رواية "صمت البحر": كيف واجهت المقاومة الفرنسية الاحتلال النازي؟

تعتبر هذه الرواية هي الأشهر في أعمال المقاومة الأدبية الفرنسية وقد طبعت لأول مرة عام 1943 إبان الغزو الألماني لفرنسا، ونشرت باسم مستعار "فيركور" وهو اسم قرية فرنسية مقاوِمة عن دار سرّية اسمها "منتصف الليل".

  • "صمت البحر": المقاومة السلبية الصامتة

تعتبر رواية "صمت البحر" للفرنسي جان مارسيل بورلير واحدة من أهمّ وأشهر كتابات المقاومة في تاريخ الأدب الحديث، لأنها تناولت قضية المقاومة السلبية، وقدّمتها كأسلوب للتعاطي مع الاحتلال. يقول لنا فيركور وهو الاسم المستعار لبورلير الذي كتب هذه الرواية متخفّياً متوارياً عن أنظار المحتلّ النازي، إنّ الصمت المسلّح بالصبر والرفض للاحتلالات بإمكانه أن يكون سلاحاً فعّالاً في اختراق صفوف العدو وإبلاغه أقسى وأوضح رسائل الرفض لكلّ محاولات الإخضاع والإذعان.

صدرت الرواية الأشهر في أعمال المقاومة الأدبية الفرنسية في طبعتها الأولى عام 1943 إبان الغزو الألماني لفرنسا، ونشرت باسم مستعار "فيركور" وهو اسم قرية فرنسية مقاوِمة عن دار سرّية اسمها" منتصف الليل" ثم   تتالت بعدها الطبعات في العالم، ليباع منها أكثر من مليون نسخة، وتترجم إلى 17 لغة، كما يتمّ تحويلها إلى فيلم سينمائي عام 1948 فاز بجائزة مهرجان سان تروبيه للأفلام الروائية التلفزيونية عام 2004 كأفضل فيلم تلفزيوني.

عربياً، نشرت الرواية بداية في مجلة "الكاتب المصري" التي كان يصدرها عميد الأدب العربي "طه حسين"، ولاحقاً ضمن روايات "الهلال" المصرية (1968)، وتناوب على ترجمتها وحيد النقّاش، ورشيد التركي، ومازن محمد علي المغربي، وظهرت في أربع طبعات، وأخيراً جاءت الطبعة الخامسة عن "دار أزمنة" بعمّان لعام 2015.      

وكان الكاتب قد شرع بكتابتها أثناء امتثاله للشفاء في إثر تعرّضه للإصابة في بداية الحرب كضرورة روحية "للإبقاء على عقله فاعلاً"، بمعدّل صفحتين يومياً.

تنحو سردية "صمت البحر" منحى متميّزاً عن السرديات الضاجّة بممارسة المحتل التعسفيّة التي عادة ما يمارسها من قتل وتدمير ونهب واغتصاب وبشاعة وتتخذ من الصمت منهجاً للمقاومة وأسلوباً من أساليبها، فالضابط الألماني الذي اقتحم المنزل الريفيّ الذي يعيش فيه العمّ وابنة أخيه ويشاركهم السكن والدفء في البيت لم يلقَ من أهل الدار إلا الجفاء والبرودة والصمت، صمت المنحوتات والتماثيل المطبق الذي يحمل مؤشرات البغض والكراهية، الأمر الذي جعل الوافد الجديد يتحدّث مع نفسه كالمختل عقلياً، لأنه لم يجد من يشاركه الحديث والتبشير برؤية النازية التي كان يعتقد أنها جاءت لخير أوروبا والعالم كما تقول الدعاية النازية، وتماماً كما يزعم نتنياهو اليوم في دعايته للصهيونية .

عبثاً يحاول الضابط الألماني فرنر فون أبرناك، استمالة العجوز وابنة أخيه وكسب ودّهما، فيستبدل ثيابه العسكرية بأخرى مدنيّة لكسر حاجز الهيمنة ويقدّم نفسه كمثقّف مرهف الحسّ وموسيقيّ يحبّ باخ ويعشق بيتهوفن، ويحدّثهما عن حبّه لفرنسا ولبلزاك وفولتير وهوغو وفلوبير وكراهيته للحروب، ومهما بالغ في استعطافهما لا يلقى إلّا تبرّماً وصدوداً وصمتاً أشبه بصمت المقابر .كأنما أراد الكاتب أن ينسف كلّ جسور التواصل والحوار مع الاحتلال، والقول إنّ الحوار مع المحتلّ ممنوع وفاشل ولن يؤدّي إلّا إلى مزيد من الخضوع والإذعان لشروطه، في ردّ واضح على سياسات حكومة فيشي الموالية للاحتلال.

 يقرّر الضابط فرنر مغادرة المنزل والسفر في إجازته إلى باريس ليعود بعد أسبوعين مخطوف اللون خائب الظن بعد اكتشافه النوايا الحقيقية لدولته النازية المحتلة.

"إنّ الفرصة أمامنا للقضاء على فرنسا وسنقضي عليها، لا على قوتها فقط، ولكن على روحها أيضاً، وعلى روحها بشكل خاص، ففي روحها يكمن الخطر، كلّ الخطر، وتلك هي مهمتنا في هذه اللحظة، فلا تخدع نفسك عنها… سنغرّر بها عن طريق الابتسام والملاطفات، وسنجعل منها كلبة زاحفة".

المنزل في" صمت البحر "رمز للوطن والمنزل وموقعه الدافئ لأهله، وكذلك الوطن هو لأبنائه وغير قابل لأيّ نوع من أنواع النقاش والحوار، والمنزل هو البحر في صمته وهدوئه وهو بارع في إخفاء الأسرار والعواطف التي كانت تجيش في نفس الفتاة تجاه الشاب الجميل الوافد المتناقض مع نفسه، الحائر بين كونه ممثّلاً للاحتلال ومائلاً للفتاة راغباً في استمالتها، لذا قرّرت قمع مشاعرها وانجذابها نحوه بالصمت، كما قهرت فرنسا محتلّها ولم تنكس راياتها، كبتت الصبية مشاعرها وتركت للنظرات الخاطفة وحركات الأصابع وارتعاشات اليدين، أن تحلّ محلّ اللغة .

تنتهي الرواية بكلمة وداعاً، هو وداع بين حبيبين، وشعبين، وضفتين تحملان زخمَ الحياة المنبعثة من بين ركام  الأحلام المجهضة والمشاعر المتكسّرة والرغبات المسكوت عنها والفكر الواحد الرافض للاحتلال.