غونتر غراس: "ضمير ألمانيا" أيقظه الضرب على طبلٍ من صفيح!
عُرِف بمواقفه التقدمية ومعارضته للنازية، على الرغم من عضويته في أخطر وحداتها الإجرامية خلال الحرب العالمية الثانية.. ماذا تعرفون عن الأديب الألماني غونتر غراس؟
حين زار الرئيس الأميركي رونالد ريغان، والمستشار الألماني هلموت كول، مقابر "بيتبورغ" العسكريَّة في ألمانيا الغربيَّة، ربيع العام 1985، على هامش قمة "بون" الاقتصاديَّة، للاحتفال بمرور 40 عاماً على انتهاء الحرب العالميَّة الثانية، وإيذاناً ببدء مرحلةٍ جديدةٍ من السلام بين أعداء الأمس، احتجَّ قسمٌ من الأميركيين ومنظمات يهوديَّة على ما اعتبروه "تكريماً للنازيين السابقين"، خصوصاً أنَّه ترافق مع اعتذار ريغان عن زيارة أحد معسكرات الاعتقال النازيَّة في "داخاو"، لكون الدعوة غير رسميّة، بل شخصيّة، من أحد خصوم كول السياسيين، فبدا كما لو كان يتعمّد تجاهل المحرقة النازية، قبل أن يتحوّل الأمر إلى قضيَّة رأي عام شملت جميع أعداء النازيَّة وخصومها، وانتهت بتقصير مدّة زيارة "بيتبورغ"، وتدبير زيارةٍ مرتجَلةٍ إلى أحد معسكرات الاعتقال.
قال ريغان يومها إنَّ الأميركيين حاربوا وانتصروا وقتلوا هؤلاء الجنود، وحان الوقت لفتح صفحةٍ جديدةٍ، وإنَّ الجنود الألمان القتلى هم بدورهم ضحايا للنازيّة، شأنهم في ذلك شأن ضحاياهم. كان يمكن لهذا التصريح أن يرضي الجميع وينهي الجدل، لولا أنَّ في المقبرة جنوداً غير عاديين لا يوافق البعض على قدرة الزمن على محو أثر أفعالهم وتحويلهم إلى ضحايا. الكلام هنا عن جثامين 49 من أعضاء "وافن أس أس" أو الشرطة العسكريَّة للحزب النازي، وهي قوّة خاصّة اتُّهِم أفرادها بارتكاب جرائم مروّعة، وصُنِّفت كمنظمة إجراميَّة في محاكمات "نورمبرغ"، التي أُجريَت خلال العامين 1945 و1946، ووُصِفت بـ"أعظم محاكمة في التاريخ".
غونتر غراس، الروائي الألماني المعروف، كان واحداً ممن أدانوا زيارة "بيتبورغ"، ولم يكن موقفه مستغرَباً، فالرجل أشهر عداءه للنازيَّة منذ روايته الأولى "طبل الصفيح".
ستمرّ أعوامٌ كثيرةٌ قبل أن يعلن غراس في مذكراته، التي نُشِرَت في العام 2006 وحملت عنوان "تقشير البصلة"، أنَّ خدمته في أواخر الحرب العالميَّة الثانية كانت في "الوافن أس أس"، وربّما لو اختلفت الأقدار قليلاً لكان في المقبرة التي زارها ريغان وكول؛ 50 ضريحاً للمنظّمة الدمويّة لا 49 فقط!
حياة حافلة
وُلِد غونتر غراس في 16 تشرين الأوَّل/أكتوبر 1927، في مدينة "دانتسيغ" (غدانسك حاليّاً)، التي كانت تابعة لألمانيا في ذلك الحين، ثم أصبحت دولة شبه مستقلة، قبل أن يجري ضمّها لاحقاً إلى بولندا، وشارك في الحرب العالميَّة الثانية ضمن سلاح الطيران الألماني (كل ما صرّح به قبل اعترافه الشهير أنَّه كان واحداً من الشبّان الألمان الذين عملوا مجبَرين في مهام بسيطة نسبياً، مثل حراسة البطاريَّات المضادّة للطائرات)، ومع انتهاء الحرب وقع أسيراً في قبضة القوات الأميركيَّة، قبل أن يطلَق سراحه في العام 1946.
عمل غراس مزارعاً، ثمَّ عاملاً في منجم للبوتاسيوم، ثمَّ درس فنّ النحت في مدينة "دوسلدورف"، قبل أن يتابع دراسته في جامعة برلين ويتخرَّج منها عام 1956، ليبزغ بعدها نجمه الأدبي مع روايته الأولى "طبل الصفيح"، التي نُشِرَت في العام 1959، وتحكي قصَّة الطفل أوسكار، الذي يرفض النموّ طوعاً، بعد مشاهدته عدداً من الجنود يقتلون المدنيين من بين شقوق مبنى قديم في "دانتسيغ" كان يمارس فيه هواية القرع على الطبل، فأثّرت به هذه الحادثة إلى الحدّ الذي توقّف فيه إداركه عند حدود إدراك ولد يافع، ليكون كبلاده ألمانيا، شاهداً على بشاعة الحرب وعلى تاريخٍ لن يُنسى.
بزغ اسم غراس مع روايته الأولى "طبل الصفيح"، التي نُشِرَت في العام 1959، وتحكي قصَّة الطفل أوسكار، الذي يرفض النموّ طوعاً، بعد مشاهدته عدداً من الجنود يقتلون المدنيين من بين شقوق مبنى قديم في "دانتسيغ" كان يمارس فيه هواية القرع على الطبل.
الرواية التي أحدثت ضجّة نقديّة، وصنعت لكاتبها شهرة عظيمة، وحوَّلها المخرج فولكر شلوندورف إلى فيلم فاز بجائزة "الأوسكار" في العام 1979، تلتها روايتا "القط والفأر" (1963)، و"سنوات الكلاب" (1963)، لتشتهر الروايات الـ3 بعدها باسم "ثلاثيَّة دانتسيغ"، وتلقى رواجاً كبيراً، وتترجَم إلى لغات عالميَّة عديدة.
مسيرة غراس الأدبيَّة، التي تُوِّجَت بحصوله على جائزة "نوبل للأدب" في العام 1999، لم تقتصر على نوع أدبيّ أو مجال فنيّ واحد، بل شملت الرواية والقصَّة والشعر والمسرح والمقالة والرسم والنحت، فضلاً عن كونه ناقداً اجتماعيّاً وناشطاً سياسيّاً له مواقف جريئة، والنقطة الأخيرة هي ما سيستغله منتقدوه في الغرب للتصويب عليه، بعد اعترافه الشهير بعضوية الـ"الوافن أس أس"، فكيف لهجّاء الحرب وداعية السلام هذا أن يخفي عن الناس سرّاً خطيراً كهذا حول ماضيه؟ وأيّ مصداقية تبقى له بعد ذلك؟ وهل هو نفاق موصوف أم مجرّد انفصالٍ عن الواقع؟
عدوّ "إسرائيل" اللدود
جاءت مواقف غونتر غراس السياسيَّة، على الدوام، متزنة ومتجانسة وجريئة ولائقة بأديب عظيم، ينشد السلام ويتلو فعل الندامة عن حقبة مرّت في حياته، كان فيها مجرد مراهق لم يتشكّل وعيه وتنضج أفكاره بعد على النحو الذي صاره لاحقاً. أما إخفاؤه حقيقة دوره في الحرب فهو سلوك بشريّ من البديهي أن يلجأ إليه كل من أتاحت له الظروف ذلك، كي لا تتهشَّم صورته فتفقد أفكاره قدرتها على الجذب والإقناع، في حين أنَّ الاعتراف المتأخر مفهوم أيضاً، بعد أن أصبح صاحبه غير قادر على تحمل وزر الصمت لفترة أطول، إذ يقول غراس عن كتابته لمذكراته "تقشير البصلة": "لقد كان عبئاً عليّ. صمتي طوال هذه السنوات هو أحد الأسباب التي دفعتني إلى تأليف الكتاب. كان يجب أن يخرج في النهاية".
ولعل الحملة المنظَّمة على غراس لم تكن إلا لاقتناع الصهاينة بأنَّ أي مراجعة ذاتيَّة لنازيٍّ سابق، ينبغي أن تنتهي به مرتمياً في أحضان الصهيونيَّة ومدافعاً عن "إسرائيل" بشراسة، باعتبارها تعويضاً لا بدّ منه عن المحرقة، ولكن الرجل المتصالح مع نفسه يعرف أنَّ النازيَّة بنسختها الألمانيَّة اندثرت بعد الحرب، وأن أيّ توبة حقيقيَّة لا تكون إلا بمجابهة النسخ الحديثة منها وأبرزها "إسرائيل"، لذا كانت مواقفه مزعجة دائماً لـ"إسرائيل" وداعميها، وفي طليعتهم الولايات المتحدة الأميركية، بدءاً من إشادته بالخبير النووي موردخاي فعنونو، الذي كشف تفاصيل البرنامج النووي الإسرائيلي السري عام 1986، من خلال قصيدته "بطل من أيامنا"، إلى معارضته الحرب على العراق عام 2003، إلى تضامنه الدائم مع الشعب الفلسطيني، وانتقاداته الحادّة للمجتمع الدولي والدول الغربيَّة على نفاقها وصمتها عمَّا يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، إلى قصيدته الشهيرة في العام 2012، التي انقضّ فيها على حكومة بلاده بسبب تزويدها "إسرائيل" بغواصات يمكن تجهيزها بأسلحة نوويَّة.
لعل الحملة المنظَّمة على غراس لم تكن إلا لاقتناع الصهاينة بأنَّ أي مراجعة ذاتيَّة لنازيٍّ سابق، ينبغي أن تنتهي به مرتمياً في أحضان الصهيونيَّة ومدافعاً عن "إسرائيل" بشراسة، باعتبارها تعويضاً لا بدّ منه عن المحرقة.
القصيدة النثريَّة التي حملت عنوان "ما ينبغي أن يُقال"، كانت مناسبة لاستعادة اعترافات غراس في الإعلام الإسرائيلي والغربي على السواء، والتشهير به، والدعوة إلى مقاطعته، وتذكيره بأنه نازيّ سابق "ترسّخت العنصريَّة النازية في حمضه النووي"، ومعادٍ للسامية، ولكن "ضمير ألمانيا"، الذي صار شوكة في خاصرة اليمين العنصري على اختلاف أجنحته، وبوصلة أخلاقيَّة لأجيال كاملة من الشباب بعد الحرب، كان يحمل الجواب ذاته دوماً "ما ارتُكِبَ في الحرب العالميَّة الثانية من فظائع لن يكون ذريعة للصمت"، و"واجبنا الأوَّل هو عدم التزام الصمت"، وهو ما ظل صاحب "مشية السرطان" يفعله حتى وفاته في نيسان/أبريل من العام 2015، في مستشفى "لوبيك" شمالي ألمانيا، عن 87 عاماً.
المصادر
- مذكرات الرئيس الأميركي رونالد ريغان، جريدة "الديار"، 22 آب/أغسطس 2014.
- غونتر غراس، الموسوعة البريطانيّة/ بريتانيكا.
- "غونتر غراس، الرجل الذي كسر حاجز الصمت"، صحيفة "الغارديان" (الطبعة الأميركية)، نيل آشرسون وآخرون، 18 نيسان/أبريل 2015.
- "وفاة غونتر غراس عن 87 عاماً؛ الكاتب الذي كشف ماضي ألمانيا وأخفى ماضيه"، صحيفة "نيويورك تايمز"، ستيفن كينزر، 13 نيسان/أبريل 2015.
- "غونتر غراس.. رحيل روائي أغضب إسرائيل"، موقع "سكاي نيوز عربية"، 13 نيسان/أبريل 2015.
- "غونتر غراس: قال ما يجب أن يقال ورحل"، صحيفة "العربي الجديد"، 13 نيسان/أبريل 2015.
- "رحيل غونتر غراس: النوبلي الذي أسكَت أدورنو"، موقع "المدن"، 13 نيسان/أبريل 2015.
- "غونتر غراس.. الأديب السياسي وضمير الشعب النابض"، موقع "دويتشه فيله"، 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
- "غونتر غراس، في علاقة الأدب بالأخلاق"، جريدة "الأخبار"، ملحق "كلمات"، حسين الموزاني، 17 نيسان/أبريل 2015.