قُطّاع طرق ورجال شهوانيّون.. كيف تصوّر السينما الغربيّة العرب والمسلمين؟
من "لورانس العرب" إلى "ملكة الصحراء" وغيرهما.. لماذا تصوّر عدسة السينما الغربية العرب والإسلام وفق طريقة نمطيّة ومسيئة؟
يضعنا فيلم "لورانس العرب" (1962)، للمخرج البريطاني ديفيد لين، في مقام الحيرة، فهو من جهة فيلم لا يُنسى كقيمة سينمائية عالية، لكنه، في المقابل، يقدم الشخصية العربية في معظم نماذجها بسلبية واضحة، وفي أفضل الأحوال، لم يتمكن من الإضاءة على القيم العربية بما تستحق.
يسلّط الفيلم، الذي كتبه دايفيد بولت ومايكل ويلسون، الأضواء على وضع العرب في ظل الخلافة العثمانية ونشوب الحرب العالمية الأولى، ويقدّمهم قبائل متنافرة متناحرة تعيش معظم قضاياها على نار خلافات دموية.
الفيلم مقتبس من كتاب" أعمدة الحكمة السبعة"، أو سيرة حياة توماس إدوارد لورنس، والذي سيحمل لقب" لورنس العرب" بعد وصوله إلى الجزيرة العربية ومساهمته في الثورة العربية الكبرى ضد الحكم العثماني، الذي استمر 4 قرون.
يُفتتح الفيلم بموت لورانس (بيتر أوتول) في حادثة دراجة بخارية (1935)، فنتعرّف خلال جنازته إلى آراء متناقضة بشأن شخصيته الملتبسة. يواكب مجيء الجاسوس البريطاني إلى الحجاز مع اشتعال الحرب العالمية الأولى، ويأتي ضمن مهمة من الاستخبارات البريطانية لمقابلة الأمير فيصل بن الشريف حسين (أليك غنيس)، والتعاون معه في الثورة على الاحتلال العثماني. وحين يستمع إليه الأمير فيصل يُعجب به فتتوطد الصداقة بينهما، ثم يلتقي لورنس زعيم قبيلة الحويطات عودة أبو تايه (أنطوني كوين)، والأمير علي (عمر الشريف)، الأخ الأصغر للأمير فيصل.
هكذا يجمع القبائل العربية في أنشطة حربية فيقودها إلى احتلال العقبة، من دون أن يستشير السلطات البريطانية، الأمر الذي يستدعي غضب الجنرال اللنبي (اك هوبكنز) كما يواجه سخط عودة أبو تايه الذي أغراه لورنس بوجود الذهب في المدينة،إذ لم يعثر على ما جاء من أجله. وفي مغامرة شجاعة أخرى يصحب الشريف علي إلى مدينة درعا السورية لاستكشاف الوضع هناك قبل احتلالها، فيُقبض عليه ويُعذّب على أيدي الجنود العثمانيين ثم يُطلق سراحه، ويقرّر العودة إلى القاهرة للقاء الجنرال البريطاني اللنبي، فيأمره الأخير بالعودة إلى دمشق لأنه سيستقر هناك.
لاحقاً، سيحضر اجتماعاً عاصفاً بين الأمير فيصل والجنرال اللنبي، إذ يكتشف الأول أنه ضحية مؤامرة استعمارية تتمثل باتفاقية "سايكس - بيكو" لاقتسام البلاد العربية وليس لتحريرها من قبضة الاحتلال العثماني، وفقاً للوعود البريطانية. لكن، من هو لورنس؟ هل هو جاسوس، أم مغامر، أم أسطورة؟
بحسب الفيلم هو كل هؤلاء، بينما تبدو صورة العرب باهتة أمام إشعاعاته الفردية. سنقع في ثنايا الشريط على أكثر من موقف سلبي حيال الشخصية العربية، فعندما يكتشف الشريف "علي"، من مسافة بعيدة جداً، أن لورنس ومرافقه يستعملان بئره يقتل المرافق بطلقة واحدة. على الرغم من كون علي على ظهر جمل فإنه يركض بأسرع ما يمكن، ولا نعلم لماذا لم يقتل لورنس كذلك؟ وحين يخبر لورنس العقيد برايتن بالحادثة يجيبه بكلمة واحدة: "وحوش".
في مشهد آخر يعبّر لورنس عن رغبته في استكشاف مدينة درعا بقصد احتلالها، فيحذّره زملاؤه نظراً لمظهره الأوروبي، فيجيب بأنه سيبدو عربياً إذا ارتدى ثياباً قذرة (!)، كما يظهر العرب في الفيلم وهم ينهبون المدن والقطارات التي يهاجمونها، بينما يبين التاريخ أن الجنود الغربيين لا يتباينون عن سواهم منذ العصور القديمة حتى العصر الحديث.
في المقارنة بين مذكرات "لورانس العرب" وصورته المتخيّلة سينمائياً، سنجد مسافة شاسعة بين الصورتين، بحيث يُظهره الفيلم بعينيه الزرقاوين الحادَّتين وزيّه العربيّ وطوله الفارع، في شخصيةٍ متعاطفةٍ مع العرب، إلا أنه لم يكن شبيهاً على الإطلاق بلورانس الحقيقي، لا بشكله ولا بطوله، الذي لم يتجاوز 165 سم، ولا بدوره الحقيقي في أرض الواقع.
قيل إنّ قِصَر قامته كان يؤثر سلباً في نفسيته، لكنه حاول تجاوز هذا الأمر عن طريق الاقتداء بنابليون بونابرت، الذي يقال إنه كان قصير القامة أيضاً. لذلك، اهتم، في بداية حياته، بدراسة الهندسة والاستراتيجية العسكرية وبحث التاريخ العسكري.
بدأت علاقة لورنس الحقيقي بالمنطقة العربية حين قام برحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز عام 1909 لمشاهدة القلاع التي بناها الصليبيون في هذه البلاد، وأقام بسوريا نحو 3 أعوام، فتعلّم اللغة العربية بطلاقة، وأقام علاقاتٍ طيبة بالقبائل العربية، علماً بأنه كان يحصل على الترخيص من السلطات العثمانية للبحث عن الآثار.
وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، وإعلان بريطانيا الحرب على الدولة العثمانية، تمَّ تعيين لورانس في قسم الخرائط التابع لمكتب المعلومات في مصر. وفي عام 1916 قامت الحكومة البريطانية بنقله إلى الاستخبارات السرّية وتعيينه مشرفاً على المكتبة العربية للاستفادة من خبرته في المنطقة، من ناحية اللغة والمجتمع والمواقع الجغرافية وجمع المعلومات الخاصة بالحرب، وكيفية التعامل مع العرب.
وبحسب كتاب" العرب وأسرار الحرب البريطانية في الجزيرة العربية"، للكاتب الأميركي جايمس بار، استطاع لورانس إقناع العرب بأنَّه يسعى فقط لمنحهم الحرية والاستقلال عن الدولة العثمانية، إلا أنَّ التقارير، التي كان يرفعها إلى الاستخبارات البريطانية، تكشف زيفه، فلقد حدّد أهدافه في أحد تقاريره الرسمية في عام 1916 بقوله:" أهدافنا الرئيسة: تفتيت الوحدة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها، وإذا عرفنا كيف نعامل العرب، وهم الأقل وعياً للاستقرار من الأتراك، فسيبقون في دوامة من الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتنافرة، وغير قابلة للتماسك".
هكذا ارتدى لورنس الزي العربي الحجازي، وبدأ التخطيط لتنظيم الضربات العسكرية، بعد كسب ولاء القبائل العربية للأمير فيصل وله، واعتمد في الثورة على حرب العصابات التي لا تكلِّف البريطانيين المشغولين في الحرب كثيراً، لكنها تشكل ضربات موجعة للدولة العثمانية. فبدأ تنظيم ضربات لخطوط سكك الحديد العثمانية في مناطق متعددة، وتدمير الجسور وقطع خطوط الهواتف، ثم بدأ مهاجمة بعض المدن واحتلالها.
(في مشهدٍ تاريخيٍّ مهم، يبدو أنه كان دلالةً على أن لورانس، الذي كان معجباً بالحملات الصليبية، رأى أنه أكمل نجاح الحملات الصليبية بعد مرور قرونٍ طويلة عليها. لقد زار لورانس قبر صلاح الدين الأيوبي في دمشق عام 1918، وانتشل إكليلاً ذهبياً أهداه الإمبراطور الألماني غليوم الثاني إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي في أثناء زيارته له عام 1898، كتب عليه بالعربية: "غليوم الثاني قيصر ألمانيا وملك بروسيا تذكاراً للبطل السلطان صلاح الدين الأيوبي". انتشله لورنس العرب قائلاً: "إن صلاح الدين لم يعد يريده" وأرسله إلى إنكلترا ليوضع في المتحف الحربي).
كان في الإمكان نسيان هذا الجاسوس المغامر والمخادع، إلا أن فيلم "لورانس العرب" جعله مشهوراً فجأة، بحيث لا تزال ملابسه العربية البيضاء ومسدسه في أحد المتاحف البريطانية، بعد أن تم شراؤها بمبلغ كبير. أما الدراجة البخارية التي سببت وفاته، فيقدّر سعرها بمليون جنيه إسترليني، وفي الإمكان مشاهدتها في أحد المتاحف البريطانية، كما لم يستطع أي فيلم آخر تصوير الصحراء بمثل هذه الفتنة والسحر والغموض بعين وتكوينات مدير تصوير بارع هو فريدي يونغ. ويعلل الفيلم" أسطورة بطل، لطالما كان في الواقع موضع جدل ولطالما جوبه بالازدراء. إن الفيلم خلّد توماس إدوارد لورنس الحقيقي، الذي يتذبذب بين الخجل الشخصي وجنون العظمة". شخصية غامضة صنع منها الإعلام العالمي أسطورة حيّة!
ومن "لورانس العرب" إلى فيلم "ملكة الصحراء" (2015)، الذي يتتبع أثر الجاسوسة البريطانية غيرترود بيل (1868- 1926) في المنطقة العربية أواخر حقبة الاحتلال العثماني، بحيث تتقاطع شخصية بيل مع شخصية لورنس العرب تاريخياً، حتى إنهما يلتقيان أكثر من مرّة. لكن الشريط الذي حقّقه المخرج الألماني، وارنر هيرتزوغ، لا يكترث للصراعات السياسية الدائرة حينذاك بقدر عنايته بجماليات الصحراء وحياة البدو على خلفية قصص حب فاشلة تعيشها هذه المرأة الشقراء الفاتنة (نيكول كيدمان)، عبر جرعة رومانسية عالية، متجاهلاً إلى حدّ كبير الدور المهم الذي أدته في رسم خرائط المنطقة بصفتها عالمة آثار ومستشرقة وجاسوسة خبرت سلوك العرب جيداً، وتعلمت لغتهم.
هذه الحيثيات تمنح أي مخرج مادة دسمة لصناعة فيلم من العيار الثقيل، إلا أن المخرج يضيّق عين العدسة بما يكفي لرصد مكابدات هذه العاشقة وخيباتها العاطفية كلما اشتد الصراع في المنطقة، وسيسخر من شخصية لورانس العرب في أكثر من مشهد كاريكاتوري، فيما تظهر الشخصيات العربية على الهامش عموماً، ما دامت "مس بيل" غارقة في فتنة الصحراء. صحيح أن الفيلم يتكئ على مذكرات غيرترود بيل، إلا أنه يقتطف بعض الثمار من شجرتها ويمضي. فمن هذه المرأة التي خطّت اسمها فوق الرمال العربية؟
كانت الشابة الإنكليزية أنهت دراستها التاريخ في جامعة أكسفورد للتو، كأول امرأة تدرس هذا الاختصاص، قبل أن تتعمّق في دراسة الآثار واللغات الشرقية القديمة، في إثر زيارتها طهران حيث كان خالها سفيراً لصاحبة الجلالة هناك. امرأة متمرّدة على أعراف العصر الفيكتوري، لم تُشغف بتقاليد الطبقة المخملية والغراميات، فنأت بنفسها بعيداً عن هذه الأجواء عبر الغرق في القراءة.
زيارتها الأولى للشرق كانت منعطفاً في حياتها، إذ لم تتوقّف بعدها عن الرحلات إلى هذه المنطقة، من إسطنبول إلى القدس، ودمشق، والجزيرة العربية، والقاهرة، وانتهاءً ببغداد. سحر الصحراء، والتنقيب عن الآثار، وفتنة المغامرة، قادتها إلى العمل مع الاستخبارات البريطانية، بصفتها خبيرة في جغرافيا الأسطورة والرمل.
التقت بيل لورانس للمرة الأولى في منطقة حفريات أثرية، لتكتشف لاحقاً أنه ضابط إنكليزي، وستجمعهما مهمة واحدة: تحريض الشريف حسين على التمرّد ضد العثمانيين، فتَحتَ هذه الرمال الملتهبة تكمن آبار الزيت التي لم تُكتشف بعد. هيمنة الرجال على المهمات الصعبة لم تثن عزيمة "ملكة الصحراء" على تحطيم الأسلاك الشائكة. ارتدت الزي البدوي، وامتطت الجمال، واقتحمت مجالس الرجال في الصحراء والمدن، بالحماسة نفسها التي ترجمت بها أشعار حافظ الشيرازي، بعد تعلّمها الفارسية.
في زيارتها القدس، قرّرت أن تتعلم العربية، وما إن أتقنت هذه اللغة الصعبة، بالمقارنة مع اللغات الأخرى، حتى بدأت رحلة طويلة عبَرت خلالها نهر الأردن نحو أريحا، ثم حوران، وصولاً إلى دمشق وتدمر، وستعود إلى الشرق مرّة أخرى، في رحلة عمل رصدت خلالها التقاليد والفلكلور والأعراف من كثب، من حلب إلى بغداد وبلاد فارس ثم الموصل.
في تلك الفترة، التقت مارك سايكس الذي كان يعمل على هندسة حدود الجغرافيا العربية وتمزيقها إلى دويلات، فاصطدمت معه بشأن نظرته إلى العرب: "فصحاء، غشّاشين، سريعي الانفعال، وجبناء". باشتعال الحرب العالمية الأولى، باتت حاجة الاستخبارات البريطانية إلى بيل ملحّة، كونها خبيرة في إرث العثمانيي،ن من جهةٍ، وفي نمط تفكير العرب، من جهةٍ ثانية.
في القاهرة التقت لورانس مجدّداً، قبل أن تتوجه إلى نجد والحجاز، لتُعِدّ تقريراً مفصلاً عن أحوال "الرجل المريض"، وطبيعة النزاعات بين القبائل العربية.
هكذا سيكلّف "لورانس العرب" - باقتراح من بيل - مناصرة الشريف حسين في ثورته على العثمانيين، وسيرافق الملك فيصل الأول إلى دمشق لتسلم عرش سوريا. لكن الاتفاق السرّي بين سايكس وبيكو سيجهض المهمة.
في البصرة، سنلتقي بيل ثانية، وهذه المرّة برتبة رائد، لمعاضدة الجيش البريطاني في احتلال العراق. لم ينصت الجنرالات إلى نصيحتها بكسب ولاء زعماء العشائر العربية لتسهيل زحف الجيش إلى بغداد، فتفشل الحملة الأولى. في مكتبها، وكانت منهمكة في رسم خريطة العراق الجديد، يسألها أحدهم، عمّا تفعل بكل هذه الخرائط؟ فتجيبه: "اختراع البلد الذي من المستحيل أن يُخترع".
بعد تمكّن الجيش البريطاني من احتلال بغداد، نقلت بيل عملها إلى هناك، وكانت المستشارة الأولى للملك فيصل الأول، بينما سيطلق العراقيون عليها اسم "خاتون بغداد". فجأة، انقلبت الموازين. مؤامرات ووعود كاذبة، واندلاع "ثورة العشائر" في العراق احتجاجاً على الحكم البريطاني المباشر، على عكس ما نصحت به بيل، بإشراك العراقيين في الحكم. أوسمة وأمجاد ورحلات، ثم إهمال لتاريخها. انشغلت في آخر أيامها بتأسيس المتحف العراقي. كان فيصل الأول أمر بإقامة نصب للخاتون، على أن يوضع في مدخل المتحف عند افتتاحه، لكنها انتحرت قبل أن تكحّل عينيها به. في أثناء احتلال الولايات المتحدة للعراق، نُهب المتحف في بغداد، ولم يبق سوى تمثال غيرترود بيل في الواجهة.
بصورة ما يمكن عدّ فيلم "ملكة الصحراء" النسخة المعاصرة عن "لورانس العرب"، لكن بتغليب الجانب الإنساني على السياسي، والعاطفي على الجانب العملي، ونزع الهالة الأسطورية عن شخصية لورنس. أما على صعيد البناء الجمالي فعمل المخرج، الذي كتب السيناريو بنفسه، على خلخلة الخط الأفقي بضربات شاقولية تنطوي على منعطفات تاريخية مهمة في سيرة "مسّ بيل"، متجنباً الرؤية السياسية الفجّة، إذ يختتم المخرج الألماني فيلمه بمشهد يظهر فيه ونستون تشرشل ولورنس الثعلب الداهية، وهو يوجه القيادة البريطانية من أجل الحسم في مسألة المنطقة العربية، ثم وهو يلتقط صورة تذكارية أمام هرم أبي الهول.
أما السؤال الذي سيبقى معلّقاً إلى اليوم: إلى متى ستبقى العدسة الغربية مغبّشة ومخاتلة حيال كل ما يتعلّق بالعرب والإسلام؟ فقط صحراء وجِمال وقطّاع طرق ورجال شهوانيون!