طارت الخيام
ركضت خارجاً ووقفت أتفرّج فرأتني الخالة أم الياس فأشارت إليّ أن أتوجّه نحوها، وإذ صرت قربها احتضنت رأسي فشعرت بأنها أمي وأنا أغمض عيني وأصغي إلى الموسيقى في ساحة المهد بين كنيسة المهد والمسجد.
حكاية من تلك الأيام
لم ننم في الليل من الرعد والبرق والمطر. أبي حمل جدتي فاطمة ودسّها عند عائلة عمّي عبد الرحمن. لم تطر خيمتهم، فقبل أيّام نقل العم حجارة وبدأ يرصّها فوق بعضها فارتفعت جدراناً. عندئذ غرس العمود الكبير في منتصف الخيمة ورفعه وأسدل أطراف الخيمة على الجدران فصار المكان كأنه غرفة، يعني مثل الغرفة، لأنه من فوق يرتفع، والحبال مشدودة، ولم تعد المياه تتسرّب.
نحن فرحنا لأننا كنّا ننقل حجارة هي ليست كبيرة أو ثقيلة، ولكن العم عبد الرحمن يدسّها بين الحجارة الكبيرة فتشدّها إلى بعضها وتمتّنها، ومن جديد نعبر الشارع الإسفلتي ونحمل حجارة ونمشي بقرب العم الذي يحمل حجارة كبيرة.
أبي لا يحمل حجارة، ويردّد:
- خيمتنا صغيرة، ولا تحتاج إلى حجارة لترفعها.
ارتفعت أصوات تدعو الناس الذين طارت خيمهم وسقطت على رؤوسهم:
- "يلا إلى بيت لحم يا ناس"...
عاد أبي وقال لي:
- "يلاّ بدنا نروح على بيت لحم"، هناك سننام في أمكنة دافئة، وربما تستحمّ وتنظّف رأسك وبدنك من القمل.
كانت شاحنات تقف على الإسفلت وبعض الناس يتكوّمون في صناديقها. أبي احترموه وأجلسوه إلى جوار السائق، وأنا رفعني السائق ورماني مع المتكوّمين:
- "يلّا.. دس حالك بينهم يا ولد منشان تتدفّا".
ولكنّني لم أدسّ نفسي بين المتكومين بل تسلّقت العوارض الخشبية وصرت أبصبص على المخيّم وخيمه المتكوّمة التي اقتلعها الهواء القوي، وأتأمّل الثلج الناصع البياض وأنا مستغرب، فللمرّة الأولى أرى الثلج الذي يغطّي كل شيء حول المخيم أبيض لامعاً.
بيوت بيت لحم تتصاعد منها حزم دخان، وشبابيكها مغلقة، والعجيب أن بعض الناس يلعبون بالثلج وهم يضحكون، ينحنون ويحفنون ثلجاً ويتراشقون به وهم يركضون ويضحكون.
توقّفت السيّارة، وهبط السائق واقترب والدي من باب صندوقها، وعندما فتح السائق الباب اقترب والدي وتناولني وبقي يرفعني بين يديه، وهو يخشى عليّ من برد الثلج، فأنا بلا ملابس تدفّئ جسدي، وقدماي حافيتان، وجسدي كله يرتجف، وأسناني تضرب بعضها وتخرج أصواتاً لا أستطيع أن أوقفها.
سمعت صوتاً:
- "يا حرام ..لاجئين!
سألت والدي:
- شو يعني لاجئين يابا؟
- يعني مش في بيوتهم"...
أنزلني من بين يديه في مدخل المكان:
- هذا جامع، وسننام هنا.
- "عشان إحنا لاجئين؟
- أيوه، يعني اليهود طردونا من ذكرين قريتنا، ومن بيتنا هناك.
- ليش طردونا يابا؟
- بعدين رايح تعرف، وكلّ ما كبرت شوية رايح تعرف أكثر".
سحبني أبي من يدي، وأجلسني في زاوية، ووقف مع رجل عجوز، وسمعته يقول له:
- "أنا وابني.. ما ليش غيره، أمه ماتت وأخته ماتت قبل ما نطلع من بلدنا، ذكرين، من قرى الخليل، قرب بلدة بيت جبرين".
راح الرجل ورجع بعد قليل حاملاً بطانيتين، تناولهما أبي وهو يقول:
- بارك الله بك يا شيخ، ولكن البطانيتين لا تكفيان لتدفئتنا.
هزّ الرجل رأسه:
- "تكرم..بعد شوية بانشوف..ولا يهمك".
وبعد قليل عاد حاملاً بطانيتين، وكنا أنا وأبي قد جلسنا في زاوية من المساحة الواسعة، وأسر كثيرة انتشرت صامتة أو متهامسة، مستغربين كيف سينامون في المكان على مقربة من بعضهم.
فرد أبي بطانيتين فوق بعضهما، ثم طلب مني أن أتمدّد عليهما ففعلت، وغطاني بالبطانيتين اللتين كنّا نجلس عليهما، وبصوت منخفض:
- لا يوجد ما نضعه تحت رأسينا..يلّا المهم هنا في المسجد أدفأ من حالتنا في المخيم بعد ما طارت خيمتنا.
سألني:
- ادفيت يا حبيبي؟
-آه...
- جوعان؟
- آ.. بطني فارغ يقرقع.
وزّع شابان خبزاً على الأسر المتكوّمة، وعندما فرغا غابا قليلاً ثم عادا يحملان طنجرة كبيرة ووزّعا صحوناً فارغة ثم غرفا من الطنجرة وصبّا في الصحون، وارتفع صوت أحدهما:
- "يلاّ كلوا"...
وأكلنا، وسألني أبي:
- شبعت؟
- آه.. شبعت.
تمدّد أبي، وبعد قليل ارتفع صوت شخيره فشعرت بالحرج من نظرات الناس حولنا، ولكن قرع طبول دوّى فانسللت من جوار أبي، ثم مضيت إلى باب المسجد ووقفت هناك فرأيت منظراً أدهشني: أولاد بملابس ملوّنة تغطي أجسادهم، يحملون أعلاماً وينفخون في أبواق ويقرعون طبولاً ويمشون بانسجام وهم يرفعون رؤوسهم وينظرون أمامهم وحولهم الناس يصفّقون لهم ضاحكين.
خطوت بحذر مبتعداً عن باب المسجد وجسدي يزداد ارتجافاً. وقفت على قدم واحدة ثم حين عجزت عن تحمّل البرودة رفعتها وأنزلت قدمي الثانية، وسمعت:
- "يا حرام هذا الولد من اللاجئين اللي جابوهم من مخيم الدهيشة وحطوهم في المسجد".
فخجلت وشعرت بالحرج.
قالت امرأة:
- "انتظر يا حبيبي شويّة".
غابت وبعد ما صار جسدي كله بارداً، جاءت وهي تحمل صرّة مدتها لي، تردّدت في أخذها، ولكنها ألّحت "خذها لازم تدفّي جسمك..أدخل في المسجد والبسها، وتعالَ تفرّج على الاحتفال. لا تستحي منّي أنا مثل أمك وينادونني أم الياس".
إشارت إلى بيت غير بعيد عن الساحة:
- هناك بيتي. تعالَ وزرنا. إسأل عن بيت الخالة أم الياس والجميع سيدلونك عليه.
دخلت المسجد كما قالت لي أم الياس. دسست قدمي في الحذاء، وارتديت بنطلوناً طويلاً ولبست قميصاً دفّأني. فتح أبي عينيه وسألني:
- من أين لك هذه الملابس؟
_من الخالة أم الياس.
ركضت خارجاً ووقفت أتفرّج فرأتني الخالة أم الياس فأشارت إليّ أن أتوجّه نحوها، وإذ صرت قربها احتضنت رأسي فشعرت بأنها أمي وأنا أغمض عيني وأصغي إلى الموسيقى في ساحة المهد بين كنيسة المهد والمسجد.