"حرائق قرطاج": ماذا حدث للثورة التونسية؟
رواية "حرائق قرطاج" تعطي صورة فنية رائعة عما اَلت إليه الثورة التونسية من تحديات.
جاء في مقدمة رواية "حرائق قرطاج" الصادرة عن "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر" في بيروت، "تانيت..يا سيدة الماء والحب والميلاد، وارفة أنت، ياقوت وكهرمان، بعينين عميقتين، شمس من المجد وقمر من الأقحوان. لقد أحرقوا قلعتك الأخيرة، وزرعوا النيران على طول الطريق، فمشينا على جراحنا خلسة، الحناجر والسكاكين الطويلة. وحين نامت النجوم في غفلة من القمر، مضى كلّ في حريق".
تلخص هذه المقدمة مصائر الشخصيات التي بُنيَت عليها الرواية. فما هي هذه السِيَر الذاتية التي تداخلت مع تصدّع الحلم التونسي بالثورة، وهل فعلاً هناك قناع وراء السرد يخفي فهماً مختلفاً ومتضارباً للنجاة، حسب كل شخصية من هذا النسيج السردي ووفق تطلعاته الشخصية؟
حين كان الماضي جميلاً وطهرانياً
نماذج لتلاميذ أشقياء تعجّ بهم المدرسة العمومية في تونس. انبثقت صداقة بين 6 أشخاص كرّستها ظروف مناسبة وحّدت مصائرهم إلى حين. وقد استخدم الروائي تقنية المرايا المتعاكسة، فكلّ شخصية تحكي بطريقتها ما يمكن أن يشرح فهمها للأحداث ولعلاقاتها بالآخرين مستخدمة "الفلاش باك" والتبئير.
تبدو النجاة من فخ التصور الذاتي للآخر أمراً موغلاً في الصعوبة. لكنّ التاريخ المحوري الذي تلاشت فيه الأقنعة العاطفية والاجتماعية هو ثورة 2011، التي ذهب ضحيتها شهداء منهم من نُسِي، ومنهم من تحوّل إلى شبه كائن بلا مستقبل.
وتكدست الآمال المجهضة كخردة في مستودع التاريخ تنتظر من يزيح عنها غبار سوء الفهم، وخفايا الصورة الخلفية لانقلاب حبس العالم أنفاسه وهو يشاهده عبر الشاشات، كأنما هي مشاهد مسجلة من أحداث أيار/مايو عام 1968 في فرنسا، أو بانوراما تسجيلية لثورة القرنفل عام 1974 في لشبونة.
إقرأ أيضاً:أهم رواية عن الثورة التونسية
تفاصيل كثيرة تعجّ بها الرواية التي توغل في وصف الأمكنة والأزمة، ما يقربها من التوليف السينمائي. يعتمد المؤلف على الشرح الخارجي والداخلي ليعطي تصوّراً ذهنياً تقريبياً للقارئ من نموذج الشخصية التونسية، عبر تنضيد تطلعات وهموم تجمع بين اليسارية إلى اليمينية المتطرفة وبينهما انكسارات أوقدت جذوة الرفض والغضب الذي تحوّل إلى جحيم للآخر.
عن اليساري "المنقذ" والإخواني "الظلامي"
يقول خليل بن خليفة في الصفحة رقم 9 من الرواية: "فتحت الباب بيد مرتعشة، فإذا بجثة مغلّفة بالسواد، باردة كالثلج تنهال عليّ قامة مديدة. تملّكني الذعر. كنت سأتراجع خطوة، لكنّ صوته وصلني كالحشرجة. خليل سأموت".
هذا هو نبيل السينكو، الطالب اليساري الذي أصيب برصاصة، ثم انتهى به المصير في لاحق الرواية وقد قضى نحبه بسرطان الرئة. يقول نبيل السينكو "..ها هي قرطاج أصبحت عاجزة عن حماية أبنائها، وستحترق بفعل أبنائها هذه المرّة في عصر أشباه الساسة الأفاقين.."، وفي الأثناء، لا يفتأ يبث الأمل في أصدقائه، مبتلعاً غصّة تحالف قوى الردة للعودة بتونس إلى الوراء. إنه رمز الحرية.
لا توجد وصفة سحرية للخروج من براثن المجموعات التكفيرية التي تنامت منذ 2011 لتتحوّل إلى أخطبوط هزّ تونس وبقية العالم، مستخدمة دهاء من يعوّل على سقوط الطرائد المهزومة لتدخل إلى حظيرة "الجهاد العالمي" ضد البشرية، وتتحصن وراء أيديولوجيا تمجدّ الأكفان في انتظار الاستيلاء على الفضاء العمومي، وإنشاء جسور للفوضى.
وكان منير بن مبروك، الذي صارت كنيته أبو عبد الله التونسي، بعد أن كان يختزل قيم الصداقة والأمل وضرورة البحث عن غد أفضل، كان رياضياً طموحاً خذلته البيروقراطية في بلده، فهاجر إلى كوبا بحثاً عن إكمال حلمه بحياة ألطف، لكنه يرتطم بمافيا في بلد مجاور كسرت طموحاته المهنية والأسرية، ومهّدت لظهوره كضحية ناقمة على البلاد والعباد.
الخسارات أيضاً فضاء يمهّد لاستسلام الضحايا وإعادة برمجتهم عقلياً من طرف الفصائل "الإسلامية" المتشددة والأكثر إرهاباً.
يقول له صديقه القديم طارق التومي، وكنيته الجهادية أبو عزّام، إن: "مكانك في دولة الخلافة إمّا سرت أو الرقّة".
يتدخل صوت الروائي مرة أخرى ليثبت للقارئ صحة النظرية القديمة. لا شيء يضيع لكنه يتحوّل. فترصيف شخصية "أبو عزام " في خانة "المؤمنين بتطبيق الشريعة في عالم ظالم وغير سويّ أخلاقياً كان يتطلب أن يمرّ طارق بمحن عائلية، ويتبدى له الوجه القبيح لاستغلال الشركات الغربية لنفط ليبيا بعد الانقلاب على نظامها القديم، وتسّرب الفوضى في بلد يسبح في ثروات طبيعية هائلة. بعد تجربة عاطفية مريرة، وأمام هول مشهد الصديق الفرنسي الباحث عن الغرابة واللذة في أكثر مظاهرها تقززاً. كان طارق قد قفز إلى نهر الدولة الإسلامية العميق التي تمددت في ليبيا".
إقرأ أيضاً: "سعادته... السيّد الوزير".. رواية تونسية عن آليات الاستبداد
كيف لأستاذ القانون المشارك في الثورة ضد نظام كان يوصف بأنه ينتهك القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان أن يسقط في شرك ما يمكن أن نطلق عليه معسكر الفارين نحو الله والموعودين بجنة لها مباهج لا تحصى ولا تعدّ؟
عليّ الملقب بالبتول، والذي يؤمن بالتعايش الديني وصفاء الرفقة، لا يتحرج من إعلان انبهاره بصديقه نبيل السينكو الذي يقول عنه "لطالما أبهرني نبيل باتزانه المزمن وطريقته في التعامل مع الأحداث". فقد كانا رفيقَي زمن البراءة ثم السجن، ورفيقَي الحلم المشترك بتونس أكثر رأفة بأبنائها. يبدو مندفعاً نحو عالم جحيمي غذّته عزلته كطفل غرّ في عالم النساء، وساعدته هشاشته كحالم يتسم برومانسية خفيفة أن يقول "..أحسست بالزمن يأكلنا والآمال تفرّقنا. كنا نريد أن ننعتق من وطأة الحياة بأن ننسى وننسى حدّ الغياب، ولكن في كل ّ مرة، تلحّ علينا الحياة وتهزنا الأيام".
لم تمنع مشاركة علي في معهد واشنطن للشرق الأدنى حول الإسلام السياسي واقعه وآفاقه، ودفاعه في المحاكم الفرنسية والاتحاد الأوروبي عن إحدى الضحايا في تونس، من أن يتحوّل إلى مشارك في عملية إرهابية هزّت مطار بروكسل.
المرأة كنموذج للصورة الدامية للواقع
إذا نظرنا إلى الشخصيات النسائية في الرواية، فإننا سنلاحظ أنها مبنية على فقدان الذكاء العاطفي. وكلهن ضحايا مجتمع ذكوري. وهذا ما ساعد على تطوير البناء الدرامي لهذا النص السردي. فكل شخصية لها رحلة عاطفية مبتورة أو مشوّشة. سماتهن جميعاً اللطف والغضب والصدق. كلهن يتمسكن بنبيل السينكو بطريقة أو بأخرى. فسناء لا تختلف عن فاطمة في هذا الاستثناء المفرط لتفعيل أحاسيسهن الأنثوية؛ بحثاً عن الملاذ/الخلاص /الحب والصداقات غير المزيفة.
يتصرفن وفق تصوّر غير سويّ للواقع، وشهدن تحوّلات صعبة، وكان المناخ السياسي في تونس والعالم مهيئاً لتحويل بعضهن إلى "مجاهدات في سبيل دولة ذات حدود هلامية، وينتهي بهن الأمر إلى نزع كل الأقنعة، فلا خلاف لديهن بين أن تكون حقيقياً في واقع الأفعال، كما في الباطن، ولذلك كان ارتطامهن بالحياة كبيراً".
تبدأ فتحية رحلتها نحو التيه بالمكوث في مستشفى الأمراض العقلية، وقد تدهورت حالتها بسبب التهاون الطبي، لتتحوّل إلى زوجة ثانية ضمن دائرة جهاد "الكفر" هي أيضاً. بينما تتحوّل سناء إلى أمّ خطّاب بعد دعوة علي، الأستاذ الجامعي والصديق القديم، إلى التوبة.
تقول سناء في الصفحة 198 من الرواية: "كان عليّ يتحاشى النظر إليّ حين وصلت. أختي الكريمة ستبدئين حياة جديدة..انسي حياة الجاهلية. ثم، مدّ لي كيساً وقال لي: حياتك الجديدة تبدأ من هنا"...وتضيف: "ثم، أغمضت عينيّ، وأحسست كأن كاهلي مثقل بالآثام والذنوب والمعاصي. كأنني أشم رائحة المسك".
فاني أو فاطمة الأبيض التي عاشت تمزقاً حضارياً في كنف أسرة منهارة، وبين الجنوب التونسي وبلجيكا كانت تسعى إلى البحث عن التوازن في إطار صداقاتها القديمة. لكن فاني تقول في الصفحة رقم 378، بعد أن حاصرتها الشرطة البلجيكية في ضاحية أودرغام نظراً إلى تورطها من دون أن تدري مع علي الذي حسبته حبّاً نقياً، "..قال لي إنّ القدر أرسله ملاكاً يجنّبني مشقة الطريق. لكم فاتني أن أكون شيطاناً".
وحدها ليلى الساعي، الصديقة القديمة، نجت بعقلانيتها من أحابيل الإحباط والخيانة، لأنها كانت لا تختلف عن نبيل السينكو في وضوح رؤيتها السياسية للكوارث التي خلّفتها المجموعات الدينية في البلد، ومدى تأثيرها في إرباك المشهد التونسي مع تنامي المناداة بالتوافق بين الأطراف المتصارعة بغية حكم البلاد.
سعى المؤلف أن تكون هذه الشخصية موجودة في آخر الرواية كدليل على أنّ العقل والإيمان بالتنوير شرط للخلاص الفردي والجماعي. تتحدث ليلى الساعي عن أزمة العقل التونسي والعربي قائلة "..أين فكر هشام جعيّط في تونس؟ وفكر محمد عابد الجابري في المغرب؟ ومحمد أركون في الجزائر؟ وعليّ حرب في لبنان؟...كلهم أصبحوا غرباء في أوطانهم ولا يعرفهم أحد؟ ويعرفون فقيهاً عاش في القرن السابع للهجرة اسمه ابن تيمية؟ قولي يا فاطمة أليست هذه مؤامرة".
لا بد من تصفية بيادر العقل
من خلال الوصف المكثف للأماكن والتركيز على إثبات الهوية التونسية المنسجمة مع تصورات أبطاله، الذين لا يبدو عليهم الانبتات بقدر ما كانوا ضحايا خيبات كثيرة أدت بأغلبهم إلى طرق مسدودة، فإن خير الدين جمعة يزرد عبر السرد ما قاله غابرييل غارسيا ماركيز عن الحياة إنها "ليست ما عشناه، لكن ما نتذكر أننا عشناه وكيفية ذلك".
من هذا المنطلق، يمكن أن نفهم أن رواية "حرائق قرطاج" بوصفها تأريخ تتداخل فيه السيَر الذاتية للشخصيات التي يمكن تقسيمها إلى صنفين، شخصيات نموذجية وأخرى ثانوية مثل شخصية خليل بن خليفة الذي وشى بأصحابه لعلة دفينة في نفسه وكانوا ضحايا السجن.
إقرأ ايضاً: ثورة تونس..بين السَرْد والتخييل
وبينما تبدو قرطاج التاريخ حاضرة من خلال استحضار التانيت إلهة الخصب التي بدأت بها الرواية، فإنها أيضاً المدينة التي أحرقها الرومان ونثروا فوقها الملح إمعاناً في جدبها وخرابها.