عوامات النيل: هل تُمحى الذاكرة العائمة لمصر؟

يعود تاريخ بنائها إلى أكثر من 100 عام، وكانت موضوعاً للأدب والسينما والفن، كما شهدت أحداث سياسية. ماذا تعرف عن عوامات النيل؟ وهل يُنفّذ قرار إزالتها؟

  • تمّت إزالة 15 عوامة في يومين فقط
    تمّت إزالة 15 عوامة في يومين فقط

بشعرٍ أبيض، كأنّه سحابةٌ استقرّت فوق رأسها، وجلدٍ تهدَّل بفعل الزمن، جلست السيدة إخلاص حلمي، صاحبة الـ 88 عاماً، تشكو أمام الكاميرا داخل عوامتها، بينما ينام النيل خلفها، عجوزاً منهكاً، تماماً كما رآه أمل دنقل في قصيدته: "تساقطت أسنانه في الفم.. ولم يعد يقوى على الحب وألعاب الفروسيةْ".

قالت المرأة العجوز إنها وُلدت في عوامة على النيل، وعاشت فيها عمرها حتى أصبحت مثل سمكة، تموت إذا أخرجوها من البحر. وجدت في العوامة عالمها الخاص، بحيث ترعى قطيعاً من الإوز، بدأته بزوجٍ اشترته من السوق، يرافقها كذلك عددٌ من القطط، وكلبة وحيدة تراها مسنةً مثلها، لا حاجة لها إلا لكي تنبح إذا ما اقترب أحدٌ من العوامة.

عاشت إخلاص حلمي حياةً هادئةً، كغيرها ممن يملكون عوامات سكنية في منطقتَي "العجوزة" و"الكيت كات"، في محافظة الجيزة، وذلك حتى وقتٍ قريبٍ استيقظوا فيه على كابوسٍ يهدّد وجودهم، بل يُلْقي بهم من هدوء العوامات ورمانسيتها، إلى ضجيج شوارع القاهرة وشققها الخرسانية.

عاشت إخلاص حلمي حياةً هادئةً، كجيرانها في العوامات، وذلك حتى وقتٍ قريبٍ استيقظوا فيه على كابوسٍ يهدّد وجودهم، بل يُلْقي بهم من هدوء العوامات ورمانسيتها.

كانت البداية بإرسال الحكومة إنذاراتٍ إلى سكان العوامات، تفيد بإزالتها على مرحلتين، ليتم إخلاؤها بالكامل في 4 تموز/يوليو بدعوى "مخالفتها شروط الترخيص"، وهو ما نفاه السكان، مؤكّدين أن الحكومة هي التي رفضت منحهم الترخيص على مدار العامين الماضيين، بدايةً من عام 2020.

تداول روّاد مواقع التواصل الاجتماعي الأزمة عبر صفحاتهم، كما تنوّعت مشاركات مُلّاك العوامات، وأبرزهم الروائية أهداف سويف، بين فيديوهات قصيرة ومنشورات، يحكون فيها ذكرياتهم، أو يستغيثون بالمسؤولين. لكن أحداً لم يستجب لهم، فلقد أزالت أجهزة وزارة الموارد المائية والري، يوم الثلاثاء 28 حزيران/يونيو، 4 عوامات، ليصل إجمالي عدد العوامات التي تمت إزالتها في يومين فقط إلى 15.

ظهرت بسبب ندرة مواد البناء، ووصل عددها إلى 500

  • تناقص عدد العوامات من حوالى 500 إلى أقل من 30
    تناقص عدد العوامات من حوالى 500 إلى أقل من 30

بدأ ظهور العوامات عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، أوائل العشرينيات، وذلك بسبب ندرة مواد البناء، مما أبعد المصريين عن البناء التقليدي للمنازل، فاستخدموا الخشب في صنع عوامات مستقرة عند ضَفَّتي نهر النيل. لكن سرعان ما تحوّل الأمر من مجرّد سكنٍ إلى تعبيرٍ عن المستوى الاجتماعي، بحيث تزايد عددها حتى بلغ قرابة 500 عوامة مطلع الستينيات، ممتدةً من كوبري الجلاء حتى كوبري 15 مايو (الزمالك سابقاً)، إلى أن تقلص عددها اليوم إلى ما دون 30 عوامة، مستقرة بالقرب من "الكيت كات" والمناطق الشعبية.

تعدَّدت أشكال العوامات بين واحدة ثابتة عند ضفة النهر، وأخرى متحركة، تُدار بموتور (محرك)، وتسمى "الذهبية". كان الوجهاء يسافرون بـ"الذهبية" إلى المصيف، وخصوصاً رأس البر.

بدأ ظهور العوامات عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، أوائل العشرينيات، وذلك بسبب ندرة مواد البناء، مما أبعد المصريين عن البناء التقليدي للمنازل.

يحكي الكاتب صلاح بيصار، في مقالٍ له بعنوان "دنيا العوامات على نيل الكيت كات"، أنَّ أشهر هذه العوامات "الذهبية" كانت للفنان فريد الأطرش، وكانت مركزاً لتجمع الفنانين، وشاهدةً على تأليف معظم ألحانه، و"تم تفكيكها في أوائل الثمانينيات من جانب شرطة المسطحات المائية، بعد أن تحولت إلى كهفٍ مهجورٍ".

كما كان هناك عوامة متحركة يمتلكها الفنان محمد الكحلاوي، وأعدها لاستقبال الفنانين العرب. ويُقال إنّه اشترها بـ40 ألف جنيه، وكان لها باب أوتوماتيكي. ومن الحكايات التي يرويها الكاتب صلاح بيصار، أنَّ أشخاصاً اتفقوا مع الفنان محمد الكحلاوي على أن يُحْيي حفل عرسٍ لهم، فلما سألوه إن كان يحب إحضاره إلى مكان "الفرح"، أجابهم: "هو الفرح فين؟، فقالوا إنه في جبل المقطم، فأضاف: ما تتعبوش نفسكم، أنا بإذن الله حاجي بالعوامة بتاعتي".

العوامات تُعيق وزير الداخلية عن ممارسة التجديف

  • وزير الداخلية المصرية ورئيس الوزراء في الستينات زكريا محيي الدين
    وزير الداخلية المصرية ورئيس الوزراء في الستينات زكريا محيي الدين

ليست هذه هي المرة الأولى التي تتأزم فيها أوضاع مُلّاك العوامات، وإن كانت الحال اليوم لا تُقاس بما سبقها. ففي منتصف الستينيات، اصطدم وزير الداخلية، زكريا محيي الدين، بملّاك العوامات، وقد اعتاد أن يمارس رياضة التجديف في النيل. وفي أثناء ذلك، كانت النساء من سكان العوامات يخرجن إليه لمحاولة إلقاء طلباتٍ خاصةٍ، من شكاوى والتماسات، الأمر الذي جعله يأمر بإزالتها، متحججاً بأنها "أماكن غير محترمة"، مستدلاً على ذلك بما كتبه نجيب محفوظ في روايته "ثرثرة فوق النيل".

في إثر ذلك، اشتكى أصحاب العوامات إلى الرئيس جمال عبد الناصر، الذي سارع في إنصافهم وإلغاء قرارات محيي الدين. لكنَّ الأمر لم ينتهِ عند هذا الحدّ، فعندما عُيّن زكريا محيي الدين، بعد ذلك، رئيساً للوزراء، أصدر قراراً قضى بنقل جميع العوامات الموجودة في منطقتي "الزمالك" و"العجوزة" إلى "الكيت كات".

كانت النساء من سكان العوامات يخرجن إلى زكريا محيي الدين أثناء ممارسة هوايته في التجديف، لمحاولة إلقاء طلباتٍ خاصةٍ، من شكاوى والتماسات، الأمر الذي جعله يأمر بإزالتها.

لم تكن إشارة زكريا محيي الدين إلى ما كتبه نجيب محفوظ مصادفةً، بل يُعَدّ "أديب نوبل" أشهر الأسماء التي اقترنت بعوامات النيل، سواء بسبب صلتها بأعماله الروائية، أو بحياته الشخصية. وظهرت في أدبه قبل أن يسكن إحداها. ففي إثر تردّده إلى النيل، ورؤيته العوّامات من الخارج، جاءت شخصية السيد أحمد عبد الجواد، بطل "قصر الشوق"، الذي كان يُمضي لياليه داخل عوامة رفقةَ الراقصة "زنوبة"، التي تهيّئ له ليالي الأنس.

كما أمضى محفوظ فترةً من حياته داخل إحدى العوامات. حدث ذلك بعد زواجه، وتحديداً في عام 1954، بحيث استأجر الطبقة الثانية من عوامة "حسن دياب باشا"، الذي كان يسكن الطبقة الأولى. وبقي الكاتب الكبير مستمتعاً بالنيل وما حوله من أشجار وطيور، حتى ترك العوامة في إثر حادث غرق ابنة جيران له في النهر، الأمر الذي أفزع زوجته، فصممت على ترك العوامة في الحال.

العوامات: أدب وجاسوسية ومقر لمجلس الوزراء

  • تدور أحداث رواية
    تدور أحداث رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ على متن عوامة

كتب نجيب محفوظ روايته "ثرثرة فوق النيل" في عام 1966، بعد تركه العوامة. وجاءت ناقدةً وساخطةً على مجتمع المثقَّفين، والأوضاع السياسية آنذاك، متخذةً من عوامة على النيل مسرحاً لأحداثها، حيث يجتمع شخوص الرواية ليلاً، في جوٍّ يملأه دخان الحشيش. ولم تكن العوامة سوى صورةٍ مصغَّرةٍ عن الواقع المصري المعيش، الأمر الذي أغضب مجلس قيادة ثورة 23 يوليو، وكاد يتسبب باعتقال الكاتب المصري.

لم يكن نجيب محفوظ الوحيد الذي استلهم، من حياته داخل عوامات القاهرة، عملاً إبداعياً. كان هناك أيضاً مجموعةٌ من الرسامين الذين سكنوا العوامات، من بينهم إسماعيل دياب وجميل شفيق والدسوقي فهمي. ومن خلال حياتهم داخلها، استلهم الكاتب المسرحي محمود دياب رواية "الظلال في الجانب الآخر"، والتي تحوّلت إلى فيلمٍ من بطولة محمود ياسين والمطرب محمد حمام.

إلى جانب دورها، ثقافياً وفنياً، وتأثيرها في صُنّاع الثقافة والفن، كانت العوامات مسرحاً لكثير من الأحداث السياسية المهمة، حتى إنّه، في فترةٍ من عمر مصر، كانت تخرج القرارات السياسية من بين جنباتها، وتحديداً من عوامة "الست منيرة المهدية"، حيث كان يجتمع مجلس الوزراء برئاسة النحاس باشا ليقرر مصير البلاد.

لم يكن نجيب محفوظ الوحيد الذي استلهم، من حياته داخل عوامات القاهرة، عملاً إبداعياً. كان هناك أيضاً مجموعةٌ من الرسامين الذين سكنوا العوامات، بالإضافة إلى الكاتب محمود دياب.

وشهدت العوامات أيضاً واحدةً من أشهر قصص الجاسوسية في العصر الحديث، كانت بطلتها الراقصة حكمت فهمي، التي عملت لحساب المخابرات الألمانية في أثناء الحرب العالمية الثانية، فكانت تعود كلَّ ليلةٍ بعد وصلة رقصٍ في أحد الملاهي، مصطحبةً واحداً من كبار ضباط الجيش الإنكليزي، لاستخراج ما لديه من أخبار ومعلومات.

ومن أخطر العمليات التي قامت بها حكمت فهمي، سرقة حقيبة القائد الجديد للقوات البريطانية، المارشال ستايدر، من غرفة نومه في فندق "الكونتننتال"، وكانت تحتوي على الخطط الحربية. كما علم قائد القوات النازية في شمال أفريقيا، الجنوال إرفين روميل، عن طريقها، بدخول 100 ألف لغم إلى جبهة العلمين، وبانتقال الجيش العاشر البريطاني من سوريا وفلسطين إلى مصر.

كثير من الأحداث السياسية والأعمال الفنية جرى داخل العوامات، الأمر الذي يجعلها تحتفظ بجزءٍ غير يسير من قوة مصر الناعمة، كما أنّها تمثّل شكلاً معمارياً فريداً، ومَلْمَحاً تراثياً من ملامح القاهرة، وهو الأمر الذي جعل السياح يتوافدون عليها، ويلقبونها بـ"المدينة العائمة"، لكن ذلك كلّه سيُضْحي مجرد ذكريات بالنسبة إلى من عاشوا داخلها، يستحضرونها كلما مرّوا بمشهد من فيلم "أيام وليالي"، والذي ظهر فيه عبد الحليم حافظ وهو يغني لإيمان "أنا لك على طول"، بينما تنظر إليه من عوّامتها. فالأهالي ما زالوا يستغيثون، عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والحكومة ماضية في الإزالة.