عبد الباسط عبد الصمد.. "صوت مكة" الحيّ
يتميز بصوت مهيب وساحر. في ذكرى رحيله، لماذا ما زال عبد الباسط عبد الصمد حياً إلى اليوم؟
لا بد لك، مهما كان انتماؤك الديني، من أن تحلق في عالم مهيب، مؤثر وساحر، على أجنحة صوت عبد الباسط عبد الصمد، أثناء تلاوته الفريدة. ولا يمكنك إلا أن تُفْتَن بذلك الصوت القادر والعذب، الرقيق والمطواع والطليّ. صوتٌ حفّز كل من سمعه على التأمل في وصول هذا القارئ إلى ذروة شاهقة من الأداء الصوتي المتقن والصادق، وإلى لفظٍ مثالي، فكان أثره في التعريف بالإسلام أضعاف آثار الطرق المعروفة والتقليدية.
ولد عبد الباسط محمد عبد الصمد سليم داوود في الأول من كانون الثاني/يناير من العام 1927، في قرية أرمنت الواقعة ضمن محافظة قنا، في صعيد مصر. تأثّر بقراءة الشيخ محمد رفعت، فكان يضطر للمشي كيلومترات عدة ليستمع إليه عبر مذياع المقهى البعيد.
حفظ عبد الباسط القرآن في عمر 10 سنوات، وتمكّن في سن الـ14 من علم القراءات الـ7 (نافع، ابن كثير، أبو عمرو، ابن عامر، عاصم، حمزة، الكسائي)، ثم بعد ذلك بقليل تمكّن من القراءات الـ14 (تلامذة القرّاء الـ7).
الانطلاق من جامع السيدة زينب
في العام 1950، دُعي عبد الباسط عبد الصمد إلى القاهرة، للمشاركة في إحياء مولد السيدة زينب، حيث كان من المقرر أن يقرأ لمدة 10 دقائق فقط، غير أنّ هذه القراءة استمرّت ساعتين، بطلب مشترك من كلٍّ من المنظمين والحضور، الذين ملؤوا المسجد والميدان الذي حوله. وتكرّر هذا الأمر في أيام المناسبة الـ15 كلّها.
لم تنجح مساعي مسؤولي الإذاعة المصرية آنذاك في إقناع القارئ الوسيم، المشهور في الصعيد، بالانضمام إلى قرّاء الإذاعة المصرية، ولم يوافق على الأمر إلا بعد مشورة الأهل وإلحاح الإذاعة المصرية، حيث عاد في العام نفسه إلى القاهرة، وصار قارئاً في إذاعتها، وأقام فيها حتى وفاته في 30 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1988.
وخلال تلك الفترة التي قضاها في القاهرة، زار معظم دول العالم، ونال عدداً كبيراً من الأوسمة التي قلّده إياها رؤساء دول، هم بالإضافة إلى مصر، سوريا، لبنان، العراق، ماليزيا، السنغال، الباكستان. وكان يصل عدد الحشود أثناء قراءاته في تلك الدول إلى مئات الآلاف أحياناً، خصوصاً في الباكستان والهند. لُقِّب عبد الباسط عبد الصمد بالكثير من الألقاب، لكنَّ "صوت مكة" كان الأحب إليه.
مواصفات "صوت مكة"
ينتمي صوت عبد الباسط عبد الصمد (1927 - 1988) إلى فئة التينور العالي، وهي الطبقة الأرفع بين طبقات أصوات الرجال. ولكنَّ مساحة صوته الممتدّة على مدى أوكتافين، توصله بطبقة الكونتر التو (صوت النساء الاخشن) وهذا جعل صوت عبد الصمد مبهراً وواضحاً وصافياً وقوياً في أدنى درجات قراره.
بالمقابل، كان صوت عبد الصمد شديد الوضوح والقدرة على الوصول إلى قمة مساحته، التي تمسّ طبقة الأصوات النسائية، من دون أن يفقد أي قدرة على التعريب والمدّ والحركة والتعبير، بالإضافة إلى امتلاكه معرفة جيدة في المقامات الشرقية، ومدى ملاءمتها لمضمون السور والآيات.
لكن تبقى الميزة الأكثر وضوحاً لديه هي طول النَّفَس؛ ففي قراءته الفذّة لسورة "الفاتحة" مثلاً، يُجَوِّد السورة من البسملة حتى عبارة "إياك نعبد"، مع تكرار بعض الجمل وإبطاء في اللفظ، فتمتدّ التلاوة لمدة 45 ثانية متواصلة على نَفَس واحد.
ثم يتابع بعد فصل الآيتين "إياك نعبد" و"إياك نستعين"، آية "إهدنا الصراط"، وصولاً إلى نهاية السورة على نَفَس واحد أيضاً، وعلى المستوى الرفيع ذاته من جودة الصوت واللفظ.
مدرسة عبد الباسط في قراءة القرآن
يمكننا القول إنّ عبد الباسط عبد الصمد، مع غيره من القرّاء العظماء، كمحمد رفعت ومصطفى إسماعيل ومحمد صديق المنشاوي، قرّبوا الموسيقا (بما هي نغم) خطوة إضافية نحو اللاهوت الإسلامي، على خلفية علاقتها الغامضة فيه، بحيث أصبحت أداة من أدواته، عن طريق التجويد والتواشيح الدينية والأذان والأدعية.
وشكّل عبد الباسط مدرسة أساسية في قراءة القرآن، وصلت آثارها إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي، وصار أسلوبه علامة فارقة يمشي على هديها من استطاع ذلك، لأنَّ تقليد صوت كصوت عبد الباسط عبد الصمد من المممكن أن يضرّ بالحنجرة. فالبطء في التجويد الذي لديه، ووضوح الوقفات بين الساكن والمتحرك أثناء التشديد والهمزات، تستهلك نَفَس القارئ، فكيف إذا أضيف إليها العُرب الدقيقة الصعبة، مع تنويع مذهل بين القرار والجواب والانتقالات المقامية؟
وعلى الرغم من أن كل تلك المواصفات تنتمي إلى الثقافة المصرية في التعامل مع النغم عموماً، غير أنّها انتشرت في العالم كلّه، وهذا ما عجزت عنه بقية الطرق والأساليب، كالمدرسة الخليجية.
ففي الخليج العربي، وخصوصاً في السعودية، كان هناك الكثير من القراء ذوي الأصوات الجميلة من حيث الخامة، مثل سعود الشريم، عبد الرحمن السديس، صلاح البدير، وماهر المعيقلي... لكنّهم لم يَلقوا الانتشار الذي لاقاه عبد الباسط.
وكان العامل المشترك في ما بينهم عموماً هو السرعة الثابتة في التلاوة، الشبيهة بسرعة التلاوة العادية، وعدم التنويع المقامي في السورة نفسها، فالمقامات المألوفة لديهم هي "البيات" و"الراست". كما طال التحديد عندهم درجات المقام، بحيث يندر الخروج عن درجات جنس المقام الأساسي، مع العودة إلى أساس المقام في نهاية كل آية، في معظم الأحيان.
وكانت قراءتهم تميل غالباً إلى التلاوة المنغّمة أكثر منها إلى التجويد، مع الالتزام بإنهاء الآيات كما هي مكتوبة في نص القرآن الكريم، خلافاً للوقوف الكثير للقراء المصريين، وأولهم عبد الباسط عبد الصمد، قبل نهاية الآية، مع مراعاة أحكام تلك الجوازات.
لكل ما سبق، قيل: "نزل القرآن الكريم في مكة، وكُتب فى العراق، وقُرِئ فى مصر والأندلس".