غيفارا.. كاتب أميركا اللاتينية
نعرفه قائداً ثورياً.. لكن ماذا نعرف عن غيفارا الكاتب؟ تعالوا نكتشف ذلك معاً.
"وُلدتُ في الأرجنتين، وقاتلتُ في كوبا، وبدأتُ حياتي ثائراً في غواتيمالا". هكذا يوجز إرنستو تشي غيفارا دي لا سيرنا سيرة حياته، باختصارٍ شديدٍ، كما يورِد أندرو سنكلير في كتابه عنه.
من النادر في التاريخ أن تتوازى سيرة قارّة بأكملها، قارة أميركا اللاتينية، مع سيرة حياةِ إنسانٍ، قارّة وقعت في تناقضاتٍ بين حكومات رجعية وثوراتٍ طوباوية. قارّة اشتُهِر غيفارا بأنه كان أول إنسان، منذ أيام سيمون بوليفار، يحمل خطّة جدية لتوحيد بلدانها.
لكننا هذه المرّة لا نبحث عن قصّة البطولة الخارقة، بل عن الجانب الإنساني من القصّة، التي يمكن اعتبارها كغيرها من القصص؛ تتتبّع مسار إنسان قرّر فجأة أن يرتحل آلاف الكيلومترات، على متن درّاجة، لأنّ المبدأ الذي يسيّر حياته هو الارتجال.
وعلى الرغم من أنّ شخصيّة غيفارا تبدو روائيّة، أقرب ما تكون إلى "النبيل البارع أو الشريف العبقري، دون كيخوته دي لا مانتشا"، في خروجه المرتجَل وارتحاله الذي يبدو بلا هدف، إلا أنّ سيرته تلاحق وجود إنسان من لحمٍ ودم ، له شرطه الوجودي والتاريخي، وتحفر عميقاً في جوهره الخاص، لتحدِّد كينونته المقبلة، التي ستثبت فعاليّتها في تغيير العالم، كما تمنّى صاحبها في شبابه.
أحلامه لا تعرف حدوداً
جاء غيفارا إلى الدنيا عام 1928، وكان رفاقه ينادونه في طفولته بلقب "تي تي". كان يهرب من البيت، ويكسر الأضواء في الشارع، ويتصارع مع أخيه ألبرتو. ثم في لحظة ارتجال، قرّر أن يطوف أميركا اللاتينية مع صديقه ألبرتو غرانادو، على متن دراجة اسمها "الجبارة الثانية".
تغيّر العالم بعد سنواتٍ من ذلك، وكان غيفارا - الذي صار معروفاً بالكومنداتور تشي - مساهماً في هذا التغيير، وجزءاً كبيراً من أسبابه.
صار يوقّع على النقود بازدراءٍ بلقب "تشي"، عندما شغل منصب رئيس البنك الكوبي، وقد قلّص حينها من راتبه الشخصي بعد أن وجده "كثيراً على منصبه". بعد ذلك ذهب إلى بوليفيا متنكراً على أنّه "الطبيب رومان"، ليخوض هناك ثورةً جديدةً، قبل أن يُستشهد في 9 تشرين الأول/أكتوبر سنة 1967.
لو أُتيح لغيفارا أن يكون كاتباً، لأمكن أن يصبح واحداً من أولئك الذين يستطيعون تغيير العالم من خلال كتبهم، وعبر توظيف الكلمة إطار الفعل، في إطار الحراك، وفعل الثورة والتغيير.
ثمة شيئان بقيا لنا منه: صورة ألبيرتو كوردا، التي التقطها له في 4 آذار/مارس من العام 1960، أما الشيء الآخر فهو الكتب التي وضعها.
ترك غيفارا لنا يوميّاته، سواء في بوليفيا أو على متن الدراجة النارية، وكذلك مذكّراته في الحرب الثورية، بالإضافة إلى كتب أخرى مثل "بعد انتصار الثورة" و"مبادئ حرب الغوار". ومن هذه اليوميّات - المذكّرات يمكن اكتشاف رحلة الإنسان والكاتب الفذ، لا البطل الخارق أو حتى المحارب.
غيفارا الذي كتب بلغة خلّابة، وبوجهة نظر رأت العالم بطريقة مميزة يمكن أن تغيّر قارئها. يمكن القول إنّه في عالمٍ موازٍ، لو أُتيح لغيفارا أن يكون كاتباً، لأمكن أن يصبح واحداً من أولئك الذين يستطيعون تغيير العالم من خلال كتبهم، وعبر توظيف الكلمة إطار الفعل، في إطار الحراك، وفعل الثورة والتغيير.
إنّ واحداً من كتبه يمكن أن يُطلِعنا على هذا الاحتمال، وهو "يوميات دراجة نارية" (ترجمة: صلاح صلاح/دار السويدي)، الذي كتبه خلال رحلته في عوالم أميركا اللاتينية خلال العام 1952، وكان حينها ما يزال شاباً مدنياً عادياً، قبل أن يتحول إلى أسطورة من خلال عوامل عدّة.
كلٌّ منا يفهم الآخر إذاً
ليست رحلة تشي على دراجته قصة تُقرأ ويتمّ الفكاك منها ببساطة عند الصفحة الأخيرة. بعد إنهاء قراءة الكتاب سوف يبقى علقٌ من روح إنسانية هادئة وعظيمة، انشطرت إلى نصفين متصارعين بفعل مشاهداتها وصراعها مع اليوميّ والمعتاد والمأسوي.
سيبقى علقٌ من هذه الدونكيشوتية بين المثال والواقع، وبين مصير إنسانين مختلفين كل الاختلاف، على الرغم من كونهما واحداً. هذا الواحد، حين يختار جوهره، سيغيّر جزءاً من العالم، جزءاً ليس باليسير، إنه مصير جغرافيا، ومصير بلد، وأوشك أن يكون مصير قارّة.
تكمن لعبة السرد في "يوميّات دراجة نارية"، في أنّها منقسمة إلى حياتين، أو هي "لمحة حياتين سارتا متوازيتين لفترة من الزمن، بآمال متماثلة وأحلام متقاربة"، كما يقول غيفارا نفسه.
إنّها لعبة الاسترجاع إذاً، أو التحليل الرجعي، كما يُطلِق النُقّاد على أسلوب الكتابة المسرحي عند هنريك إبسن. وغيفارا، من هذا المنظور، موجود مرّتين، مثل توم ونغفيلد في مسرحية تينيسي ويليامز "تماثيل الوحوش الزجاجية". وغيفارا هنا، أيضاً، هو الآخر الذي كتب عنه خورخي بورخيس كثيراً، ودعا إليه، إنّه الآخر لنفسه، والآخر الكبير الذي يتذكّر آخره الصغير ويتذكّر حياته، بما يشبه الكتابة عن ميت.
تكمن لعبة السرد في "يوميّات دراجة نارية"، في أنّها منقسمة إلى حياتين، أو هي "لمحة حياتين سارتا متوازيتين لفترة من الزمن، بآمال متماثلة وأحلام متقاربة"، كما يقول غيفارا نفسه.
لشرح ذلك لا بُدَّ من الاستعانة بغيفارا نفسه الذي يقول: "الشخص الذي كتب هذه اليوميات توفي لحظة لمست قدماه تراب الأرجنتين، الشخص الذي أعاد تبويبها وصقلها، أنا، لم يَعُد له وجود. على الأقل لستُ ذلك الشخص الذي كان".
إنه يكتب كإنسانين إذاً، مشطور إلى شطرين. هذه هي سرديّته، وهذه قصّته الإنسانيّة. يتكلم الرجل، كما يقول غيفارا: "مقياس كل الأمور على لساني، ويسرد بلغتي ما شهدته عيني". إنّه "الرجل الذي كان".
المذكرات مادة أدبية
ينتمي الكتاب إلى "أدب الرحلة"، كما يمكن تصنيفه في "أدب المذكّرات"، وهو مقسّم إلى 45 فصلاً، لكلٍّ واحدٍ وحدانتيه وفردانيّته. وهو كتابٌ خاص، حساس، في الآن ذاته، لأنّ الأبطال في الحياة يصيرون حقاً عاماً في ما بعد، يثيرون فضولنا لنعرفهم كبشرٍ عاديين اجتماعيين، قبل أن نرى فيهم الخارق والمثاليّ.
إنّه يُرينا الصورة الطبيعية لشابٍ عادي، يدرس الطب، قبل أن يرتجل في لحظةٍ ما قراراً يقلعه من جذوره الاجتماعية، لا ليهيم بكيانه في هيولى واسعة وغير معلومة، بل ليضعه أمام بوّابة الحرية، حيث سيسير لاحقاً، وقد اكتسب كيانه الثوري.
والرحلة بشكلها العام قامت على الارتجال، فصنعت إنساناً غيّر العالم، رأى بلادة زمنه وظلمه ولا جدواه، فاقتلعه من جذوره ليؤسس لزمنٍ آخر. نتأكد من ذلك حين نقرأ إعلانه الصريح، في ختام رحلته التي رأى فيها الكثير، بكلماتٍ واثقة تبدو استشرافاً لمستقبله الشخصي، حيث يكتب: "سأكون إلى جانب الشعب، أعلم هذا، سأهاجم المتاريس أو الخنادق، وسأحمل سلاحي الملطخ بالدم. أرى نفسي قرباناً في الثورة الحقيقية، المعادل العظيم لإرادة الأفراد، المُقِرّ باقتراف أفدح الأخطاء سابقاً. أشعر أنّ أنفي يتّسع ليستنشق الرائحة اللاذعة للبارود والدم وموت العدو. أُعِدُّ نفسي للمعركة لتكون فضاءً مقدساً، يستطيع من خلاله العواء الوحشي لانتصار البروليتاريا أن يدوي بطاقة جديدة وأمل جديد".
إنّ مثل هذا الخطاب - بكلمات ميشيل فوكو - لا يؤمن طول البقاء، ولا يتحاشى صاحبه الموت، بل يؤسسه.
يبدو غيفارا في روايته لهذه المذكرات حقيقياً تماماً، خلّاباً في شعوره وانتمائه الإنساني، من دون أي انتماءٍ إلى جغرافيا أو جنسية، بل هو انتماءٌ إلى المُعذَّبين الذين اكتشفهم وإلى معاناتهم.
ولأنّ الحقيقة، كما يقول ماركيز، هي أفضل شكلٍ أدبي، تظهر مذكرات الشاب غيفارا ومغامراته في شكلٍ مثاليّ، حقيقيّ وعفويّ، وهو يشركنا معه في الرحلة، حيث لا يصف لنا المطر فحسب، بل يجعلنا نبتل، كما أوصى إدوارد غاليانو الكتّاب.
إضافة إلى ذلك، وبما أنّ الرحلة قد بدأت بارتجال، تبدو شخصية غيفارا فيها مثل شخصيات كونديرا التي تبدأ من استعارة، أو جملة، أو مركّب مجازي. حين التوغّل في المادة الأدبية لليوميات، يمكّن من إيجاد العديد من الأساليب ومقاربتها مع أساليب كتّابٍ آخرين.
كما أنَّ هذه المذكرات تسير وفقاً لصراعٍ متصاعد، حيث تأخذ في بعض المواقف البناء الروائي، إذ نتابع شخصيّةً تمرّ بمنعطفات تغيّر وجهات نظرها، نتابع بناءها على نحوٍ كامل، منذ الولادة حتى التبلور الكامل، أي حتى تصير وجهة نظر ثابتة، هي في حالتنا هذه من دون شك الوجهة الثورية الرافضة للظلم الواقع في العالم.
في غيفارا الكاتب أيضاً يمكن إيجاد روح الشاعر الفرنسي أرتور رامبو، التي تلبّسته، حيث "يذهب بعيداً بعيداً جداً، عبر الطبيعة"، ويمكن مقاربة حياة الاثنين معاً.
تظهر مذكرات الشاب غيفارا ومغامراته في شكلٍ مثاليّ، حقيقيّ وعفويّ، وهو يشركنا معه في الرحلة، حيث لا يصف لنا المطر فحسب، بل يجعلنا نبتلّ.
يبدو الكتاب، إذا خصّصنا أن نعامله كمادةٍ أدبيّة إبداعيّة، حصيلة قراءات واسعة وموسوعيّة، إذ لا يخلو من الكوميديا السوداء التشيخوفية، والمغامرات الدونكيشوتية في فصل "المتخفون تهرباً من دفع الأجرة"، كما تحضر المآسي الإغريقية، حيث يسقط الأبطال في مأساتهم بفعل القدر، وهو الأمر الذي نلاحظه في فصل "ابتسامة الجوكاندا".
كما تحضر الكتابة الوصفيّة بقوة، في فصول مثل "طريق البحيرات السبع"، "شوكيكاماتا"، و"أرض قاحلة تمتد أميالاً"، بالتوازي مع حضور المواد المعرفية، حين يتحدث الكاتب عن ميثيولوجيا "الإنكا"، في فصل "السّرة".
من وجهة نظرةٍ ثانية، يمكننا أن نجد الكتاب مليئاً بالشعر، فيه روح الشاعر الإسباني لوركا، وفي تشيلي نشعر أن نيرودا هو من يسرد.
يمكننا القول في المحصلة إنّ غيفارا في هذا الكتاب ليس الثائر الذي نعرفه، ولا الذي يمكن أن نحمل مآخذنا على سيرته من هذا المنظور، بل الكاتب والشاعر الذي يريد منا أن نعثر عليه.
في عالمٍ آخر
في الصفحات الأولى، يحذّرنا الشاب، الذي سيصبح أحد أبطال القرن الـ20 الحقيقيين، أنّ هذه ليست قصة بطولة خارقة.
تقرع كلمة بطولة في آذاننا، لأنّنا لا نستطيع قراءة هذه الصفحات بمعزل عن التفكير في مستقبل تشي، صورته في "سييرا مايسترا"، صورة تبلغ الكمال في "كيبرادا ديل ورو" في بوليفيا، وهو الوادي الضيق الذي وقعت فيه وحدة تشي في كمين، وأُسِر ثم قُتل في اليوم التالي.
يقول تشينتيو فيتير، في مقدمته لكتاب اليوميات، إنّ "غيفارا لا يسعى إلى المهارة الأدبية، بل إلى الإخلاص إلى التجربة وتأثير السرد". تأتي المهارة بشكلٍ طبيعي وتأخذ مكانها المقرر عند الحصول على كليهما، من دون أن تُعمي أو تُزعج بل هي تُنجز إسهامها فحسب.
حين نحفر في طبيعته الاستثنائية، والمذكرات واحدة من السبل إلى ذلك، سنُدرج الشاب غيفارا ضمن ما هو حميمي وأثير لدينا، لا ثائراً فحسب، بل مكتشِفاً وبحّاراً وجغرافياً وكاتباً، وقبل هذا كلّه إنساناً.
هنا، بقليلٍ من التماس الطريق أو التردد، يتشكّل أسلوب تشي الذي أجبره خجلٌ ساكن ألا يسهب كثيراً في شعر الصورة العارية، بل يجذب الكلمات صوبه، ما يشكّل لمسته الأدنى المتحولة إلى واقع.
لو لم نكن على معرفة أنّ اليوميّات مكتوبة بيد حفّار ماهر في جذور التاريخ، قام باقتلاعها وتغييرها، لكُنّنا نقرؤه الآن كما نقرأ "عجائب المخلوقات" للقزويني، أو "المسالك والممالك" لابن حوقل، أو "رحلة ابن بطوطة" و"أوديسيوس" و"دون كيخوته".
لكن لأنّ الذي كتب هذه اليوميات هو ذاته الرجل الذي تحوّل إلى أسطورة القرن الماضي، فذلك كفيلٌ بقراءته على نحوٍ خاص، شخصيّ، ونحن نلتقط أنفاسنا بدهشة، بينما نكتشف الرجل ونعرف سمات حياته العادية.
ثم، حين نحفر في طبيعته الاستثنائية، والمذكرات واحدة من السبل إلى ذلك، سنُدرج الشاب ضمن ما هو حميمي وأثير لدينا، لا ثائراً فحسب، بل مكتشِفاً وبحّاراً وجغرافياً وكاتباً، وقبل هذا كلّه إنساناً.