كازانتزاكيس: لن تجدوا الأمن هنا فخلفكم جموع من العرب السمر الأشداء
لم يُمنح كازانتزاكيس جائزة نوبل عقاباً له على أفكاره ورؤيته للصهيونية، وتبشيره في وقت مبكّر بنهاية حلمها على أرض فلسطين.
اعتدنا في بلاد العرب أن نطلق على الروائي العالمي اليوناني، نيكوس كازانتزاكيس، ولكن صديقنا الشاعر والمترجم والسيناريست ممدوح عدوان كان يُعدّل الاسم باستمرار إلى نيقوس قازانتزاقي، وخاصة بعد أن ترجم عمله السيري "خطاب إلى غريكو".
عمّ اسم كازانتزاكيس، بالإذن من صديقي ممدوح عدوان، أرجاء العالم، لا سيّما بعد نشر روايته "زوربا اليوناني"، ونقلها إلى السينما في فيلم من إخراج القبرصي اليوناني مايكل كاكويانيس عام 1964، ومن بطولة الفنان أنطوني كوين، ورقصه اليوناني كلما ضاقت الحياة عليه، وفي عينيه، فهو ابن الطبيعة، قل: الحياة البسيطة العميقة. ولذا فهو يعلّم الأستاذ المثقف الرقص والتحرر من تزمته وانغلاقه، وقد جعله الموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس يُرقّص العالم معه في موسيقاه للفيلم التي رقص على إيقاعها أنطوني كوين (زوربا) وسيمفونيته التي طغت على كل تراث ثيودوراكيس الموسيقي، والتي استمتعت بروائعها طوال 4 أيام قضيتها مشاركاً في احتفالية تكريم ثيودوراكيس لبلوغه الثمانين، في جزيرة كريت عام 2005.
المترجمان، الشاعر محمد الظاهر وزميلته منية سماره، ترجما معاً عدداً من الأعمال الأدبية، ومنها جزء من كتاب كازانتزاكيس "ترحال"، وذلك أن هذا الجزء من الكتاب وقف على رحلة الكاتب إلى فلسطين، وتجواله في ربوعها، وكانت كلفته في الرحلة والكتابة عن مشاهداته في فلسطين صحيفة "اليغيثروس لوغوس" لتغطية احتفالات عيد الفصح عام 1926.
يبدأ كازانتزاكيس رحلته بزيارة القدس، حيث كنيسة القيامة، ومع بدء الاحتفالات، يصف ما يرى: "صباح يوم السبت المقدّس، كنت أقف عند مدخل القبر المقدس، وكانت كنيسة القيامة تطن كأنها خلية نحل عظيمة. وكان المسيحيون العرب الغائمو العيون، المنفعلون، الذين يطلقون الصيحات، يرتدون الطرابيش والجلابيب الملونة، ويتسلقون السطوح القرميدية".
ويواصل وصف المشهد: "كانت أباريق المياه الرمادية، بزخارفها العربية البرتغالية، والمشروبات الروحية، والشربات، وعصير الليمون تنتقل من يد إلى يد أُخرى، خلال هذا الجمع الذاهل الذي يخيم أمام الكنيسة" (ص 31).
يكتب كازانتزاكيس برؤيته المسيحية الشرقية المتسامحة عن زيارته لمسجد (عُمر): "طفت حول مسجد عمر، وقلبي ينبض ابتهاجاً، كطفل يقف على جرف صخري، فلم أمدّ قامتي باتجاه السماء، لأن هذه الأرض تبدو رائعة بالنسبة إلي، وهذا البلد الذي يخصني قد صُنع خصيصاً من أجل روحي وجسدي، وهذا ما حدث معي اليوم، فبعد أن أيّدت الأفكار المسيحية التي تدعو إلى ازدراء الأرض، وتركها خلفنا، وجدت مسجد عمر، هذا، يوفّق بين قلبي وروحي، ويغمرني بالهدوء. كان يتألق تحت الشمس، ويسيل أشعته الملونة التي تبعث على الفرح والسعادة، كطاووس ضخم".
ويضيف منتشياً، وكم أوّد أن ينتقل شعوره إلى نفوس القرّاء رغم بُعد الزمن: "سرت بخطى واسعة، عبر الساحة المطلة على القدس القديمة، وطفت حول هذا المسجد المهيب الرائع لعدّة ساعات" (ص 54).
هذه المنطقة من القدس، هذا المكان الذي يضم كنيسة القيامة، وعلى مقربة منها المسجد الأقصى، والشوارع والأزقة، المؤدية أو المتفرّعة، شهدت ما لا يمكن أن يُنسى من تاريخ البشرية، والكاتب برحابة روحه وسمّوها تشرب روحه قدسية المكان بشفافية ووجد، فيكتب: "على هذا الجبل، تخيلت (يهوه) وهو يقف بأنفه المنتفخ، يتقبل القرابين، ويتشمم الدماء، فهنا يرتفع معبد سليمان العظيم، ذلك الحصن الذي لا يمكن اقتحامه، للإله العنيد، آنذاك عادت إلى مخيلتي دمويته، وتاريخه الطافح بالحقد والعنف، فتخيلت مرّة أُخرى تلك الرؤوس الصلبة التي شوتها الشمس، والأنوف الخطافية المعقوفة، والجباه القاسية الضيقة، والرقاب الجامدة التي لا تتحرك، والعيون الجشعة المحروقة للجنس العبري".
وينتقل عائداً إلى مسجد عمر، منحازاً لما هو عريق وحميم وإنساني، فيكتب: "لكن، بينما كنت أتجوّل خلال هذه البالوعة الدموية (لإسرائيل)، استدرت لأرى جامع عمر يسمو أمامي تحت أشعة الشمس، مثل نافورة من الحجارة النادرة، ترقى إلى السماء، وتفور مياهها قليلاً في الهواء، ثم تدور على أعقابها متراجعة، وتعود إلى الأرض. فلم تعد لدي رغبة في مغادرة المكان" (ص 55).
ويمضي كازانتزاكيس في وصفه الحميم الروحاني، من دون قيود، أو خلفيات دينية طائفية، أو قومية ضيقة، فهو ينتمي إلى بلاد جارة لفلسطين، وهو مرتبط بحبل سرّي بها، أسوة باليونانيين والكريتيين، وهو ما يشيع في أعماله الروائية، وفي إنسانيته الرافضة للتعصب والظلم والقتل وسفك الدم. أليس هذا ما يشيعه، ويقترفه، ورثاء (يهوه) إله الدم التوراتي كما يصفه كازانتزاكيس؟ وهو الإله الذي نفر منه، وينفر من وحشيته كل من يؤمن بالرحمة والإنسانية والأخوّة بين جميع البشر؟
معبّراً عن تفكير عميق غني إنساني، يكتب: "لقد عاد الصفاء والانتعاش إلى عيني، وأنا أعبر العتبة حيث شعرت بالظلال الملونة لهذا الجامع، تغمرني في البداية، ولأنني قد قدمت من مكان شديد الضوء، لم يكن بإمكاني أن أُميّز سوى هذا الجو اللذيذ العذب الذي يظللني، ويريح نفسي. لقد أحسست وكأنني أدخل حمّاماً منعشاً، أنعش لي جسدي، ثمّ انطلق على الفور لينعش لي ذاكرتي، فأخذت أسير وأنا أنبض بالبهجة، وأرتعش أمام التوقعات. وهذه هي الطريقة التي سيعبر بها المسلمون المؤمنون ظلمة ما بعد الموت إلى جنات الله الباردة كثواب عادل لهم" (ص 56).
ينتقل كازانتزاكيس إلى أريحا، يهبط إليها قرابة 400 متر عن سطح البحر، وإذا كانت الجبال والطبيعة القاسية تستوقفه فيحكم عليها بأنها لا تناسب بشراً عاديين يريدون بناء بيوت لأسرهم، للعيش باطمئنان وراحة بال، لكنها تناسب أنبياء يرتاحون في العزلة. وبالمناسبة، هذا ما فعله السيد المسيح حين اعتزل في جبل التجربة المُطلّ على أريحا، ومخيماتها من بعد، حيث عشت مع أسرتي في مخيّم النويعمة لسنوات، فإن كازانتزاكيس يبتهج بأريحا وحقولها، ويكتب: "وفجأة، ترى أريحا تبتسم لك، كواحة معزولة، وتجد نفسك أمام بساتين الرمان المزهرة، وأشجار الموز، والتين، والتوت، وكلها محاطة بسياج من أشجار النخيل الطويلة الرشيقة، وتستمتع بالأشعة الأيونية الخلابة، وينابيع المياه المتفجرة، فترتاح عيناك، ويشعر جسمك بالراحة والتجدد، ولكن هذه الواحة سرعان ما تختفي، وتبتلعها الرمال" (ص77).
وعن حيفا وبساتينها وأشجار فاكهتها يقول: " المنظر البهيج نفسه يقابلك في حيفا، فترى بساتين الرمان المزهرة المتجددة، وبساتين أشجار البرتقال والليمون" (ص77).
هذه هي أرض فلسطين الخصبة التي يخصبها زارعوها الفلسطينيون ويجعلونها جناناً تثمر وتعطي وتبهج، وهو ما يُكذّب دعايات وتزوير الحركة الصهيونية التي كانت تروّج تشويهاتها وافتراءاتها لتبرير الاستحواذ على أرض فلسطين، مدعية بأن أرض فلسطين لا تنبت سوى الشوك، ولذا يجب أن (يعودوا) لحرثها وزرعها من جديد.
ما كتبه كازانتزاكيس شهادة مثبتة ومبرهن عليها من كاتب وصحفي رأى ودوّن ما رأى، ونقله كتابة وبالكاميرا وبلغته اليونانية إلى القرّاء في بلده، وفي العالم، وفي وقت مبكّر، وقبل أن يستشري شرّ المشروع الصهيوني ويُزرع (دولة) برعاية بريطانيا بلفور، وسايكس - بيكو، والانتداب الاستعماري البريطاني على أرض فلسطين.
يختم كازانتزاكيس خطابه عن نهاية المشروع اليهودي الصهيوني في معرض مجادلته لفتاة يهودية التقاها في القدس، وهو خطابه الذي تثبته الأحداث الدامية في فلسطين، بل الأكثر دموية التي تجري على أرض فلسطين والذي يتجلّى دماً وموتاً ودماراً أمام أنظار العالم على أرض فلسطين، وتحديداً على أرض قطاع غزّة، الذي ورثته الإمبراطورية الأميركية من بريطانيا، الإمبراطورية التي تأسست بالدم والإبادة لأصحاب تلك البلاد التي ابتليت بالغزاة البيض سافكي الدم، وناهبي الأرض، ومبيدي البشر بحجّة أنهم أحق بتلك الأرض فهم (شعب الله المختار) – الخطاب الصهيوني التوراتي نفسه- وهم يأخذونها بالسيف، أي بالقوة، ولذا يتداخل المشروعان وحشية وعنصرية ونهباً وانتحالاً.
الحكم على الصهيونية الذي أطلقه الروائي كازانتزاكيس بدأ بإعجابه واحترامه وتقديره لأهل فلسطين، ولدينهم الذي يتجلى في علاقته بمسجد عمر، وبوصفه للطبيعة الخصبة، ثم بحكمه المبرم على ما تمثله الصهيونية من خطر رآه مبكراً في منتصف العقد الثالث من القرن العشرين.
ويقول مخاطباً الفتاة اليهودية التي التقاها مصادفة في شوارع القدس، ردّاً على أفكارها الصهيونية الفاسدة: "وهذه الحركة الصهيونية الحديثة، أيضاً، ليست سوى قناع، يلبسه قدركم المتجهم، ليخدعكم إلى ما لا نهاية. ولهذا السبب فأنا لا أخاف الصهيونية: كيف يستطيع 15 مليوناً من اليهود أن يحشروا أنفسهم هنا؟ لن تجدوا الأمن هنا، فخلفكم، وهذا الذي يجب أن لا تنسوه أبداً،جموع من العرب السمر الأشداء المتحمسين" (ص 84).
نبوءة كازانتزاكيس تتحقق على أرض غزة وكل فلسطين، وعلى شواطىء البحر الأحمر، وفي جنوب لبنان، وعبر الأرض التي عبرتها جيوش العرب المسلمين الذين اندفعوا من العراق يقودهم خالد سيف الله المسلول، وتمّ كنس الرومان الذين كانوا يحتلون هذه البلاد التي حررتها السيوف ووحدتها، وحققت سيرورتها وهويتها، وجعلتها أمة ذات حضور حضاري إنساني.
أليس العرب الفلسطينيون السمر الأشداء في قطاع غزّة يحققون نبوءة كازانتزاكيس التي بشّر بها قبل إعلان دولة الصهاينة على أرض فلسطين قبل عقود من إنشاء (دولتهم) التابعة، والتي تضخّ لها الإمبراطورية الأميركية كل أنواع أسلحة التدمير والقتل لعرب فلسطين، وبهدف إنقاذ مشروع أميركا للهيمنة على بلاد الغاز والنفط، وثروة المكان العربي في قلب العالم؟
لا حقّ لليهود الصهاينة في أرض فلسطين، وهو ما أكّده كازانتزاكيس، وبقيت نبوءته تسري محمولة في الزمن الممتد منذ منتصف العقد الثالث في القرن العشرين، وها هي تتأكد بالدم، شهوة يهوذا التي لا تشبع، وتتحقق في غزة، وكل فلسطين، ولبنان وتمتد للعراق..وحتى اليمن؟ يختم كازانتزاكيس مؤكداً: "هكذا كنتم في ذلك العصر البائد الذي دمرتموه بأيديكم. الشتات هو وطنكم. لا جدوى من هذا الهرب من قدركم.. والبحث عن السعادة والأمن في هذا البلد النائي. آمل – لأنني أحب اليهود- أن يتمكن العرب، عاجلاً أم آجلاً، من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم" (ص 85).
رؤية كازانتزاكيس المبكرة تتقاطع مع رؤية طائفة (ناطوري كارتا) اليهودية التي لا تؤمن بدولة لليهود تسبق مجيء السيّد المسيح، ولكن برؤية فكرية مختلفة، ومن منطلقات مختلفة.
لم يُمنح الروائي العالمي اليوناني جائزة نوبل عقاباً له على أفكاره ورؤيته للصهيونية وتبشيره في وقت مبكّر بنهاية حلمها على أرض فلسطين، وهو لم يخسر، بل ربح راحة ضميره وشرفه ككاتب إنساني كبير، وما بشّر به يتحقق وسيتحقق ببطولات العرب السُمر الأشداء في فلسطين، وجنوب لبنان، واليمن، والعراق.