عزاءات آلان دو بوتون.. الفلسفة علاجاً للحياة؟
سخّر نفسه للإجابة عن سؤال واحد: كيف نعيش حياة جيدة؟ كيف أنزل آلان دو بوتون الفلسفة من السماء إلى الأرض؟
سخّر الفيلسوف آلان دو بوتون المولود في 20 كانون الأول/ديسمبر 1969 نفسه، تقريباً، للإجابة عن سؤال واحد ورئيس: كيف نعيش حياة جيدة؟
عبر 8 أعمال ترجمتها ونشرتها "دار التنوير"، لم يعد اسم دو بوتون مستغرباً لدى القرّاء العرب، إذ سرعان ما تجد أعماله طريقها إلى اللغة العربية. واحد من أسباب حب القرّاء له هو تشريحه مفاهيم معقدة مثل الحب والمكانة السامية أو أدب مارسيل بروست، ويربط تلك المفاهيم بالاحتياجات والأزمات المعاصرة والمباشرة.
يمكن اعتبار دو بوتون واحداً من الفلاسفة الذين يحاولون، منذ أيام سقراط، إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض، أو من رفّها النخبوي إلى الرفوف جميعها، وجعلها ذات صلة بالحياة اليومية، كعلاج وعزاء.
معطف رولان بارت
لمعرفة الفيلسوف البريطاني السويسري، لا بدّ من العودة إلى الفيلسوف والناقد الأدبي الدلالي الفرنسي رولان بارت، وإلى كتابته وأعماله كما يصفها دو بوتون.
يقول دو بوتون في حوار لمجلة حكمة العربية مع محمد الرشودي: "لم أكُنْ سأُصْبِحُ ما أنا عليهِ الآن لو أنني لمْ أكتشف في بداياتِ العشرينيات من عُمُري أعمالَ الأكاديمي وكاتب المقالاتِ الفرنسي رولان بارت. ما لبثتُ أنِ اكتشفتُ هذا الكاتب الذي جعلني أتعلَمَ طريقةً جديدةً في الكتابةِ الواقعية. كانت جُلُّ أعماله حولَ أشياء ما دون العادية، كمسحوقِ الغسيل وبرج إيفل والوقوع في الحب والتنانير ذات الأطراف القصيرة والطويلة وصور والدته".
ويضيف: "ولكن في الوقت نفسه، كان له تأثيرٌ في هذه المواضيع حينما استحضرَ التعليم التقليدي والعقلية الفلسفية. عرف بارت كيف يربط بين الكاتب المسرحي جان راسين والعطل الصيفية، وبين المفكر فرويد وتَرَقُّب مهاتفة الحبيب. تميّز بارت بنظرته الثاقبة إلى أدق التفاصيل في المواضيع العميقة. كان بارت مُبْتَكِراً في أسلوبه وفي عرض مؤلفاته كغيره من الفنانين المعاصرين (توزعت أعماله بين البنيوية وما بعد البنيوية)، حيث حَمَلَتْ كُتُبُه كثيراً من الصور، والتلاعبِ بالخطوطِ المختلفة".
يؤكد دو بوتون أنّ بارت ألهمه حتى آخر كتاب له، "فكتابُ (شذراتٌ من خطابِ محب) ساعدني في تشكيلِ ملامح كتابي الأول في موضوع الحب. وما كتبه عن راسين وبيكيت بوصفهما أبوين روحيين ساعدني في كتابة (كيف يمكن أن يغيّر بروستحياتك؟)، فالتأثير لم يكن على مستوى الأفكار بقدر ما كان على مستوى الأسلوب والنهج الذي اتبعه".
يقول دي بوتون إنه في طفولته درس في مدرسة داخلية بأوكسفورد، وكان طفلاً خجولاً. كما قرأ كتب التاريخ والفلسفة والأدب. بدأ دراسته عام 1991 للحصول على الدكتوراه في الفلسفة الفرنسية، لكنه ترك الدراسة فجأة ليتفرغ لتأليف كتب تُقرب الأدب والفلسفة إلى العامة من الناس.
العزاءات وتشريح المكانة وبروست
يأخذ دو بوتون الفلسفة إلى هدفها الأبسط والأهم: مساعدتنا في عيش حيواتنا، هكذا تعلّق جريدة "الإندبندنت" على كتاب "عزاءات الفلسفة".
يشرح الفيلسوف في هذا الكتاب، لأيّ قارئ، كيف يمكن للفلسفة، العلم الذي يكاد يصبح من الحفريات، أن تقدّم له حلولاً لمشكلاته وتساؤلاته في حياته اليومية، وما العزاء الذي يمكن أن يقدّمها له بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء الكبار، بدءاً بسقراط ومنهجه الفلسفي ومحاكمته في فصل العزاء بشأن مخالفة الأفكار السائدة، للإشادة بهذه القدرة في أي عصر، بل ضرورة وأهمية ذلك في بعض الأحيان.
ثم العزاء في شأن الافتقار إلى المال، بالانطلاق من أبيقور والأبيقورية، ثم العزاء في شأن الإحباط، بالانطلاق من الفيلسوف الروماني سينيكا، ثم العزاء في شأن العجز، بأنواعه، الجنسي والثقافي والفكري، وصولاً إلى العزاء في شأن انكسارات القلب، بالانطلاق من شوبنهاور، وأخيراً العزاء في شأن المصاعب، بالانطلاق من نيتشه.
خطاب دو بوتون يقف على الضفة الأخرى من خطاب التنمية البشرية السطحي والمعتاد، من حيث مضمون كتبه في الدرجة الأولى. يقول محمد عبد النبي مترجم كتابه "قلق السعي إلى المكانة" إنّ دو بوتون لا يروّج لصِيَغٍ مُعلّبة من تحفيز الذات ووسائل تحقيق الأحلام، ولا يبيعُ نمطاً موحّداً للنجاح الإنساني يمكن أن يتبعه الجميع بلا اختلاف بينهم. بل يقف إلى جانب الإبداع والفردية والخروج على الجماعة والإجماع إذا لزم الأمر، حتّى يعثر الإنسان على صوته وطريقه من دون ضغوط وتضليل من جانب عقائد المجتمع ومسلّماته.
في كتابه الآخر "قلق السعي إلى المكانة" يناقش دو بوتون الرغبة في المجتمعات المعاصرة في تسلق السلّم الاجتماعي، وما ينتج عن ذلك من قلق واضطرابات تجاه كيف يرانا الآخرون وكيف يفكّرون فينا، حيث يرى أن القلق الدائم والاحتراق النفسي ليسا إلا نتيجتين طبيعيتين لا يمكن تجنبهما في أي مجتمع يقوم على المنافسة.
ينقسم الكتاب إلى جزأين هما "الأسباب" (أي التي أدّت إلى تشكّل هذا القلق) وفيه أبواب افتقاد الحب والغطرسة والتطلّع والكفاءة والاعتماد، أما الثاني وهو "الحلول"، فيشمل الفلسفة والفن والسياسة والدين والبوهيمية.
يستعين آلان دو بوتون بالفلاسفة والفنانين والكتّاب في تتبع تاريخ السعي إلى المكانة، منذ نتائج الثورة الفرنسية وصولاً إلى اليوم، ويستعيد فلاسفة ومفكرين وأدباء أمثال ماركس وديفيد هيوم وروسو وبرنارد شو.
بالنسبة إلى دو بوتون، منح "القيمة الرفيعة لفئة دون أخرى ليس جديداً في المجتمعات"، إذ سبق أن حظي المحاربون، والكهنة، والمرأة الولود، والصيادون بهذا الشرف، ولكن منذ عام 1776 أصبح المال هو المعيار الأساسي في العالم الغربي. لكي يزاد الطين بلة، ارتبط المال بالكفاءة، ليصبح ما في جيبك محدداً لما أنت عليه.
يقول الروائي السوري مجد حرب في حديث إلى "الميادين الثقافية" عن هذا الكتاب: "إن بوتون يعالج الأمر مدركاً تماماً خطر الوقوع في فخ المقارنة في عالم مختلف الطبقات الثقافية والمجتمعية، بل في عالم من الطبيعي أن يكون هرمياً في طبقاته. إن هذه المقارنة التي غذّتها - بحسب رأيي - مواقع التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي بكل مستوياته لتتضاعف الفجوة لدى كل من لا يعي خطرَ المقارنة، وبخاصة المراهقون الّذين يمكن أن تنجيهم قراءة الكتاب من قلقهم المستمر. إضافة إلى أن بوتون لم يعالج مشكلته بعيداً من الفلسفة، بل استخدم التوجيه الفلسفي والقراءة الفلسفية للتاريخ لينال خلاصته في جزء كبير من الكتاب".
في كتابه "كيف يمكن أن يغيّر بروست حياتك" يفتح دو بوتون أعين قرّائه على 9 دروس إنسانية طريفة ومهمة، استقاها من أعمال وأقوال وسيرة حياة مارسيل بروست، يبدأها بــ "كيف".
لا يتعامل دو بوتون مع مارسيل بروست بغرض الحفر في عوالمه الأدبية والاجتماعية فقط، بل يقدّم من خلاله قراءة وافية للعالم الذي نعيشه بكل ما فيه من نجاحات وإخفاقات، مستنداً إلى مواقف حياتية واقعية حدثت لبروست في أثناء طفولته، وكتابته أعماله الأدبية، والصحافية، والنقدية، والفكرية.
أعمال أخرى مترجمة
ثمة كتب أخرى ترجمتها "دار التنوير" لدو بوتون، منها "مباهج وشجون العمل"، نقرأ في تقديمه: "من خلال زيارات لأماكن العمل، ومن خلال حكمة وفكاهة أبرز الفنانين والكتاب والمفكرين، يحاول دو بوتون استكشاف علاقة الحب/البغض مع الوظيفة. يتأمل ويجيب عن الأسئلة الصعبة والمهمة مثل: ماذا أفعل بحياتي؟ ما الذي يجب أن أكون قد حققته عندما أصل إلى مرحلة التقاعد؟ هذا الكتاب هو استكشاف لمُتع ومخاطر العمل في وقتنا المعاصر، يقدّم لنا صوراً جميلة عن كيف يقضي معظم البشر أيامهم لتبقى تدور عجلة عالمنا المحموم".
أما الكتاب الآخر "مفكرون عظماء" فهو بمثابة قانون لمدرسة الحياة التي أنشأها دو بوتون كما يقول، "وهو عرض لأشخاص من عصور مختلفة كانت لهم مساهمة في تكوين مشروعنا الثقافي".
فيما كتاب "عمارة السعادة"، يستطلع الصلات الساحرة الخفية بين المباني التي نسكنها وحسن حالنا على المدى البعيد. ينظر دو بوتون إلى مبانٍ كثيرة في أرجاء العالم، من الأكواخ الخشبية في القرون الوسطى إلى ناطحات السحاب الحديثة. يتفحّص الأرائك والكاتدرائيات ومجموعات الشاي ومجمّعات المكاتب، ثم يُعرب عن جملة أفكار فلسفية.
أما في كتابه "فن السفر" فيستعين دو بوتون بكوكبة منتقاة من الكتاب والفنانين والمفكرين، من بينهم فلوبير، إدوارد هوبر، وورد زوورث، فان غوخ. وبحسب المراجعات فالكتاب ترياق مثالي لتلك النشرات التوجيهية التي تقول لنا ما ينبغي أن نفعله. إذ يحاول أن يقدّم لنا اقتراحات مفيدة حتى نكون أكثر سعادة في أسفارنا.
الكتاب الأخير المترجم عن "دار التنوير"، "دروس الحب"، هو رواية، يتتبّع فيها دو بوتون المسار الجميل والمعقد للعلاقة الرومانسية.
مدرسة الحياة
في عام 2008 أسس دو بوتون مشروعاً سماه "مدرسة الحياة"، وهي مؤسسة عالمية تهدف إلى تطوير الذكاء العاطفي والتطبيق العملي للسيكولوجيا والفلسفة والثقافة في الحياة اليومية.
يعرّف دو بوتون المدرسة بأنها منظمة تحمل مهمة يسيرة: السعي في زيادة انتشار الذكاء العاطفي كمفهوم بين الناس.
وثمة 8 مواضيع رئيسة تشكل القاعدة الأساسية في طريقة تفكير المدرسة، هي: معرفة الذات، معرفة الآخرين، العلاقات، النشاط الجنسي، العمل، الرأسمالية، الثقافة، الدين.
كتب دو بوتون عام 2019 كتاباً عنوانه "مدرسة الحياة، تعليم عاطفي" لم يترجم إلى العربية بعد، يعرّف فيه بالمدرسة وطريقة عملها ونهجها في التعامل مع المشكلات.
للمدرسة مقار في لندن وباريس وأمستردام وسيول وإسطنبول وساو باولو وبرلين وزيوريخ وملبورن. توجد المدرسة في العالم الرقمي، وفيما يتعلق بالعالم العربي، أجاب بوتون بأنه سيفتتح فرعاً حالما يجد الشريك الملائم.
ويقول حرب إنّ: "المكتبة العربية ازدادت أهمية بعد إضافة كتب دو بوتون المترجمة لأسباب لا تختلف كثيراً عن أهميته نسبةً إلى العالم، ألا وهي أننا اليوم نفتقر إلى الفلسفة في فهم أنفسنا وحياتنا ومشكلاتنا، بل على الصعيد الإنساني العالمي كذلك، إن بوتون يحاول أن يعيد إلينا ما فُقِد جزئياً في منظومتنا الحالية، ألا وهو أثر الفلسفة في فكرنا ويوميّاتنا".