "ألبير كامو، الغريب الوحيد والخاسر الأكبر" وتتبنى فيه وجهة نظر مختلفة عمّا سبق.