شجرة فلسطينية اسمها زكريا محمد
شعره مطعّم بالميثولوجيا ونزهته في الحقول شبيهة بنزهته في القصيدة. من هو زكريا محمد الذي غادرنا أمس؟
"حين يأتي الشعر أجيء، أسقط على شجرة الأسكدنيا كأنني غراب. وأخرج من القراب كأنني سيف فولاذ. لقد أوفيت بنذوري كلها. وها أنا قادم بزينتي كلها، كأنني ذكر خروب في أواخر أيلول".
هكذا حمل زكريا محمد (1950 - 2023) ظلال أشجار فلسطين معه ورحل. وكأنه كان دائماً يهمس لها بأسرار مكوثه في اللغة. فكانت نزهته في الحقول شبيهة بنزهته في القصيدة، لأن الشعر لم يكن بالنسبة له مجرد كتابة. فقد أوفى بنذوره للشعر كلها، ابتداء من فلسطين بالموقف والقضية والالتزام والانتماء حيث كان من أبناء الزمن الفلسطيني في بيروت، وليس انتهاء بالميثولوجيا والنباتات والفلسفة.
يندر أن نقرأ نصاً شعرياً لزكريا محمد من دون أن تمر فيها الأزهار والأشجار والحيوانات، كأننا نتجول في حقول فلسطين ونسرح في غابة لغته الكثيفة لنقرأ روحه المتنزهة بين النباتات والآثار والتاريخ، الذي بحث فيه فكتب "نخلة طيء: كشف لغز الفلسطينيين القدماء"، و"عبادة ايزيس واوزيرس في الجاهلية". غادر الشاعر وهو يقرأ لنا وصية الأشجار والحجارة والزهور والحيوانات والآثار والمدن.
تتداخل الميثولوجيا والطبيعة في شعر زكريا محمد بطريقة نشعر فيها بأن الشعر إقامة في الطبيعة، وهو الذي قال مرة: "لا أريد أن أموت قبل أن يمتلئ رأسي بأسماء الزهور، سآخذها كلها معي".
استطاع زكريا محمد أن يهضم الأسطورة العربية في شعره كما قال مرة، وأفرزها كرموز ، فالغراب والتيس الجبلي والنخلة بالنسبة له ليست مخلوقات واقعية بل ميثولوجية. فكانت أعماله الأخيرة مرثية للطبيعة على حد تعبيره.
وافصح مرة في حوار معه حول هذا الموضوع:"الطبيعة في خطر عظيم، غطتها علب الكولا، وأكياس البلاستيك. لذلك تحاول قصيدتي أن تستعيد طفولة الطبيعة، أيام كانت الطبيعة طبيعة، بذا، فالطبيعة عودة إلى الطفولة بشكل ما. أنا أستحضرها، وأصنع لها تمثالاً في قصيدتي. قصيدتي تمثال الطبيعة ومرثية لها في آن".
تنقل الشاعر بين الرواية والشعر وقصص الأطفال لتأتي مجموعاته الشعرية وكأنها بيانات عن علاقته بكل شيء وبالشعر خصوصاً، فتطلعنا عناوينها على أسئلته حول الشعر . ففي مقالة له عن مجموعته الأولى " قصائد أخيرة" يقول: "العنوان كان مناكفة مع المجموعات الشعرية التي توحي بالبدايات". وكان سؤال يطارد زكريا آنذاك: هل للشعر جدوى؟ وهل له تأثير؟
لقد تأثرنا جميعاً، نجن الجيل الشاب، بما كتبه زكريا محمد، فكانت قصيدته وشخصيته المؤثرة تجعلنا نفكر بالشعر بطريقة مختلفة. لم يكن نصه سوى رؤيته المتفردة وفلسفته الخاصة تجاه الأشياء، كما كان داعماً لنا جميعاً، في قراءته للنصوص الجديدة وتشجيعه للكتاب الشباب. وهو أيضاً، الشاعر المفكر والمناضل، الذي كان يكتب مواقفه يومياً تجاه ما يحدث في فلسطين، ويبدي رأيه في المسائل الهامة. ولعل علاقة شعره بشخصيته كباحث ومناضل، هي ما يجعلنا نبحث عنها في مجموعاته الشعرية.
بعد مجموعته الأولى بدأت علاقة زكريا محمد بالشعر تتحرر أكثر فأكثر. فالشعر بالنسبة له صرخات متقطعة، ولا بد من انقطاع. من هنا تبدو العلاقة بين شعره والصمت قوية . ففي مجموعته "أحجار البهت" بدأت علاقته بالشعر تذهب عميقاً نحو تلك المشاغل التي تبهته وتحيره ولذلك سماها "أحجار البهت"، ومن هذه الأشياء "الميثولوجيا" طبعاً. ولذلك قال مرة: "أنا مش عايش برام الله، أنا عايش بمكة قبل الإسلام".
استطاع زكريا محمد أن يزرع في شعره أسئلة الحياة كلها، فيقول في "كشتبان":" آه يا بصلة التوليب، أنا أدفنك في الطين لكي أسكن بين النوم والموت، أدفنك كي أتقسى، لكي يصبح قلبي حجراً، وفمي صوانه، وفي أول تشرين أحفر بأظافري طين الأصيص وأزرع فكرة الصوان".
لم تكن فكرة حضور الأشجار في شعر زكريا محمد مجرد استدعاء للرموز، بل هي رؤية للعالم وكأنه شجرة، ورؤية للأشياء وكأنها كائنات ميثولوجية قادمة من زمن آخر. فقد في إحدى دراساته له بعنوان: “شجرة منكوسة" أن رؤية الانسان كشجرة منكوسة ليس معتقداً يونانياً في الحقيقة، بل معتقد عام للقدماء، فالإنسان سقط من السماء إلى الأرض في لحظة ما وسكنها، ولكن حنينه الدائم للسماء.
كم عبّر في مكان آخر: "نضجت متأخراً، لكن الأسطورة أنقذتني". هكذا كان دائماً مشغول بأشياء أخرى ومنها السياسة مثلاً، ولكنه كان في كل مرة يعود إلى الشعر محملاً بالتفاح والعنب والصبار كما كتب في قصيدة له على صفحته على "فيسبوك:" ليتني كنت تفاحة كي تطرحني الجاذبية على جنبي"، ويتابع:" وصلت إلى البيت، لكن الوصول إلى الشعر يعني أن تكون دلفيناً، وان تفطر في الماء وتتعشى فيه".
هكذا رحل صاحب "ثمرة الغراب" وهو يحاور في الشعر كل ما نسيناه في أحلامنا، ويقول للأشجار إن الثمار هي ما تبقى لنا في ساعات اليأس. فكانت الثمرة التي سأل عن جدواها هي تلك الأغنية التي رددها حتى ساعاته الأخيرة، فخسرته فلسطين والشعر والميثولوجيا والفلسفة والآثار. ها هو يحمل أحجار البهت ويغادر، ولكن ما نقشه على تلك الأحجار يظل واضحاً أمامنا. لأنه كان دائماً شفافاً، يترك هواجسه تعبر في الكلمات، وكأنه يحاور فلسطين بكل ما فيها من تضاريس وبكل ما قلبه من أنهار.
يدعونا زكريا محمد معه إلى حفل الموت الكبير كما قال:" سأدعو الجميع إلى حفل الموت الكبير، الحصان والنخلة والكشتبان والوتر الخامس للعود والنهر الذي لم يسبح فيه مرتين، كل هؤلاء سيحضرون".
يذكر أن الشاعر الراحل من مواليد نابلس عام 1950، وعمل في منابر إعلامية وثقافية فلسطينية مختلفة في بيروت وعمان ودمشق، فقد كتب في المجال الثقافي في مجلة الهدف، عندما كان ناشطاً سياسياً في بيروت آنذاك. وتولى منصب رئيس تحرير "مجلة الكرمل" التي ترأسها محمود درويش بعد انتقاله إلى فلسطين.