فريد الأطرش.. نغم في حياتنا
هرب وعائلته من سوريا، وعاش ظروفاً مالية صعبة، وأبدع في الغناء والتلحين والتمثيل.. من هو فريد الأطرش؟
وُلِد الموسيقار فريد الأطرش في 19 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1917، في قرية "القريّا" التابعة لمحافظة السويداء جنوبي سوريا، لعائلةٍ عريقةٍ. هاجر إلى مصر برفقة والدته وشقيقيه فؤاد وآمال (المطربة أسمهان) في العام 1923، هرباً من بطش الاستعمار الفرنسي، الذي عزم على اعتقال العائلة كلها، التي خرج منها متزعّم الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، سلطان باشا الأطرش، بهدف الضغط على والد فريد، فهد الأطرش، الناشط في محاربة المحتل الفرنسي.
عاشت العائلة ظروفاً مالية صعبة للغاية، ما دفع فريد للعمل في ما توفّر له من أعمال، ودفع والدته للغناء في إحدى الصالات. شاءت الأقدار أن تنطفئ شعلة الكرم الموسيقي والمادي، في 26 كانون الأول/ديسمبر من العام 1974 في أحد مشافي بيروت، حيث توقّف قلبه، بعد أن حذّره 3 مرات خلال حياته القصيرة نسبياً.
الموسيقي العربي الأول الذي يصبح عالمياً
ربّما لا يعلم الكثيرون أنَّ فريد الأطرش كان الموسيقار العربي الأول الذي عُزفت موسيقاه ووُزِّعت عالمياً، عن طريق الموسيقي فرانك بورسيلو، الذي أعاد العمل على مقطوعات مثل "زمردة"، "حبيب العمر"، "نجوم الليل"، و"ليلى"، وذلك قبل أن يقوم الفنان العالمي رون غودوين بتوزيعٍ جديدٍ لموسيقى الأخوين رحباني.
كما قام المغني الروسي نيقولا نيكيتا بأداء تانغو "يا زهرةً في خيالي" بكلمات روسية، هذا إذا لم نتوقّف أمام العدد الكبير من المطربين الأتراك الذين غنّوا ألحانه. لذا يبدو من المنطقي أن تتسلّل جمله اللحنية، قصداً أو عفواً، إلى موسيقى الكثير من الفنانين العرب كالهادي الجويني، صباح فخري، وبكري الكردي، وصولاً إلى محمد عبد الوهاب، وهو ما أكّده بصراحة الموسيقار بليغ حمدي، في إحدى لقاءاته الإذاعية.
ومن البديهي أيضاً أنَّ الأطرش، الذي قام بتلحين أغاني 33 فيلماً سينمائياً، وشارك في التمثيل فيها كذلك كما في إنتاج بعضها، أثّر في جيلٍ كاملٍ من الفنانين الذين أتوا بعده، وجمعوا بين الغناء والتلحين والتمثيل، مثل عبد الحليم حافظ، ابراهيم حمّودة، عبد الغني السيد، محمد أمين، محمد عبد المطلب، ومحمد فوزي، فضلاً عن تأثيره المعروف على أجيالٍ من عازفي العود العرب.
تنوّع لحني وصل إلى الموسيقى الغربية
لم يترك فريد الأطرش لوناً غنائياً من دون أن يعكسه في أعماله، حيث اشتغل على الطقطوقة ("صالحني وسلم بيدك"، "أحبابنا يا عيني"، "تأمر عالراس وعالعين")، المونولوغ والأغنية الكوميدية ("يا سلام على حبي وحبك" مع شادية)، الأغاني الدينية ("عليك صلاة الله وسلامه" التي غنّتها أخته أسمهان)، الأوبريت، الموال، والقصيدة، بالإضافة إلى الألوان الغربية مثل الفالس والتانغو والرومبا.
انطلقت أغانيه الشعبية مع أول أغنية غناها في الإذاعة المصرية، في العام 1938، وهي أغنية "ياريتني طير لطير حواليك"، التي لحّنها اللبناني يحيى اللبابيدي، حتى أغانيه الشعبية الأخيرة التي تضمّنها فيلمه الأخير "نغم في حياتي"، مثل "حبينا" و"يا حبايبي يا غاليين". كما قام فريد الأطرش بالتحلين للكثير من المطربين كوديع الصافي، صباح، ومحرم فؤاد، وفهد بلّان، شادية، نور الهدى، وشهرزاد.
مبدع الأوبريت السينمائي العربي
أدخل فريد الأطرش مفهوم الأوبريت السينمائي، بعد أن كان مقتصراً على المسرح، وذلك في أول أفلامه "انتصار الشباب"، الذي شاركته فيه أسمهان، وأشبعه بكل ما تضجّ به روحه من تنوّع موسيقي.
ولحّن أيضاً الكثير من الأوبريتات، منها على سبيل المثال "فارس الأحلام"، "الشرق و الغرب"، "بساط الريح"، و"متقولش لحد".
غير أنَّ المميز في أوبريت "انتصار الشباب" هو استعراض فريد لأساليب موسيقية عديدة، لموسيقيين راحلين ومعاصرين له، مع الحفاظ على بصمته الخاصة، متَّبِعاً في ذلك تقنية "pastiche" المستخدمة في الارتجال العلاجي من خلال الموسيقى، وهو أسلوب يشبه "المعارضة الشعرية" التي استخدمها الكثير من الشعراء المعاصرين، يقوم على نظم قصائد حديثة على وزن وقافية وأسلوب ومواضيع شعراء قدماء.
الموّال: اللحن الأول الذي نشأ عليه
أما الموّال فقد كان له شأنٌ مهمٌّ في فنّ فريد الأطرش، لأنَّ عبقريته الموسيقية تفتّحت على المواويل الشامية، التي كانت تهدهده بها أمه علياء المنذر، ذات الصوت الجميل.
لهذا السبب أكثر من تلحين وغناء الموّال بشكلٍ واضحٍ جداً، وأعطاه مكانةً مميّزةً في أغانيه وأفلامه، فقد اتّخذه أحياناً كمتّكأ درامي، كما حدث في موّال "صوني الخدود في شبابك"، الذي اتَّكأ عليه في فيلم "انتصار الشباب"، للفت أنظار الناس في الفيلم إلى الموهبة الغنائية لذلك المهاجر، وكذلك الأمر في موّال أسمهان "يا ديرتي مالك عليَّ لوم"، من فيلم "غرام و انتقام"، في العام 1944.
ونلمس في موّال "هات يا زمان ما عندك من الأهوال، تلقاني صابر ولا يوم أشكي سوء الحال"، ترميزاً واضحاً لنمط حياة فريد الأطرش المكافح والمناضل من أجل العيش، حيث عمل في بداية حياته الفنية في صالة بديعة مصابني، التي مرَّ بها معظم فنّاني ذلك العصر.
لحّن فريد الأطرش الكثير من المونولوغات الغنائية العظيمة، التي وثَّقت لحياته الشخصية أسوةً بأفلامه، وكانت الروح الشرقية الممتزِجة بتقنيات الموسيقى الغربية طاغيةً على تلك المؤلفات، مثل مونولوغات "عتاب الحبيب"، "أعمل إيه علشان أنساك"، "بحب من غير أمل"، "نجوم الليل"، وغيرها من المونولوغات التي شكّلت مجالاً للتنافس الكبير مع عظماء الملحّنين في ذلك العصر الذهبي من تاريخ الموسيقى العربية، كمحمد عبد الوهاب، رياض السنباطي، زكريا أحمد، ومحمد القصبجي.
"ليالي الأنس في فيينا": ذروة إبداع الأطرش
للدلالة على الشخصية التلحينية الفريدة لهذا المبدع العربي، المصري السوري اللبناني، يمكننا أن ندقِّق في أغنية "ليالي الأنس في فيينا"، التي غنّتها أسمهان في فيلم "غرام وانتقام"، حيث لم يكن فريد الملحّن الوحيد لأغاني هذا الفيلم، بل تشارَك في ذلك مع رياض السنباطي ومحمد القصبجي، بالإضافة إلى مؤلف الموسيقى التصويرية محمد حسن الشجاعي.
اختزل فريد الأطرش في هذه الأغنية كل الألوان الغنائية والموسيقية التي عمل عليها خلال مسيرته الفنية، حيث ذكّرنا في هذه الأغنية بفالسات غربية شهيرة، على الرغم من أنَّ قالب الأغنية هو قالب الطقطوقة الشرقية التقليدية.
ولكنّه مع ذلك، ختم الأغنية بأسلوب المونولوغ التقليدي، ولم ينسَ أن يطعّمها بالموسيقى الشرقية الخالصة عبر "ضاد الموسيقى الشرقية"، وهي مقام "البيات"، فلحّن المقطع الثاني الذي يقول في مطلعه "ما بين رنين الكاس..." على هذا المقام، وقارب الأغنية الشعبية البسيطة في المقطع نفسه، حين غنّت أسمهان "أدي الحبايب عالجنبين"، ومن ثم ختمه بالعودة إلى لحن المذهب، "متّع شبابك في فيينا"، على مقام المينور (مقام "النهاوند").
وبإصرارٍ غريبٍ، أفرد الأطرش في المقطع الثاني، الذي يبدأ بـ"ساعة هنا"، مساحةً مهمّةً لآلة العود، التي مهّد بها لغناء كامل هذا المقطع بأسلوب الموّال ثانيةً، للتأكيد على تميُّز هذا القالب.
ولم يكتفِ بذلك، بل أدخل آلة الغيتار الهاوياني (بأسلوب "هاواي" المغرِق في الخصوصية) إلى المقطع، في مقابلةٍ رائعةٍ بين العود والغيتار في قالب الموّال.
وهنا يتّضح مظهرٌ من مظاهر التنافس بين محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، يتمثّل بلجوء الأطرش إلى أسلوب "معارضة" عبد الوهاب، فعبد الوهاب استخدم الأسلوب نفسه تماماً في أغنية "إنسَ الدنيا"، التي قدّمها في فيلم "رصاصة في القلب"، الذي عُرِض قبل فيلم "غرام وانتقام" بأشهر قليلة فقط.
ولم يكن إدخال هذا الأسلوب في عزف الغيتار هو الشيء الوحيد الذي قام به لمنافسة عبد الوهاب في مجال الاستخدام المتنوع للآلات الموسيقية، بل زاد عليه من خلال استخدام آلةٍ نادرةٍ جداً حتى في الغرب في أحد مقاطع أغانيه، وهي آلة المنشار الموسيقي، في تانغو "أهواك وروحي فداك"، في العام 1942.
ولعلَّ التنافس مع عبد الوهاب في الكثير من المجالات كان متوازناً، باستثناء قدرة فريد الأطرش على التمثيل بشكلٍ لا يمكن توقّعه من مطرب، فقد أدّى أدواره بمستوى جيد جداً بالقياس إلى محمد عبد الوهاب، الذي لم يكن بالمستوى الجيد من ناحية التمثيل، غير أنَّ موت فريد الأطرش حرمنا من ثمارٍ عظيمةٍ كان سيعطينا إياها ذلك التنافس الشريف والجميل.
ولعلَّ إصرار فريد الأطرش على الهوية الشرقية المتميّزة بلغ أشدّه في المقطع الثالث، الذي يبدأ بـ"امرح واملا الدنيا أغاني..."، حيث ذهب به إلى ما يقارب الأغنية الشعبية البلدية في إيقاعها وأسلوبها، ثم عاد ليؤكّد مرةً أخرى على الموّال في مقطع "تِهْنى بقربه"، قبل العودة إلى المذهب.
وقد يكون من الضروري أن نُعرّج على المواصفات الشخصية لفريد الأطرش، حيث أشاد القاصي والدّاني بما اتّصف به من شمائل، كان في طليعتها الكرم، التي أكثر معاصروه من الحديث عنها، ومنهم الممثل الكوميدي الراحل عبد السلام النابلسي، الذي اعترف بإقدام فريد على استدانةِ مبلغٍ كبيرٍ من المال لدفع فاتورة 40 يوماً قضاها النابلسي في المستشفى.