نبذته ألمانيا .. كيف أصبح هاينرش هاينه علماً ثقافياً؟
في الذكرى الـ 167 لوفاة رائد الرعيل الأخير من الرومانسيين الألمان.. من هو هاينرش هاينه؟
مؤسس الصحافة الثقافية الأوروبية ونموذج المثقف الملتزم
كريستيان يوحنا هاينرش هاينه (دوسلدورف، 1797 – باريس، 1856). آخر أبرز ممثل لحركة الرومانسيين الألمان، إن لم يكن خاتمة هذا التيار العريض. يرجع الفضل إليه في جعل اللغة المحكية لمنطقة رينانيا لغة طيّعة لكتابة الشعر، مثلما جعل من الرحلة الأوروبية والركن الثقافي في الصحافة نوعين أدبيين قائمَي الذات، كل هذا من منطلقات نضالية تقدمية، جعلت منه — وفق العديد من مؤرخي الأدب والحركات الاجتماعية — أحد أول المثقفين الملتزمين، بالمعنى السارتري للعبارة.
شهد، في طفولته، وهو ابن الثالثة عشرة (1811)، دخول نابوليون إلى مدينته دوسلدورف غازياً؛ ومذاك شهدت منطقة رينانيا تأثيراً كبيراً للثقافة الفرنسية ولأفكار الثورة الفرنسية الكبرى (1789) فيها، دون سائر المناطق الألمانية الأخرى؛ وهو ما سيتبلور في ما بعد بشكل جلي في ثقافة هاينه الشخصية وميوله الفكرية التقدمية المنفتحة، مقارنة مع ارتكاسية وتقوقع جل النخبة المثقفة الألمانية آنذاك.
أما بخصوص انبهاره بشخصية نابوليون، فسيقول في ما بعد، في كتابه "مشاهد من الأسفار": "تحيتي ليست للأفعال، وإنما لعبقرية الرجل. كنت أحبه من دون قيد أو شرط، حتى الـ 18 من برومير [الشهر الثاني وفق روزنامة التقويم الثوري الفرنسي، بين 22 تشرين الأول/أكتوبر و21 تشرين الثاني/نوفمبر] – يومذاك خان الحرية.“
سنوات التعلم: نفور من عالم المال وتتلمذ على أقطاب الرومانسية والفلسفة
في العام 1816، يشتغل هاينه مستخدماً في بنك عمه سالمون بمدينة هامبورغ؛ ولكن عالم القطاع المصرفي لم يغره أبداً قبالة نزوعاته الأدبية؛ وهو التنافر الأبدي بين عالمي الإبداع والمال، الذي سيعبر عنه العم في جملة تنضح باحتقار الطبقة المتنفذة في ألمانيا لكل ما يمت للتفكير بصلة: "لو تعلم هاينرش شيئاً ينفعه، لما اضطر إلى كتابة الكتب".
سيدرس خلال 3 سنوات القانون وعلوم الإدارة بجامعتي بون وبرلين، من دون اهتمام كبير: "ضيعت 3 سنوات من أجمل سنين شبابي، فالنصوص القانونية إنجيل الأنانية"، مما دفعه خلال شتاء 1819-1820 إلى متابعة دروس أوغست ڨلهلم شليغل حول تاريخ اللغة والشعر الألمانيين؛ مذاك سيكون لهذا المؤسس (مع شقيقه فرايدرش) لحركة الرومانسيين الألمان كبير الأثر في هاينه الشاب.
بتوازٍ مع تحصيله الدراسي، انكب هاينه خلال إقامته في بون على الترجمة الألمانية لآثار الشاعر الرومانسي الإنكليزي لورد بايرون.
بين عامي 1821 و1823، يتابع هاينه دروس الفيلسوف هيغل، وهذه المرحلة بالذات هي التي ستشهد بداياته ككاتب، بكتابين أولين: "قصائد" (1822)، و"مسرحيات مأساوية بفواصل غنائية" (1823)، ومسرحية "المنصور" (1823)، التي تم إيقاف عرضها بعد احتجاج من الجمهور، لتبدأ بذلك معارك وسجالات هاينه مع الوسط الثقافي الألماني المنغلق والمتعصب دفاعاً منه عن قيم الانفتاح الفكري، ورياح التنوير القادمة من فرنسا التي تشبّع بقيم ثورتها.
لن تقف الأمور عند احتدام النقاشات في الصحافة والصالونات، بل ستقوم الرقابة بالتضييق على إصداراته ومنع جلها، ما سيضطره إلى قصد المنفى الاختياري في باريس؛ ويعلق الناقد الأدبي المعاصر البارز مارسيل رايش رانيكي على هذا التحول، قائلاً: "هجرة هاينه نحو فرنسا هي بدرجة أقل ذات طابع سياسي، فما يغلب على أسبابها هو تهميشه من طرف المجتمع الألماني. في فرنسا، كان يعامل هاينه على أنه ألماني، أجنبي؛ بينما كان في ألمانيا منبوذاً".
عارف كبير بالثقافة الإسلامية والحقبة الأندلسية الموريسكية
تنمّ مسرحية "المنصور" المأساوية (صدرت لها ترجمة عربية عن "دار الجمل"، بيروت، 2009) عن إلمام كبير لهاينه بالثقافة العربية الأندلسية، وما اكتنف تاريخها، وحقبة محاولة محو آثارها من صراعات دينية ومحاكم تفتيش وتقتيل لليهود والمسلمين؛ وفي ثنايا النص، سيقوم هاينه بتضمين أول خطاباته ومواقفه السياسية، التي صارت مضرب مثل حتى في فترتنا الحالية كلما تعرض المثقفون للإرهاب الفكري، وكلما تعرض كتاب لمحرقة. تقول شخصية المنصور الرئيسة في المسرحية، والمختلقة من طرف هاينه من دون أن تكون بعيدة عن كم من منصور شهدته فترة ملوك الطوائف: "— هي ليست إلا بداية. حيث تحرق الكتب، ينتهي الأمر أيضاً بإحراق البشر".
ولا شك في أن هاينه يشير هنا إلى الجرائم التي اقترفتها محاكم التفتيش الإسبانية بحرق كل الكتب التي تمت بصلة للثقافة الإسلامية (واليهودية) الأندلسية، من دون نسيان حقبة سابقة تآمر فيها الخلفاء مع الفقهاء في المغرب والأندلس لحرق كتب الغزالي وابن رشد، رغم أنهما يقفان على طرفي النقيض دينياً وفلسفياً.
ولا ريب في أن هاينه يقوم أيضاً بإسقاط تاريخي للحدث على واقعه الألماني الذي كان يشهد، مقارنة مع فرنسا الثورية، كبتاً للحريات العامة وتضييقاً على كل تفكير ليبرالي، تنامت معهما سطوة الرقابة على المطبوعات، سواء كانت جرائد أو كتباً.
بل ترقى عبارة هاينه إلى التنبؤ بالمحرقة التي اقترفها أدولف هتلر في برلين (1933)، غداة تسلمه لزمام الحكم في حق كل الكتب التي تتعارض مع الأيديولوجية النازية، ومن بينها — يا لمكر التاريخ! — كتب هاينه نفسه.
في ما يلي، قصيدة لهاينه بالعنوان نفسه، سابقة في كتابته على المسرحية، بل تبدو كأنها خطاطة أولى للنص الدرامي:
المنصور
1.
تَحْتَ قُبَّةِ قُرْطُبَةَ يرْتَفِعُ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِئَةِ عَمُودٍ، أَلْفٌ وَثَلَاثُمِئَةِ عَمُودٍ فَخِيمٍ تُسْنِدُ الصَّحْنَ الْكَبِيرَ.
اَلْأَعْمِدَةُ، الصَّحْنُ وَالْأَسْوَارُ — مِنَ الْأَعْلَى حَتَّى الْأَسْفَلِ —، مُنَمَّقَةٌ بِآيٍ مِنَ الْقُرْآنِ، بِزُخْرُفٍ عَرَبِسْكٍ بَدِيعٍ يَتَشَابَكُ بِفَنِّيَّةٍ.
شَادَ الْمُلُوكُ الْمُورِيسْكِيُّونَ، فِيمَا مَضَى، هَذَا الْبَيْتَ لِيُمَجَّدَ فِيهِ الله، وَلَكِنَّ الْأَحْوَالَ تَغَيَّرَتْ، وَمَع الْأَحْوَالِ حَالُ الْأَشْيَاءِ.
فَوْقَ الصَّوْمَعَةِ، حَيْثُ كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُنَادِي لِلصَّلَاةِ، يُجَلْجِلُ الْآنَ قَرْعٌ كَئِيبٌ لِأَجْرَاسٍ مَسِيحِيَّةٍ.
عَلَى الْأَدْرَاجِ، حَيْثُ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَبْتَهِلُونَ بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ، يُقِيمُ الْآنَ رُهْبَانٌ قَصُّوا شَعَرَ قُنَنِ رُؤُوسِهِمْ مزْحَةً مَحْزُونَةً لِقُدَّاسِهِمْ.
وَهَا هِيَ رَكَعَاتٌ وَالْتِوَاءَاتٌ أَمَامَ دُمًى مِنْ خَشَبٍ مَطْلِيٍّ، وَكُلُّ الْجَمْعِ بَيْنَ خُوَارٍ وَزَمْجَرَةٍ، وَشُمُوعٌ بَلِيدَةٌ تُلْقِي بِأَنْوَارِهَا عَلَى غَيْمَاتٍ مِنَ الْبَخُورِ.
وَفِي صَحْنِ قُرْطُبَةَ، يَقْفُ مَاثِلًا الْمَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَهُوَ يَرَى فِي سَكِينَةٍ الْأَعْمِدَةَ، لِيُوَشْوِشَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ:
”إِيْهِ، أيَتُهَا الْأَعْمِدَةُ، الْقَوِيَّةُ الْمُقْتَدِرَةُ فِيمَا مَضَى، كُنْتِ تُبْهِينَ بَيْتَ اللهِ، وَهَا أَنْتِ الْآنَ تُقِيمِينَ بِعُبُودِيَّةٍ وَلَاءً لِطُقُوسِ الْمَسِيحِ هَذِهِ!“
”هَا أَنْتِ الْآنَ تُجَارِينَ الزَّمَانَ، وَتَحْمِلِينَ بِاصْطِبَارٍ عِبْأَكِ. وَا أَسَفَاهُ! وَأَنَا الْمَجْبُولُ مِنْ مَادَّةٍ أَرْهَفَ، أَلَا يَلْزَمُنِي أَنْ أُوَاصِلَ بِاصْطِبَارٍ تَقَبُّلَ حِمْلِي؟“
وَبِوَجْهٍ يَبْعَثُ عَلَى السَّكِينَةِ، أَحْنَى الْمَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَأْسَهُ عَلَى بَيْتِ الْعِمَادِ الْبَدِيعِ فِي صَحْنِ قُرْطُبَةَ.
2.
خَرَجَ بِحَمِيَّةٍ مِنَ الصَّحْنِ وَانْطَلَقَ يَعْدُو عَلَى حِصَانِهِ الْعَرَبِيِّ؛ وَغَدَائِرُهُ بَعْدُ بَلِيلَةٌ بِالْمَاءِ الْمُقَدَّسِ، وَرِيشَاتُ قَلَنْسُوَّتِهِ تَخْفِقُ فِي الرِّيحِ.
عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْقُلَيْعَةِ، حَيْثُ يَجْرِي الْوَادِي الْكَبِيرُ، حَيْثُ تُزْهِرُ اللَّوْزَاتُ الْبَيْضَاءُ، حَيْثُ الْبُرْتُقَالَاتُ الذَّهَبُ تَعْبُقُ بِأَرِيجِهَا،
عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ، يَقُودُ الْفَارِسُ جَوَادَهُ، يُصَفِّرُ وَيُغَنِّي مَسَرَّةً، وَيَمْتَزِجُ صَوْتُهُ بِزَقْزَقَةِ الْعَصَافِيرِ وَخَرِيرِ النَّهْرِ.
فِي قَصْرِ الْقُلَيْعَةِ، تُقِيمُ كْلَارَا دَي أَلْڨَارِيسْ، وَبَيْنَمَا يُقَاتِلُ أَبُوهَا فِي نَاڨَارَّا، تَتَسَلَّى هِيَ بِلَا قُيُودٍ.
تَتَنَاهَى، مِنْ بَعِيدٍ، إِلَى مَسَامِعِ الْمَنْصُورِ دَقَّاتٌ صَنَّاجَاتٍ وُطُبُولٍ مُحْتَفِلَةٍ، وَيَرَى أَنْوَارَ الْقَصْرِ تَتَلَأْلأُ مِنْ خِلَالِ إِيْرَاقِ الْأَشْجَارِ الْكَثِيفِ.
فِي قَصْرِ الْقُلَيْعَةِ، تَرْقُصُ اثَنَتَا عَشْرَةَ سَيِّدَةً فِي كَامِلِ حُلْيَتِهِنَّ؛ يُرَاقِصُهُنَّ اثْنَا عَشَرَ فَارِسًا فِي كَامِلِ عُدَّتِهِمْ. وَلَكِنَّ الْمَنْصُورَ أَبْرَزُ مَنْ فِي هَذِهِ الْحَاشِيَةِ.
يَا لِرَفْرَفَتِهِ كَالْفَرَاشَةِ فِي الْبَهْوِ، بِمِزَاجِهِ الرَّائِقِ، وَهُوَ الْعَارِفُ بِمَا يَقُولُهُ لِكُلِّ سَيِّدَةٍ مِنْ عَذْبِ الْكَلَامِ!
يُقَبِّلُ بِفَوْرَةٍ يَدَ إِيْزَابِيلًّا وَيَهْرُبُ سَرِيعًا، ثُمَّ يَجْلِسُ قُدَّامَ إِلْڨِيرَا وَيَتَمَعَّنُ بِجَرَاءَةٍ فِي عَيْنَيْهَا.
يَسْأَلُ ضَاحِكًا لْيُونُورَا إِنْ كَانَ يُعْجِبُهَا الْيَوْمَ، وَيَشِي بِالصَّلِيبِ الذَّهَبِ الْمُطَرَّزِ عَلَى صَدْرِيَّتِهِ.
يُقْسِمُ لِكُلِّ سَيِّدَةٍ أَنَّهَا وَحْدَهَا مَلِيكَةُ قَلْبِهِ، ”مِثْلَمَا أَنَا حَقًّا مَسِيحِيٌّ!“، كَذَا يُقْسِمُ ثَلَاثِينَ مَرَّةً فِي نَفْسِ الْأُمْسِيَّةِ.
3.
فِي قَصْرِ الْقُلَيْعَةِ، تَوَقَّفَتِ الْمَسَرَّةُ وَالصَّخَبُ. اخْتَفَتِ النِّسَاءُ وَالْفُرْسَانُ، وَانْطَفَأَتِ الْأَنْوَارُ.
بَقِيَتْ دُونْيَا كْلَارَا وَالْمَنْصُورُ وَحْدهمَا فِي الْبَهْوِ؛ وَالْقِنْدِيلُ الْأَخِيرُ يَنْهَمِرُ عَلَيْهِمَا نُورُهُ الْمُتَوَحِّدُ.
اَلسَّيِّدَةُ عَلَى كَنَبَةٍ، وَالْفَارِسُ عَلَى مِرْقَاةٍ، رَأْسُهُ الَّتِي أَثْقَلَهَا الْوَسَنُ حَانِيَةٌ عَلَى رُكْبَتَيْ حَبِيبَتِهِ.
اَلسَّيِّدَةُ، الْحَنُونَةُ وَالْمُنْتَبِهَةُ، تَرُشُّ مِنْ قَارُورَةٍ ذَهَب رُوحَ الْوَرْدِ عَلَى الْغَدَائِرِ الْفَاحِمَةِ لِلْمَنْصُورِ، فَيَتَنَهَّدُ مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبِهِ.
بِشَفَتَيْهَا الشَّهِيَّتَيْنِ، تَطْبَعُ السَّيِّدَةُ، الْحَنُونَةُ وَالْمُنْتَبِهَةُ،قُبْلَةً عَذْبَةً عَلَى الْغَدَائِرِ الْفَاحِمَةِ لِلْمَنْصُورِ، فَتُعَتِّمُ غَيْمَةٌ جَبِينَ الْفَارِسِ النَّائِمِ.
اَلسَّيِّدَةُ، الْحَنُونَةُ وَالْمُنْتَبِهَةُ، تَبْكِي؛ فَيَنْهَمِرُ مِنْ عَيْنَيْهَا الَّأْلَاءَتَيْنِ سَيْلٌ مِنَ الدُّمُوعِ عَلَى غَدَائِرِ الْمَنْصُورِ الْفَاحِمَةِ، فَتَرْتَعِشُ شَفَتَا الْفَارِسِ.
فَيَرَى مَنَاماً: يَجِدُ نَفْسَهُ مَحْنِيَّ الرَّأْسِ بِعُمْقٍ وَبَلِيلًا بِالْمَاءِ؛ خِلَالَ التَّعْمِيدِ فِي صَحْنِ قُرْطُبَةَ؛ وَيَسْمَعُ كَثِيراً مِنَ الْأَصْوَاتِ الْمُبْهَمَةِ.
يَسْمَعُ كُلَّ الْأَعْمِدَةِ الْفَخِيمَةِ تُوَشْوِشُ؛ — رَافِضَةً مُنْذُ الْآنَ أَنْ تَحْمِلَ عِبْأَهَا، مُرْتَجَّةً مِنَ الْغَضَبِ وَمُتَرَنِّحَةً. لِتَتَحَطَّمَ بِعُنْفٍ؛ تَشْحُبُ وُجُوهُ الْجُمُوعِ وَالْقَسَاوِسَةِ، يَنْهَارُ الصَّحْنُ بِدَوِيٍّ، وَتَنْتَحِبُ الْآلِهَةُ الْمَسِيحِيَّةُ تَحْتَ الْأَنْقَاضِ.
(ترجمة ر.و.، عن الترجمة الفرنسيَّة لـ Gérard de Nerval)
سنوات هاينه الناضج: الشاعر الغنائي وكاتب الرحلات
في العام 1926، سينشر هاينه كتابين سيجلبان له اعتراف المشهد الثقافي الألماني به مكرهاً، وسيشكلان لحظة تأسيسية في تاريخ الأدب الألماني خاصة والأوروبي عامة: "رحلات في منطقة الهارز"، الذي سيرسم معالم أدب الرحلة الأوروبي كنوع أدبي أوروبي حديث، مستقل أسلوبياً وسردياً، منفصل عن كل من الرواية والسيرة الذاتية والأدب الجغرافي؛ و"كتاب الأغاني"، الديوان الذي جعل من هاينه شاعراً شعبياً، إذ تم تحويل شطر كبير من قصائده إلى أغان، كان أبرز من ألف لها توزيعاً موسيقياً روبرت شومان؛ ما زاد من إشعاع شعره ووصوله إلى شرائح واسعة من جمهور القراء والسامعين.
ولكن النقاد يعزون أكثر هذا الطابع الجماهيري لقصائد هاينه إلى خصائص داخلية، أسلوبية، ترتكز على السخرية، والتلميحات السياسية، فهو يعدّ نفسه "رومانسياً متفلتاً"، أما ذروة ما كتب في السخرية، فيبدو لعبة شكلية لا تخلو من دعابة سوداء:
"الرقيب الألماني .............................................................
............................................................................. بليد
...................................................................................".
منفى اختياري وموت في فرنسا التي تشبهه
مع اشتداد الرقابة، بسبب ميول هاينه الليبرالية (بالمعنى التقدمي في سياقها التاريخي)، يغادر نحو باريس في العام 1831. لتبدأ المرحلة الأخيرة من حياة الشاعر وأعماله، التي ستبقى مطبوعة بالحنين إلى موطنه، كما يظهر في قصائد ديوانه "قصائد جديدة" (1834)، ومنها القصيدة التالية:
خارج بلدي
كَانَ لِي فِي مَا مَضَى مَوْطِنٌ جَمِيلٌ. كَانَ يَنْمُو فِيهِ شَجَرُ الْبَلُّوطِ سَامِقاً، وَكَانَتْ تُعَبِّرُ فِيهِ الْبَنَفْسَجَاتُ عَنْ رَأْيِهَا بِعُذُوبَةٍ. كَانَ ذَلِكَ حُلْماً. كَانَتْ تُقَبِّلُنِي بِالْأَلْمَانِيَّةِ، وَبِالْأَلْمَانِيَّةِ تَقُولُ (وَلَنَا أَنْ نَتَخَيَّلَ كَمْ كَانَ بَدِيعاً رَنِينُ صَوْتِهَا) هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: — أَنَا أُحِبُّكَ!
كَانَ ذَلِكَ حُلْماً.
في العام 1948، وفرنسا ملتهبة بالموجة الثالثة من ثورتها (بعد 1789 و1830)، وبعيد تعرفه إلى كارل ماركس، يصاب هاينه بشلل شبه كامل، كأن الأقدار تعاكسه دوماً حتى في أواخر حياته: حين توفر له أن يشهد فورة الشعب الفرنسي وتوقه إلى استعادة حريته، تخون هاينه قدراته الجسمانية، لتحول دون أن يقدم شهادته في الصحافة عن تلك الأيام المجيدة. سيقضي السنوات الثماني الأخيرة من حياته طريح الفراش في ما سمّاه "سريراً - قبراً".
رغم هذا العجز الجسدي، سيواصل هاينه إنتاجه الإبداعي بديوانه "رومانس" (1851) ومسرحيته "الدكتور فاوستس" (1854)، و 3 مجلدات من الأعمال النثرية المجمعة لينطفئ في 17 شباط/فبراير من العام 1856، ويدفن في مقبرة مونمارتر.
المصادر والمراجع
Heinrich Heine: Poésies, traduction Gérard de Nerval, 1848.
Heinrich Heine: Nouveaux poèmes, traduction Anne-Sophie Asturp et Jean Guégan, Gallimard, 1998.