"زقاق الجنّ": الدراما في مواجهة الظلم والخرافة؟
هل خرج مسلسل "زقاق الجن" عن منطق البيئة الشاميَّة؟ وماذا قال المخرج وكاتب العمل عنه للميادين نت مع اقتراب نهايته؟
منذ أن بدأ اتهام أعمال البيئة الشاميَّة بالمسؤوليَّة عن تراجع الدراما السوريَّة، وصنّاعها لا يكفون عن إنتاج المزيد منها ولا عن الادّعاء كل مرة بوجود "طرح مغاير" و"أفكار جديدة" وخروج عن السائد والمعروف في هذا النوع من الأعمال، والحق أنَّ أعمالاً معدودة خرجت فعلاً عن منطق البيئة الشاميَّة المعروف ومفرداتها المستنسخة وحكاياتها المكرّرة.
وإذا جاز تصنيف "زقاق الجنّ" (كتابة محمد العاص وإخراج تامر إسحاق وإنتاج MB Production) تحت هذا العنوان، بالنظر إلى مكان أحداثه وزمانها، فإنَّ لصنّاعه الحقّ أكثر من غيرهم في الحديث عن مقترح جديد بعيد تماماً من السائد، ليس فقط بسبب جرعة الرعب والتشويق والإثارة التي يحملها المسلسل في خلطة لم تعرف الحارة الشاميَّة مثلها يوماً، بل بسبب البعد التربوي والرسائل العديدة التي قدّمها الكاتب محمولة على قصة بوليسية ممتعة ومحبوكة باحتراف بالغ خلافاً لما قد توحي به قصَّة المسلسل بدايةً، من تكريس للخرافة والشعوذة والسحر والإقرار بدورها وقدرتها على التحكّم بمصائر البشر.
فالحكاية تدور بشكل أساسي حول "أبو نذير" (أيمن زيدان) الرجل المتسلّط الذي يدير امبراطوريَّة عائلية بالقسوة والبطش والترهيب زارعاً الرعب في قلوب أفرادها، ثم تتسع لتشمل حارة كاملة تواجه خطراً غامضاً يتمثّل في اختطاف الأطفال وقتلهم قبل أن يشمل الخطر الكبار مع قتل المختار أبو فهد (أيمن بهنسي). فتتوجَّه الأنظار إلى منطقة "بساتين الجن" القريبة من الحارة والتي يتوارى فيها عدد كبير من المطلوبين للعدالة، ويقطنها أيضاً ناجي (سعد مينة) مع المشعوذة (أمانة والي) التي تولت تربيته منذ أن عُثِرَ عليه لقيطاً، وتتراوح اتهامات الأهالي لناجي بين المسؤوليَّة المباشرة عن الجرائم وبين التسبّب بها عن طريق لعنة مرتبطة به.
لكن الإسقاطات والرسائل التي يحفل بها المسلسل لا تلبث أن تطل برأسها من دون أن تفسد شيئاً من متعة الحكاية، فإن كان الكاتب يقدّم عملاً اجتماعياً له بعد تربوي يحاول من خلاله إلقاء حجر في مياه راكدة منذ مئات السنين، ونقض معتقدات بالية وممارسة دوره في محاولة الارتقاء بالوعي عن طريق الفن، فإنَّه لا يفعل ذلك عن طريق الوعظ والخطابة والتلقين، بل يتقن صنعته ويفيها حقها ويمتلك أدواتها عارفاً أنها بغير ذلك لن تكون ممتعة ولا مؤثّرة.
فشخصيَّة "أبو نذير" ترمز للجهل والتسلّط ووهم احتكار المعرفة وهوس القيادة والسيطرة، وفي الشخصيَّات المحيطة به يكمن الضعف والهوان والرضا بالانقياد لغير العقل تحت عناوين مختلفة. فهناك الابن الأكبر "أبو تيسير" (شادي زيدان) المستسلم بشكل كامل أمام عقليَّة أبيه المريضة إلى حدّ القعود عن حماية ابنته "ملك" من الذبح بسكين جدّها لجريمة موهومة لم ترتكبها متسلّحاً بفهم خاطئ للدين الذي يكرّم الآباء ويدعو إلى احترامهم وطاعتهم.
وهناك الحفيد "تيسير" (رامي أحمر) الذي يسير على خطى جدّه ويتقمّص شخصيَّته حالماً بوراثة سطوته عن طريق التحوّل إلى نسخة أخرى منه، ومجدي (سليمان رزق) الحفيد الآخر الذي كبر وتزوَّج ولم يستطع التخلص من التبوّل اللا إرادي يوميّاً في فراشه بعد طفولة قاسية شهدت احتجاز جدّه له في غرفة الفئران مما يسبّب ألماً كبيراً لوالدته ومعاناة هائلة لزوجته (لوريس قزق)، والابن الثاني أنور (وائل زيدان) المحروم مع بناته من التنعّم بالرخاء الذي تعيشه العائلة لأنه تمرّد على كبيرها واختار العمل كـ "مشخّصاتي" خلافاً لإرادته.
وهناك أيضاً "أم تيسير" (شكران مرتجى) التي تحاول جاهدةً إنقاذ عائلتها ومواجهة الأب الظالم من دون أن تصيب نجاحاً، فضلاً عن عدد كبير من الشخصيات التي تأخذ دورها في هذه الحكاية على مستوى البناء الدرامي وعلى مستوى الرسائل التي تحملها للمشاهد.
لا تهدف هذه الحكايات إلى التسلية والامتاع فقط بقدر ما تحمل دعوة في قالب درامي جذّاب إلى التوقّف عن تخويف الأطفال والعبث بصحتهم النفسيَّة وصناعة أشخاص غير أسوياء، وإلى اتباع تعاليم الدين بطريقة لا تفرغها من مضمونها الرحيم، بل تتوافق مع ما جاءت لأجله وهو الخير والصلاح.
من خلال شخصيَّة "ناجي" الأعور الذي يلاحقه الأطفال بعبارة "أبو عين بيضا" يريد الكاتب أن يدعونا إلى التوقّف عن التنمّر وعن توريثه لأولادنا، ومن خلال الجرائم المتتالية يريد منا أن نتوقّف عن الارتماء في أحضان الخرافة ونسبة كل شيء إلى الجان واللعنات والسحر لتنجو "الشياطين البشريَّة" بفعلتها.
ومن خلال قصة "ملك" (دوجانا عيسى) وابن عمّتها "عربي" (وليد حصوة) اللذين قرّرت العائلة تزويجهما، قبل أن ينشب خلاف شخصي بين "أبو نذير" ووالده (جمال العلي) أطاح بهذه الزيجة وسحب الحديث عنها من التداول كما لو أنها لم تكن لتواجه ملَك خطر الذبح بسكين جدّها وأشقائها بتهمة التواصل مع حبيبها من وراء الجدار، تبرز دعوة إلى إعادة النظر في تعريف مفاهيم العار والشرف و"جرائم الشرف".
في حديثٍ له مع "الميادين الثقافيَّة" يؤكد الكاتب محمد العاص هذا الاتجاه في قراءة رسالة العمل، معتبراً أنَّ عالم الجان المذكور في القرآن الكريم وغيره من الكتب السماويَّة لا يمكن لأحد إنكار وجوده، ولكنهم "تاركيننا بحالنا" بينما نحن من لم نتركهم ولم نترك بعضنا فنسبنا إليهم كل ما نقترفه من شرور وآثام.
ويرى أنَّ رسالة العمل التي ستظهر أكثر مع اقترابه من حلقاته الأخيرة هي الدعوة إلى الحب والسلام والاهتمام بالتربية والتوعية في البيوت قبل المدارس، لأنَّ الخلاص من الخراب الذي نعيش فيه لا يمكن له أن يكون بغير بناء الإنسان أولاً.
ويشيد الكاتب بالمخرج تامر إسحاق واصفاً إيّاه بالمحترم والدمث واللطيف والمتفاني والمخلص لعمله، معتبراً أنَّ التعامل بينهما لإخراج المسلسل في أبهى صورة ممكنة كان محكوماً بالمهنيَّة والأخويَّة في آنٍ واحد، وأنَّ النقاش بينهما كان مفيداً وفي صالح العمل. أما الشركة المنتجة فيرى أنَّه محظوظ بالتعامل معها مشيداً بأصحابها الذين جمعوا "الأخلاق" و"امتلاك المشروع الفني" وعوّضوا حداثة تجربتهم في هذا المجال باهتمامهم وحبّهم للفن وتجاوبهم مع كل طلب يصب في صالح العمل.
أما الممثلين فلا يجد ما يمكن أن يفيهم حقهم من الشكر بعد أن جسّدوا شخصياته المكتوبة على الورق بإبداع منقطع النظير من الفنانين أيمن زيدان وشكران مرتجى وأمل عرفة، وصولاً إلى كل من ظهر في مشهدٍ واحد من المسلسل.
إقرأ أيضاً: هل دورا عمياء؟ تعرّف على أشهر الشخصيات الكرتونية
الممثلة روبين عيسى التي تؤدّي شخصية "نوريّة" أو "أم عربي" تحدّثت بدورها لـ "الميادين الثقافيَّة" عن سعادتها بأصداء العمل ونجاحه بالوصول إلى قلب المشاهد وعقله واعدةً المتابعين بالكثير من الأحداث المشوّقة في الحلقات المقبلة، وأشادت بمتانة النص الذي كان سبباً في اقتناعها بالمشاركة في العمل، حيث تناقشت مطوّلاً مع الكاتب محمد العاص حول تفاصيل شخصيَّة "نوريّة".
أما تامر إسحاق الذي عملت معه من قبل في "جوقة عزيزة" (كتابة خلدون قتلان) فقد وصفته بالمخرج الراقي والمتفهّم والمتعاون والمرِن الذي يحبّ الممثّل ويستمع إلى اقتراحاته ويأخذ بها إذا كانت مفيدة للشخصيَّة وللعمل، وتتوقّف روبين عند احترام شركة MB (جود وماهر البرغلي) - التي تتعاون معها للمرَّة الأولى - للعاملين معها وتعاملها الاستثنائي والمختلف على جميع الأصعدة.
بدوره، رأى المخرج تامر إسحاق أنَّ الفضل في تقبّل الجمهور للعمل يعود إلى جهود جميع المشاركين فيه، موجّهاً الشكر عبر "الميادين الثقافيَّة" إلى جميع الكوادر الفنيَّة التي عملت لفترة طويلة في مواقع تصوير خارجيَّة من فرق إضاءة وتصوير وديكور وأكسسوار وماكياج وموسيقى وخدمات، وكذلك للكاتب محمد العاص الذي قدَّم جرعة كبيرة من التشويق في نصّه الممتع للعاملين فيه قبل المشاهدين، وشركة MB ممثلة بكل من جود وماهر البرغلي اللذين لم يهملا أي عنصر من عناصر نجاح المسلسل، والممثلين الذين قدّموا أقصى الممكن في الأدوار المسندة إليهم،متوقّفاً عند غصَّة العمل وفريقه المتمثلة بـ "الحاضر الغائب" شادي زيدان الذي رحل قبل أن يشاهد أداءه المتميّز لشخصيَّة "أبو تيسير".
ويشارك في المسلسل أيضاً كل من: إمارات رزق، صفاء سلطان، عبد المنعم عمايري، نجاح سفكوني، جيانا عيد، مديحة كنيفاتي، أمية ملص، حسن خليل، زينة بارافي، فادي الشامي، همام رضا، إيمان عبد العزيز، حسام الشاه، رشا رستم، باسل حيدر، حسين عباس، محمد قنوع، فاتح سلمان، رامز عطالله، غسان عزب، عادل علي، أسامة السيد يوسف، صفوح ميماس، علاء قاسم، أحمد رافع، أحمد خليفة، ليث مفتي، أوجا أبو الذهب، رغداء هاشم، وآخرين، إضافة إلى الأطفال علي عكروش وعلي سموتي وجواد السعيد وجان سكرية وسمهر إسحاق وسلمى سمندر ونور المصري.