غسان كنفاني يبقى حاضراً وهو في السادسة والثمانين
بعد 50 عاماً على تفجير سيارته يزدداد غسان كنفاني شباباً وهو يرى شباب فلسطين يقتحمون تل أبيب، وابتسامته تتسع وتضئ وتبارك.
ليس من اللياقة، ولا الموضوعية المفتعلة، الكتابة عن غسان كنفاني بالدموع، والحزن، والأسف..وكأن من يكتب يدبج خطبة تأبين ظناً منه بأنه يفيه حقّه من الندب، وينسى أن غساناً يعلق ابتسامته في كثير من صوره ويرسل نظرةً متأملة موجهة إلى أشخاص كثيرين. نظرة فيها قول كثير، وهذا الكثير ليس لغزاً، ولكنه ( تعاليم) تُقرأ في حكايات، وقصص، وروايات، وسجالات مع من هم امتداد لأبي الخيزران.
قلت لنفسي: ماذا أكتب عن غسان الذي شاهدت قطعاً من لحم بدنه المضمخ بدمه في ذلك اليوم المُر الثقيل السواد في 8 تموز/يوليو عام 1972؟
عندما نسفوا غساناً ومعه ابنة أخته - هُم كانوا يريدونه هو ولا مانع لديهم من قتلها معه فهي فلسطينية - هدفوا إلى إنهاء القدرات المدهشة التي يمتلكها، والتي يحاربهم بها، فالفلسطيني بالنسبة لهم لا يجب أن يكون موهوباً، مسلحاً بقدرات إبداعية، بثقافة، بموهبة متعددة الجوانب، بطاقة مبهرة، بقدرات تثير دهشة مثقفين أوروبيين وتجتذبهم عن قناعه إلى الفلسطينيين شعباً وقضية.
هذا ما قلته لنفسي مراراً وأنا أتأمل أعمال غسان كنفاني الكاملة، الروائية والقصصية، والمسرحية، والسجالية في مكتبات عمّان الكبرى، ومفرودة على (بسطات) الأرصفة، فشعرت بالراحة النفسية وأنا أتابع بعض من تناولوا كتبه المُفردة،وهم من أجيال شابة، بل وصغار في العمر ما زالوا فتياناً.
سألت مستفسراً فأخبرني أكثر من صاحب بسطة أن الكتب المفردة يندفع كثيرون لاقتنائها، والكتب الضخمة، يعني الأعمال الكاملة، يقتنيها مثقفون معنيون ولا يهمهم ارتفاع السعر وضخامة الكتب.
وهنا أسمح لنفسي بالقول إن غسان كنفاني هو، ومنذ 50 عاماً، في مقدمة أكثر الروائيين والقصاصين العرب قراءة، وقرّاؤه في ازدياد، وهذا يعني أنه يتجدد مع كل جيل جديد.
أسمح لنفسي بالقول إن غساناً وقد اغتاله الصهاينة ينطبق عليه القول الروسي مع شيء من التصرّف: الرواية الفلسطينية ما بعد رواية غسّان كنفاني (رجل في الشمس) فيها شيء من تلك الرواية المركّزة والكاوية والقاسية والصادمة والمأساوية، وسيبقى هذا التأثير، ولن يتوقف إلى ما بعد تحرير فلسطين.
ستبقى الرواية الفلسطينية تغني الرواية العربية، وتضّخ في عروقها دماً حاراً، وحكايات نادرة، وتجددها بأسلوب حكائي لا ينضب، وبرجال ونساء وأطفال من دم ولحم عاشوا حيوات لا تشبه غيرها وتتجدد بجوانب إنسانية في عمق الإنسان العربي الفلسطيني، وتمنح الحكايات المكتوبة غنى إنسانياً، وتجدد فن القص بما يتناسب مع تلك الحيوات المتميزة والمثيرة للدهشة،بما تتميّز به من أصالة إنسانية تجدد الرؤية للحياة، وتمنحها أبعاداً تملأ النفوس العربية بالكبرياء، والثراء الحضاري والثقافي.
***
عندما حاول العدو الصهيوني إنهاء حياة غسان كنفاني، متعدد المواهب، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، بنسفه ب200 كيلوغرام من المتفجرات وضعوها في سيارته الصغيرة أرادوا التيقن من موته.
نجحوا بأمر واحد فقط: تفجير جسده، ولم ينجحوا بحرمانه من الحياة مع شعبه، وإلهامه، ومواصلة طرح أسئلة الوجود عليه، وهذا ما يتجلّى في استمرارية حضور غسان كنفاني وديمومة حضوره مع شعبه وهو يمضي أمامه ومع مسيرته الإبداعية الغنية: روايات، قصص قصيرة، مسرحيات، سجالات فكرية يدحض بها تزييف وتزوير كتابات الأدعياء واليائسين، رسومات حارّة الحضور، خط تُجمله فلسطين بألوانها وبهاء حضورها.
في "رجال في الشمس"، الرواية المفجعة بالنهاية المأساوية لشخوصها: أبوقيس، أسعد، مروان، وضع غسان كنفاني الإنسان الفلسطيني أمام خيارين لا ثالث لهما: الموت بعد إدارة الظهر ورمي جثته على القمامة، أو الطريق الذي اختاره حامد في (ما تبقى لكم). أي الذهاب للمواجهة ورمي ساعته بعد اللقاء مع اليهودي المدجج بالسلاح والتائه في الصحراء، ليتقرر مصير الصراع بين صاحب البلاد (حامد) واليهودي التائه في صراع وجودي عبر زمن سينتهي حتماً بانتصار حامد الذي يدخل الصراع بالإرادة والحق والعزيمة.
انتصار الفلسطيني يبدأ من اللحظة التي يقرر فيها المواجهة ورفض الهزيمة، ويبدأ الزمن بالعمل لصالحه لا لصالح عدوه. منذ يقرر البدء بالتحرّك لأن هذا القرار هو سلاحه الذي يواجه به عدوه الذي قدم إليه مدججاً بالسلاح القاتل وبالأساطير التي لا جذور لها.
***
كلما كنت أزوره في (الهدف) يرحب ويشير لي أن أجلس حتى ينهي ما يكتب. يتنفس ويرحب من جديد ثم يخرج ويعود حاملاً ركوة قوة وفنجانين، يجلس ويأخذ في تمرير سيجارة تحت أنفه وهو يتشممها بصوت مسموع. يتوقف ويصّب القهوة ويقدم لي فنجاناً ثم يسالني سؤالاً اعتدت عليه:
- شوب تكتب هالأيام؟
ابتسم وأجيبه نفس الجواب:
- قصصاً...
سألني في المرة الأولى التي زرته فيه..لا أذكر في أي يوم، وأي تاريخ:
- رشاد..وين تعلمت؟
ابتسمت، وأجبته:
- في مدرسة الإليانس .. معهد فلسطين بحي الأمين الدمشقي، وهناك رأيت لوحاتك الصغيرة مرسومة على الخشب ومعلقة فوق أبواب بعض الصفوف.
ابتسم وسألني بدهشة:
- علّمتك؟
- في تلك المدرسة..لأ
ابتسم لجوابي.
نعم تعلمت من غسان كنفاني وكثيرون أيضاً تعلموا منه، ولكن ليس في تلك المدرسة.
انظروا كم تعلّم كتاب وفنانون منه. ناجي العلي تعلّم منه، وصحفيون، وومقاومون رفضوا ويرفضون وضع شعبنا في (الخزّان) وخنقه ورمي جثته وقضيته على القمامة.
***
قلت لنفسي بحيرة وأنا أتأمّل غلاف أعماله الروائية: ماذا أكتب عنه وعن التراث الذي سلّحنا به؟ أغمضت عيني قليلاً فإذا به وقد أسند رأسه على يده وعيناه تنظران بعتب: أهذا سؤال يا رشاد؟ أتذكر عندما جئتما إلى "الهدف" أنت ورفيقك الشاعر العراقي مؤيد الراوي بهدف التنسيق بين فصيلينا، واقترحت عليكما أن نترك التنسيق للسياسيين، وأن أقرأ على مسامعكما مشروع روايتي التي لم تكتمل (برقوق نيسان)؟
آخر كتاب، لا أقول نقدي، ولكنه دراسة متأملة، وهو لصديقك الدكتور محمد نعيم فرحات، وعنوانه كمين غسان كنفاني، ماذا فهمت منه أنت، أقلّه من العنوان؟
وجدتني أحكي مع نفسي: التحدي..حامد لم ينتصر انتصاراً حاسماً، ولكنه مضى إلى الميدان من أجل اللقاء بأمه، وأمه لا يمكن الوصول إليها من دون (الصراع) مع من يحرمه من الوصول إليها. إن وجود العدو المدجج بالسلاح الذي مزّق فلسطين بين ضفة وقطاع يجب حسم الصراع معه، وهذا هو التحدي الذي تركه غسان، ونحن يا أخي نواصل. ووجود أمثال (زكريا النتن) الذي خان (سالم) في رواية "ما تبقى لكم" ووشى به. أمثال أبو الخيزران الذين يعملون ليل نهار لدفن الفلسطينيين ورميهم على مزابل بلاد الثراء المفسد، يجب أن ينتهي هذا الاحتمال. أنت، ألم تكتب مقالة محذّرة في بيروت بعنوان: احذروا عودة أبي الخيزران؟
فتحت عيني وتأملت صورته. تأملت الطبعات المختلفة من كتبه، وحدقت في الصورة بوسع عيني وهمست: أنت ما زلت شاباً يا أبا فائز! هم لم يقتلوني بتفجّير جسدي. فالبنت التي رأيتها عند (بسطة حسن أبو علي) في شارع فيصل بعمّان وهي تختار كتبي تتواصل رسالتي وتتجدد حياتي.
أنا يا رشاد حي ما دام شعبنا يقاوم ويمضي بحميّة وهو يصرخ: فلسطين عربية..شو عم تكتب بهالأيام؟
- أنا؟
- أنت وغيرك...
***
هوامش
عن "رجال في الشمس":
حضر المخرج المصري توفيق صالح إلى سوريا وأقام في دمشق، واتفق مع مؤسسة السينما السورية على نقل رواية "رجال في الشمس" إلى السينما، فغيّر الإسم إلى "المخدوعون"، لأن المؤسسة سبق وقدمت فيلماً بعنوان "رجال تحت الشمس".
الفيلم أبيض وأسود، وقد بقي توفيق صالح مخلصاً للنص الروائي، ولكنه تصرّف قليلاً في الحوار، فأبو الخيزران يخاطب أبا قيس وأسعد ومروان: أنا القائد، وكلمة القائد تفسّر لمشاهدي الفيلم أن أبا الخيزران الذي خصته حرب ال48،وأنهت دوره، أنها تحمله السبب الرئيس (كقائد) للهزيمة!
ولكن الحدود تقتل بالخنق من أُدخلوا في الخزان...
تعرفنا في دمشق إلى الأستاذ توفيق صالح الذي يوصف بأنه معلّم بلا تلاميذ، والذي كنت أحد من شاهدوا افلامه: المذنبون، زقاق السيّد البلطي، درب المهابيل...
عن قرب عرفنا أن زوجته من عكّا، وأنه، حقيقة، كان دائماً معنياً بالقضية الفلسطينية، وكان متابعاً دقيقاً لكل تفاصيل المأساة الفلسطينية، وأنه مؤمن بالصراع الحاسم مع المشروع الصهيوني الاحتلالي لفلسطين، والمهدد للوطن العربي وفي المقدمة مصر.
ذات يوم سألته: هل شاهد غسان الفيلم، فأجابني: شاهد (الرشز)، يعني الشريط قبل المونتاج،وقد حضر إلى (البقاع) في لبنان، وشاهد الرشز وأبدى رضاه، وأنهيت العمليات الفنية بعد استشهاده بقليل..رحمه الله.
شكا لنا، أنا وبعض الأصدقاء عن بعض المتاعب في تحضير الفيلم، ومنها تعطّل سيارة (الصهريج) لأنها قديمة.. واشتريناها ب 18ألف ليرة سورية لأن الميزانية لم تكن تسمح لنا بالصرف المكلف.
عن "ما تبقّى لكم"
انتجتها "المؤسسة العامة للسينما" في سوريا، وأخرج الفيلم خالد حمادة، والمخرج غيّر اسم الرواية إلى "السكين"، وكنت أحد الذين شاهدوه، وقد شاركت في نقاشه بعد عرضه في ملتقى السينمائيين العرب بدمشق، وكان الوفد الفلسطيني يتكون من المخرج مصطفي أبو علي ومنّي.
الفيلم تقيّد بتقنية الرواية، وهذا ما أكدته في الحوار، فالمخرج لم يبتكر الشكل الفني من عندياته، ولكنه استنسخه بأمانة...
فيلم "عائد إلى حيفا"
اقترح عليّ المخرج العراقي الصديق قاسم أن أُحوّل الحوار الفصيح في السيناريو إلى حوار باللهجة الفلسطينية، وقد فعلت، واستعان بمن أدخل بعض المصطلحات الحيفاوية، وقدم فيلماً جيداً رغم (ضيق) الموازنة، والجبهة الشعبية هي التي أنتجت الفيلم.
وبعد: فغسان كنفاني حي، وهو يتحدى بحضوره الثقافي الغني والملهم الموت الذي أراده له العدو الصهيوني الذي يريد الموت للشعب الفلسطيني، ولكنه يبوء بالفشل رغم كل الأسلحة التي استخدمها.
غسان كنفاني بعد 50 عاماً على تفجير سيارته بمئتي كيلوغرام متفجرات يبلغ اليوم 86 عاماً، ويزداد شباباً وهو يرى شباب فلسطين يقتحمون تل أبيب، ووحدهم يتحدون المستوطنين الصهاينة المدججين بالأسلحة، وابتسامته تتسع وتضئ وتبارك.