فان غوخ "ينزف" في سماء غزة.. لماذا لا يمكننا الطيران؟
مجموعة من الفنانين والمصورين الشباب يقيمون معرضاً في غزة، ويطرحون في لوحاتهم أسئلة حول سماء القطاع المسلوبة وظروف الحياة الاستثنائية.
استعارت فنانة شابة سماء فنسنت فان غوخ في لوحته الشهيرة "ليلة النجوم"، غير أن الأخيرة بدت مختلفة عن تلك التي رآها الفنان الهولندي، فقد كانت تنزف أحمر، بينما تتوسط السماء طائرة. الفنانة خولة العشي (18 عاماً) من غزة، أوضحت أن الأحمر يعبر عن "الدم". لذا، إن وجه السماء الذي رأته حين وقفت في منتصف مطار غزة الدولي "كان يبكي دماً"، وقالت: "سماؤنا غير طبيعية، وظروف حياتنا استثنائية".
وتساءلت العشي في حديث مع "الميادين الثقافية": "كان لدينا مطار بالفعل، لماذا إذا لا يمكننا الطيران؟". الدمار الذي حلَّ بالمكان جعله يبدو وكأنه في حالة غضب دائم، كما أن كل من يزور المكان يتملكه الشعور والاستياء نفسه. سبق لخولة أن عاشت تجربة السفر قبل عامين، عن طريق معبر رفح البري مروراً بمطار القاهرة. "3 أيام قضيتها وعائلتي في الانتظار فقط. استغرقت أختام جوازات السفر يوماً كاملاً، كما أننا تعرضنا للتفتيش المُهين"، قالت العشي، وأضافت: "منذ بداية رحلتي، قررت أنها ستكون الأخيرة. لن أكرر تجربة السفر".
أما الفنان محمد سامي قريقع (23 عاماً)، فقد قرر أن يسافر بحقيبته المعروضة ضمن لوحاته الثلاث في معرض "مطار غزة الدولي" الذي يختتم فعالياته اليوم الخميس، ولكن غابت ملامح حقيبته خلف نبات الصبار الذي نما عليها بكثافة.
يقول الفنان الشاب: "إنها مقيدة بالصبار الذي تسببت به الحواجز والتعقيدات المفروضة على حركتنا منذ سنين طويلة"، وتابع بينما كان يقف إلى جوار لوحاته: "الصبر أيضاً هو أفكاري التي نبتت وكبرت هنا، وهو لحظة انتصار بالنسبة إلي. لذا، سآخذ حقيبتي بكل تفاصيلها وتعقيداتها".
محمد وخولة عضوان في فريق "بنفسج"، الذي ينفذ مجموعة رحلات استكشافية للمناطق الأثرية والمهمة داخل قطاع غزة، غالبيتهم فنانون ومصورون في مُقتبل العمر، وكانت زيارة المطار هي أحد مسارات هذا الفريق.
ويوضح قريقع: "تأثرنا كثيراً لما رأينا وعرفنا عن المطار. كل شخص كوّن فكرة وانطباعاً. لذا كان المعرض أحد مخرجات فريق بنفسج".
بعض اللوحات كانت تعبر عن جروح في السماء تم رتقها، لكنها استمرت بالنزف، والبعض الآخر يحمل أسئلة والكثير من الإنكار. "لماذا سماء بلادي مغلقة؟ لماذا أجنحتي مكسورة محروقة؟"، تتساءل مي الشاعر من خلال لوحتها التي يغلب عليها اللونان الأزرق والأبيض. وعلى الرغم من صفاء الأزرق في لوحتها، فإنها أسمتها "بوابة السماء المُغلقة"، فهي ترى أنَّ السماء مفتوحة والمعالم المدمرة تدل على وجود مطار في وقت سابق. "لماذا لا يمكننا الطيران؟، لأن أجنحتنا مكسورة ومحروقة"، تسأل وتجيب في الوقت نفسه.
الأجنحة المتكسرة هنا ليست عنواناً لكتاب جبران خليل جبران، بل هو مشهد يملأ عينيك حين تنظر إلى لوحة الفنانة الشاعر.
"حين وصَلت إلى مطار غزة الواقع أقصى شمال مدينة رفح، تخيلتُ نفسي حمامة بجناحين متكسرين لا تصلح للاستعمال، بقيتُ واقفة في حالة انتظار، وكل ما يسعنا فعله هو الانتظار". هذه الفتاة التي تبلغ من العمر 20 عاماً، تتحدث بسأم ونفاد صبر. تعتقد بأنّ من حقها أن تتمتع بالحرية كباقي الناس في دول العالم. وبعد وقت من الاستغراق في لوحتها، يمكن أن تلحظ ريش صغير تطاير نحو السماء. تفسر الشاعر: "إنه الأمل الذي لا يغادرنا؛ الأمل بالسفر".
عرفت مدينة غزة مطاراً ومسافرين. تم البدء ببنائه في العام 1996 في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، وكان يُسمى "مطار ياسر عرفات الدولي". عمل كبوابة رئيسية للفلسطينيين حتى العام 2000. بعدها، نفذت قوات الاحتلال الإسرائيلي عدة غارات وعمليات هدم وتجريف طالت مبانيه ومنشآته.
وتزين مباني المطار نقوش الفسيفساء المغربية، بينما ما زالت القبة الذهبية التي اعتلت إحدى مبانيه تُلوح للمارة من هناك، كما لوح الخراب للزوار الشباب على بعد 300 متر قبل وصولهم، ما جعلهم يُصابون بالجزع والحزن، بحسب قريقع.
بعد أن توقف العمل في المطار مطلع العام 2001، ازداد التضييق على الفلسطينيين وفرض القيود على حركتهم، إذ لا يوجد مطار بديل، بل يضطر المسافرون إلى اللجوء إلى مطار القاهرة، بعد قضاء رحلة مُضنية في معبر رفح البري جنوب القطاع.
من الجنوب إلى الشمال، لا فكاك من الصعوبة والحصار الذي يتربص بالمسافرين. خيار السفر إما عبر جسر الأردن وإما عبر اجتياز حاجز بيت حانون "إيرز" شمال مدينة غزة، الذي يربط بين القطاع والضفة الغربية، والذي تُسيطر عليه "إسرائيل" بشكل كامل. ومع ذلك، يعتبر رفاهية لا يملكها إلا قلة قليلة.
"المكان مهجور". هذا ما تُخبر به الصور المعروضة في الطابق الثاني في "المعهد الفرنسي" الذي يستضيف المعرض. الرمال كثيفة والحشائش الخضراء منتشرة في المكان. بعض جوانبه حوّلها المارة إلى مكب للنفايات، لكن هذه التفاصيل تتضاءل. يبتعد مهند اللدعة ليلتقط الصور الفوتوغرافية للمطار ولأصدقائه لتوثيق الرحلة.
الركام والكتل الإسمنتية التي تكومت بفعل التدمير تبقى شاهد عيان يستقبلك فور وصولك من معبر رفح البري، أو يرافقك إن كنت عازماً على المغادرة. يرافقك حصارك في عينك وذاكرتك، وجواز سفرك عند المرور بمطارات العالم المفتوحة.