تشومسكي وبابيه يفضحان أبعاد الحرب على غزة
الكتاب هو عبارة عن عدّة مقالات أو حوارات موسّعة جرت بين المفكّر الأميركي الشهير نعوم تشومسكي والمؤرّخ الإسرائيلي المعادي للصهيونية، إيلان بابيه.
أحْيت معركة طوفان الأقصى الكبرى، والتي بدأتها حركة حماس ضد الكيان الإسرائيلي فجر السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، انطلاقاً من قطاع غزة المحاصر، قضية فلسطين من جديد بعدما كادت السياسات والمشاريع الإسرائيلية/الأميركية، والتخاذل العربي والإسلامي يطمسانها إلى الأبد.
هذا الكتاب هو عبارة عن عدّة مقالات أو حوارات موسّعة جرت بين المفكّر الأميركي الشهير نعوم تشومسكي والمؤرّخ الإسرائيلي المعادي للصهيونية، إيلان بابيه، والتي اقترح فكرتها ونسّقها الكاتب الفرنسي فرانك بارات، حول قضية فلسطين والحرب الوحشية التي شنّتها "إسرائيل" على غزة في أواخر العام 2008؛ وقد وردت في الكتاب، بفصوله العشرة (التي تضمّنت قراءات مهمة حول "النكبة في التاريخ الإسرائيلي وفي الوقت الحاضر"، و"تحويل فلسطين إلى غيتو"، و"إعادة صياغة النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني: إسرائيل ليست ديمقراطية")، أفكار وحقائق عديدة، تتناسب مع ما يجري في هذه المرحلة، حول طبيعة الصراع في المنطقة وخلفياته الاستعمارية والدينية، من أجل تلقّفها مجدّداً من قِبل النخب العربية والإسلامية بالخصوص، حيث تشنّ "إسرائيل" حرباً ضارية ضدّ الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية المحتلة بذريعة استئصال حركة حماس، والتي تمثّل رأس حربة "محور الشر" في المنطقة بقيادة إيران، والذي يهدّد "إسرائيل" والعالم الحرّ بأجمعه، بحسب المزاعم الصهيونية والغربية.
فيما يخصّ الحرب الإسرائيلية على غزة تحديداً، وضمن فصل عنوانه ("أبيدوا جميع البهائم": غزة 2009)، يشير تشومسكي إلى كيفية معاقبة الفلسطينيين على تصويتهم "الخاطئ" لحماس (في انتخابات 2006)، وشروع "إسرائيل" في إبادة شاملة بـ "الرصاص المصبوب" وحرق المحاصيل الزراعية، ومنع دخول الغذاء والدواء والنفط، والاعتراض على أي قافلة مساعدة. وكان الهدف معاقبة الشعب الفلسطيني على "فعلته النكراء" بانتخاب حركة حماس ديمقراطيّاً؛ وقد اتُّبع في ذلك "عقيدة الضاحية" التي تعني التدمير الكلّي، كما حدث لضاحية بيروت الجنوبية في حرب تموز/يوليو 2006. ويكشف تشومسكي كيف زادت "إسرائيل"، بدعمٍ من أميركا، من مستويات العنف والتدمير في قطاع غزة، وكيف أحكمت حصارها عليه.
ينقل تشومسكي عن مراسل صحيفة النيويورك تايمز، إيثان برونّر، قوله إن "فلسطينيي غزة تلقّوا الرسالة في اليوم الأول عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية أهدافاً عديدة في آن في منتصف صبيحة يوم السبت (27/12/2008)؛ وسقط 200 قتيل على الفور، الأمر الذي أصاب حماس، بل غزة كلّها، بالصدمة".
ويضيف: يشكّل إنزال الألم بالمدنيين لغايات سياسية مذهباً قديم العهد من إرهاب الدولة، بل إنه في الواقع مبدأه التوجيهي.
كما ينقل المؤلّف عن رئيس أركان "جيش" الاحتلال السابق، موردخاي غور، قوله إنه منذ سنة 1948 "ونحن نقاتل سكّاناً يعيشون في القرى والمدن"؛ بينما يقرّ زئيف شيف، بوصفه أكثر المحلّلين الإسرائيليين بروزاً، بأنه "لطالما ضرب الجيش الإسرائيلي السكّان المدنيين، عمداً وعن وعي..."؛ وقال: "إن الجيش لم يميّز أبداً الأهداف المدنيّة [عن الأهداف العسكرية]... [بل إنه] تقصّد مهاجمة الأهداف المدنيّة".
أما الأسباب، فشرحها "رجل الدولة المميّز" أبا إيبان: "وُجد احتمال عقلاني، تحقّق في نهاية المطاف، بأن يضغط السكّان المتضرّرون لوضع حد للأعمال العدائية"؛ وستكون النتائج، كما أدرك ذلك إيبان جيّداً، السماح لـ "إسرائيل" بأن تُطبّق، من دون إزعاج، برامجها للتوسّع غير الشرعي والقمع القاسي.
أما في الخلفيات الدينية لحرب "إسرائيل" على غزة في أواخر العام 2008، فيتحدّث تشومسكي عن "زيارة إلهامية" قام بها حاخامان رئيسان للجنود الإسرائيليين في شمال غزة، حيث شرحا لهم أن لا وجود لـ "أبرياء" في غزة. وبالتالي يُعتبر كلّ من فيها هدفاً شرعياً! وهما استشهدا بمقطع شهير من المزامير يدعو الله إلى الإمساك بأولاد مُضطهِدي "إسرائيل" وضرْبهم بالصخور.
لم يأتِ الحاخامان بكشفٍ جديد. فقبل ذلك بسنة، كتب حاخام اليهود الشرقيين الأكبر السابق إلى رئيس الوزراء (إيهود أولمرت) يُبلغه أن جميع مدنيّي غزة مُذنبون جماعياً بالهجمات بالصواريخ، ولا "يوجد بالتالي أي حظر أخلاقي على الإطلاق ضد قتل المدنيين من دون تمييز..". وقد توسّع ابنه، وهو كبير حاخامات صفد، بالقول: "إذا قتلنا مئة منهم ولم يتوقّفوا فعلينا أن نقتل ألفاً؛ وإذا لم يتوقّفوا بعد الألف نقتل عشرة آلاف. وإذا لم يتوقّفوا مع ذلك فعلينا أن نقتل مئة ألف، بل وحتى مليوناً، مهما تطلّب الأمر لجعلهم يتوقّفون".
وفي السياق عينه، يسخر البروفيسور الأميركي ألن ديرشوفيتز، من الحديث عن النسبة المفرطة لعدد القتلى الفلسطينيين في مقابل الإسرائيليين، ويقول إنها يجب أن تزداد إلى ألفٍ للواحد، بل وحتى إلى ألفٍ مقابل لا شيء؛ بما يعني أنه يجب القضاء كلّياً على "جميع البهائم"؛ وهو يشير بالتأكيد إلى "الإرهابيين"؛ وهذه فئة واسعة تتضمّن، بحسب ما أعلن في شكل قاطع، ضحايا القوّة الإسرائيلية، بما أن "إسرائيل لا تستهدف المدنيين أبداً"! وبالتالي يصبح كلٌ من الفلسطينيين واللبنانيين، وفي الواقع أي من يعترض سبيل "جيوش الدولة المقدّسة"، إرهابياً أو ضحيّة عَرَضية لجرائمهم العادلة!
في المقابل، وفي توصيف مشابه جداً لصورة الكيان الإسرائيلي الذي يشن اليوم حرباً شعواء وهمجية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، يقول "داعية السلام" يوري أفنيري، حول عدوان "الرصاص المصبوب" (كانون الأول/ديسمبر 2008)، "إن ما سينطبع في أذهان العالم" في أعقاب "الانتصار" العسكري الإسرائيلي "هو صورة إسرائيل بوصفها مسخاً ملطّخاً بالدماء على استعداد، في أي لحظة، لارتكاب جرائم حرب، وغير مستعدة للالتزام بأيّ ضوابط أخلاقية... فهذه الحرب هي في النهاية جريمة ضد ذواتنا أيضاً، جريمة ضد دولة إسرائيل".
من ناحيته، يشرح إيلان بابيه السياقين التاريخيين لما حصل في غزة في كانون الثاني/يناير من العام 2009 (عدوان الرصاص المصبوب)، والذي يعود أحدهما إلى تأسيس "دولة إسرائيل"، ومنه إلى احتلال القطاع في 1967، وصولاً إلى اتفاق أوسلو الفاشل في 1993. ويتعلّق السياق الثاني بتصعيد السياسات (الممارسات) الإسرائيلية التي بلغت ذروتها في أحداث 2009، بحسب تعبير الكاتب.
ويضيف بابيه، ضمن الفصل الذي سمّاه (ساحات المذابح في غزة 2004-2009):
لقد أدّى تبنّي أيديولوجية التطهير العِرقي في 1948، بوصفها الأداة الرئيسية لتحقيق حلم إقامة "دولة" يهودية ديمقراطية وآمنة، إلى احتلال قطاع غزة في 1967، الذي استمرّ حتى 2005، تاريخ الانسحاب الإسرائيلي المزعوم. وقد أحيط قطاع غزة في 1994 بسياج كهربائي كجزء من الاستعدادات للسلام مع الفلسطينيين، وتحوّل إلى غيتو في 2000، عندما أُعلنت وفاة عملية السلام. وواجه قرار شعب غزة مقاومة هذا الإقفال، بالوسائل العنفية وغير العنفية، النخبة العسكرية والسياسية الإسرائيلية بمعضلة جديدة. فقد افترضوا أن الإقفال على الغزّاويين في سجن كبير سيُسوّي المشكلة لفترة طويلة؛ لكن تبيّن أن ذلك خاطئ؛ ولذا أخذوا يبحثون عن استراتيجية جديدة.
وكُشِف، في كانون الثاني/يناير2009، عن الثمار المرّة لهذه الاستراتيجية (عدوان الرصاص المصبوب)، فردّ المجتمع الدولي بغضب، ولكن من دون فاعلية. وشكّل تقرير غولدستون الحصيلة الثانوية الرئيسية لهذا الغضب. وهو يختصر، ولو بطريقة حذرة جداً ومحدودة، مدى المجزرة التي خلّفها الإسرائيليون وراءهم بعدما هدأت الأعمال العدائية. إلّا أن المجتمع الدولي لم يتحقّق من سبب ممارسة هذه السياسة البطّاشة وماهيّة أصولها المباشرة، كما عبّر المؤرّخ الإسرائيلي الشهير.
وبالفعل، فإن استمرار تجاهل ما يسمّى المجتمع الدولي، ومن ضمنه الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، للخلفيات والدوافع السياسية الاستعمارية والعِرقية والدينية المتطرفة التي تُحّرك قادة ومكوّنات الكيان الإسرائيلي المتناقضة والمتنافرة، هو الذي يشجّع هذا الكيان العنصري على الاستمرار في حربه الاستئصالية ضد الشعب الفلسطيني، كما نشهد حالياً، في إطار ما سمّاه الكيان عملية "السيوف الحديدية"، كردٍ على معركة "طوفان الأقصى" التحريرية التي أطلقتها حركة حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي؛ وهي تشكّل، في أحد أبعادها الرئيسة، إدانة لحُماة وداعمي ومؤيّدي الكيان الإسرائيلي الإرهابي، كما لما يسمّى المجتمع الدولي، الذي يواصل صمته المخزي والمشبوه على أكبر حرب إبادة وتطهير عِرقي في هذا القرن، بذريعة "الدفاع عن النفس وحماية الحضارة الغربية من الهمجية الإسلامية الزاحفة من الشرق.