ستيفان زفايغ.. "دوستويفسكي النمساوي" الحالم بالسلام
لا تعود شهرته إلى غزارة إنتاجه بل إلى طبيعة حياته التي أنهاها منتحراً. من هو ستيفان زفايغ الذي لقبه بعض النقاد بــ"دوستويفسكي النمساوي"؟
وُلِدَ ستيفان زفايغ في 28 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1881 في فيينا. بدأ كتابة الشعر في مرحلة الدراسة الثانوية، ثم ذهب إلى برلين لدراسة الأدب الألماني والفلسفة، وبعد الانتهاء من دراسته جاب أوروبا وأفريقيا وأميركا متعرّفاً إلى كتّاب آخرين.
كان زفايغ صاحب نظرة سلميَّة إلى العالم، ومع ابتداء الحرب العالميَّة الأولى أعلن أنه غير صالح للخدمة العسكرية واكتفى بالعمل في الصحافة والمكاتب الدعائيَّة التابعة للإمبراطوريَّة النمساويَّة، وبعد تسريحه من الخدمة انتقل إلى زيورخ حيث عمل مراسلاً لإحدى صحف فيينا، وبعد انتهاء الحرب عاد إلى النمسا وعاش في سالزبورغ حتى عام 1933.
آمن زفايغ بأوروبا موحّدة في الزمن الذي شهد صعود الاشتراكيَّة القوميَّة، وهو ما جعله في مواجهة مع النازيّة، وعلى الرغم من كونه معادياً للصهيونية ووصفه كتاب ثيودور هرتزل حول ضرورة إنشاء وطن قومي لليهود بأنَّه "نصّ متحجّر وكلام فارغ" ووصفه لنفسه بأنَّه "يهوديّ بالمصادفة"، إلا أنَّ كتبه لم تنجُ من تبعات أفكاره المتعلقة بالدفاع عن المثل العليا والإيمان بالسلام التي انعكست من خلالها بطبيعة الحال، فانضمَّت إلى الكتب الممنوعة التي تقرَّر حرقها عام 1933، وقبل وصول هتلر والحزب النازيّ إلى السلطة في ألمانيا غادر النمسا عام 1934 متنقلاً من فرنسا إلى إنكلترا ثم الولايات المتحدة قبل أن يصل إلى البرازيل التي كانت مستقرّه الأخير.
أرض المستقبل وانطفاء الأحلام
رفيقته في رحلة البرازيل كانت زوجته الثانية لوت التمان التي عملت قبل ذلك سكرتيرة ومساعدة له، وقد تعلما معاً اللغة البرتغاليَّة على متن السفينة التي قادتهما في اتجاه البلد الذي وصفه لاحقاً بالجنة الموعودة التي لا يتقن أهلها سوى الحبّ والرقص والإخاء الإنساني، قبل أن يضع كتاباً حول البرازيل يصفها فيه بالنموذج الزاهي لأرض المستقبل في مقابل النموذج الأوروبي الغارق في وحول الماضي، وهو ما أثار استهجان المثقفين البرازيليين الناقمين آنذاك على سلطتهم الاستبداديَّة الحاكمة، كما عده الكاتب الأميركي جورج بروشنيك عملاً مخيباً للأمل ودلالة على سذاجة مفرطة في وعي زفايغ السياسي.
"أرض المستقبل" هذه سيذكرها زفايغ في رسالة مؤثرة خطّها ليلة 22 شباط/فبراير عام 1942 موجّهاً خالص شكره الصادر من القلب إلى البلد الرائع الذي منحه راحة تكشف عن بالغ الود وكرم الضيافة والذي تعاظم حبّه له يوماً بعد آخر، مؤكّداً أنَّه ما كان ليبني حياة جديدة إلا فيها.
ولكن لا حياة جديدة لزفايغ، فهذه الرسالة ليست إلا رسالة انتحاره التي ستجعل من البرازيل آخر محطة تصل إليها رحلة الكاتب الدائم التجوال. إذ يقول فيها إنَّ المرء بعد أن ناهز الستين من العمر يحتاج إلى طاقات استثنائيَّة كي يبدأ بداية جديدة من الصفر، وإنَّ ما لديه من طاقات قد استنزفتها منه أعوام التيه المديدة، وإنَّ من الأفضل أن يضع حداً لحياته في هذا الوقت المناسب، وهو مرفوع الرأس. ليتمنى بعدها لأصدقائه رؤية الفجر بعد ليلٍ مظلمٍ طويل، معلناً أنَّه وبعد أن نفد صبره قرَّر أن يتقدَّمهم ويرحل قبلهم.
وفي اليوم التالي ستنتشر الرسالة كالنار في الهشيم بعد بثها في الإذاعات ونشرها في الصحف، لتنظم له البرازيل جنازة رسميَّة حضرها رئيس الجمهوريَّة الجنرال جيتوليو فارغاس (1882 - 1954) ومجموعة كبيرة من المثقفين والأدباء. ولكن زفايغ لم ينتحر وحده، بل نجح في إقناع "معجبته الأبدية" زوجته لوت، بعد محاولات مضنية منها لثنيه عن قراره، بأن تشاركه ابتلاع عشرات الأقراص المنومة قبل أن تشاركه عناقاً أخيراً، وزاد من الطابع المأساوي لانتحاره إقدامه على إعطاء كلبه جرعة مشابهة ليفارق بدوره الحياة أمام باب غرفتهما!
شجاعة أم أنانيّة؟
إذا كان انتحار زفايغ ناتجاً عن شعوره بالذنب لفراره من المواجهة ونجاته بنفسه والانتقال من بلد إلى بلد طلباً للأمان وتجنباً للمخاطر، فإن هذا الانتحار كان جبناً أيضاً بحسب الكاتب الألماني توماس مان (1875 - 1955) الذي رأى أنَّ صديقه منح النازيين بموته شعوراً بالانتصار، ومما قاله مان: "إنَّه أناني، لم يفكر لحظة انتحاره إلا في نفسه. ألا يعرف أنَّ الكتّاب الألمان الذين شرّدهم هتلر بوحشيّته وهمجيّته في سائر أنحاء الأرض أصبحوا جميعاً أذلاء يقفون على أبواب الناس، فيما ظلَّ هو معزّزاً مكرّماً يعيش حياة الملوك؟".
في المقابل، فإن كل المعطيات الواضحة حول حياة زفايغ وموته بدت غير كافية بالنسبة إلى بعض المحللين الذين ظلوا يتساءلون عن السبب الذي يدفع كاتباً مثله إلى الانتحار، وهو يحظى بنجاح كبير ومحبّة غامرة من جمهور القراء، وقد أنهى حديثاً أعمالاً أدبية مهمة وتزوَّج امرأة جميلة تصغره بثلاثين عاماً واستقرّ في بلد يصفه بمصدر الإلهام!
حياة حافلة، وآثار خالدة
كل هذه الأحداث الصّاخبة التي حفلت بها حياة زفايغ القصيرة لم تمنعه من الإنجاز الأدبي، فكان واحداً من ألمع كتاب النصف الأوَّل من القرن العشرين، وكان معروفاً بغزارة إنتاجه الأدبي وجودته في آنٍ واحد، وترك عدداً كبيراً من المؤلفات أبرزها "لاعب الشطرنج" (1942) و"السرّ الحارق" (1911) و"أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة" (1927) و"الخوف" (1920) و"فوضى الأحاسيس" (1927)، وقد عرفت مؤلفاته انتشاراً استثنائياً في الوطن العربي من خلال ترجمات يحيى حقي وزينب محمد عبد الحميد وأشرف القرقني وآخرين.
وأبدع زفايغ في كتابة السير الذاتيَّة من خلال كتابه "بُناة العالم" الذي تناول فيه حياة المشاهير من الأدباء أمثال تولستوي ودوستويفسكي وبلزاك ورومان رولان، ثمَّ كتب سيرته الذاتية بنفسه في كتاب عنوانه "عالم الأمس – مذكرات أوروبي" خوفاً من انتصار النازيَّة وتعرّض سيرة حياته للتزوير.
وكُتِبَ عن زفايغ الكثير أيضاً وأبرزه ما كتبه الأميركي جورج بروشنيك بعنوان "المنفى المستحيل" ووصفه فيه بالكاتب غزير الإنتاج وبـ"الرجل الكيّس والمتأنّق" و"الأليف المكتئب".
وفي السنوات الأخيرة عاد اسم زفايغ ليتوهَّج بقوة وهو الذي لم يغب يوماً عن الساحة الأدبيَّة، من خلال فيلم "وداعاً أوروبا" الذي أنجزته المخرجة الألمانيَّة ماريا شرادر متناولةً مأساة انتحاره وروت فيه المراحل الأخيرة من حياته التي تزامنت وتهاوي رؤيته المتفائلة في مقابل صعود الفاشيَّة والنازيَّة، ليأتي عرض الفيلم في فترة تعيش فيها أوروبا عودةً إلى النزعات القوميَّة وتراجعاً في الحلم الوحدوي الذي أسَّس لثقافة أوروبيَّة عابرة للحدود الوطنيَّة.