رواية الأصنام: الثورة تأكل أبناءها
جيل كامل ما بعد الثورة أصابه الزلزال النفسي قبل الطبيعي سواء بنتائج القمع وكم الأفواه أم بصعود التيارات المتشدّدة، وكلّها تكثّف رمزية التيه وفقدان البوصلة عند حدوث الزلزال.
يرصد أمين الزاوي في روايته "الأصنام" والتي تحمل العنوان الفرعي "قابيل الذي رقّ قلبه لأخيه هابيل" الصادرة عن دار العين للنشر عام 2024، والتي رشّحت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر لعام 2024، مجمل التحوّلات السياسية والاجتماعية في المجتمع الجزائري بعد الثورة، حيث صُدم الذين هتفوا وناضلوا من أجل الحرية لأنهم أمسوا أوّل ضحاياها، وهم أوّل من قبعوا في زنازين الحكّام الجدد، في إشارة إلى الحركة التي قام به هواري بو مدين بانقلابه على حكم أحمد بن بلة، وقد ضمنها تاريخ أسرة محيميد وأبوه وجده، محيميد الذي ولد يوم الانقلاب ولم يُسمع صراخ له ولا لأخته التوأم يوم الولادة، وفق تعبير السارد بتضمين على ذلك اليوم الذي افتتح بكم الأفواه.
"الأصنام" العتبة النصية الأولى، ويشير اسم المدينة إلى مسرح الأحداث ودعيت بهذا الاسم لوجود الكثير من الشواهد الآثارية، واستبدل الاسم فيما بعد بـ "الشلف" تلاها العنوان الفرعي" قابيل الذي رقّ قلبه لأخيه هابيل" عبر تناصّ يتغيّا المعارضة للحكاية في أساس الفكرة المعروفة في قصة "قابيل وهابيل"، فالأخ محيميد الذي كلّفت تسميته بهذا الاسم تعرّض أبيه للاعتقال لأنه سمي بن بلة الذي عرف بهذا الاسم، لذا صار ينادى بعدها يونس بحسب تسمية أمه، وهو صوت السارد والشخصية الأساسية التي تدور حولها أحداث النص.
محيميد هذا يشعر بتعاطف كبير مع أخيه "مهدي" الأنثوي الطبيعة الرقيق الجانب، ويرى فيه ما خفي عن الآخرين من حساسيته ورهافة شعوره، في معارضة حكاية القتل المعروفة بين الأخ وأخيه بحنو أخوي عالٍ معه مضمناً محبة ورؤية متصالحة مع الهوية الجندرية المختلفة.
ذلك الأخ الذي قضى بيد الفئات المتشدّدة والتشكيلات الجهادية مع صعود ثقافة الكراهية ونبذ الآخر، التي قامت بتجنيد وحشد قواها من الجزائر إلى سوريا إلى أفغانستان وفق مصالح الدول الداعمة تحت يافطة الدين، والدين منها براء. وقد آلى على نفسه أن ينتقم من قتلته الذين استغلوا يوم الزلزال ليموّهوا فعلتهم ويدفنوه في الأنقاض. لذا نراه يتدرّج في الاندماج معهم وقراءة كتبهم والقيام بشعائرهم حتى السفر معهم للجهاد، وأثناء ذلك يصوّر من متابعته الشخصية لتفاصيل حياتهم كيف تسيطر الجريمة والمخدرات ونكاح الجهاد على العقليات التي تسيّرهم، إلى أن يتسنّى له تنفيذ ما قصد بالاقتصاص من كبيرهم الشيخ سليمان الأعور، ويولّى أدباره راجعاً إلى بلاده بعد ذلك.
عمل الكاتب على توضيح استثمار الجماعات الجهادية لفكرة التعريب مع معاداة السوفيات والاشتراكية والبربر الملحقين بالاستعمار الفرنسي في باقة واحدة وتحشيد الشباب ضدها باسم الدين، ويشهد الحوار الداخلي بينه وبين ذاته في إثر موت الأخ الذي أقضّ مضجعه وأراد أن ينتقم له بأسلوب مختلف عبر تفصيلات مختلفة تعتمل في نفسه ولا يخرجها للعلن، فهو لا يستطيع أن يقارع الحجة بحجة لأنه بذلك يكشف نفسه لمتطرّفين لا يقبلون بالآخر لدرجة إزهاق حياته، فقد لا يعجبنا تفكير شخص ما أو قناعاته ولكن أن نوكل أنفسنا بمهام ربّ العباد فتلك هي الجريمة.
جيل كامل ما بعد الثورة أصابه الزلزال النفسي قبل الطبيعي سواء بنتائج القمع وكم الأفواه أم بصعود التيارات المتشدّدة، وكلّها تكثّف رمزية التيه وفقدان البوصلة عند حدوث الزلزال، أي أفلت المستقبل وغاب في شوارع البلد، فضياع الأب وتيهه ضياع للثورة وللحرية التي كانت هدفاً رئيساً له، وما إفلاته يد ابنه عشية الزلزال إلا إفلات تلك الشريحة من الثوّار لناصية المستقبل وتبوأ التيارات المتشددة المشهد السياسي في السلطة وخارجها والعشرية السوداء تشهد.
استهلّ صاحب "شارع إبليس" نصه بقول الشاعر المهلهل عندما أتاه خبر موت أخيه كليب "كليب مات ...هل مات كلّه" باستكبار وتعظيم لتموضع الأخ بوجدان أخيه ضمن اشتغالاته على عدة تناصّات في النص: التناصّ المخالف للأصل في حكاية "قابيل وهابيل" في تقويض المعنى ومعاكسة الفكرة، وتناصّ ضمنيّ مع نص "المسخ"، أو التحوّل لكافكا في التداعيات العابرة لتفكير الأب وهو بالمعتقل في علاقة الصداقة النادرة بالصرصور الصديق الذي يتمشّى على ظهره ويؤنس وحدته داخل القبو المعتم الرطب والتي بدت أرحم من العسكري الذي يحتجزه.
وكذلك لحظنا تناصّاً إيقاعياً بتلاعبه بالمفردات على غرار "الناس حيارى وما هم بحيارى"، في محاكاة مع النص القرآني في قوله تعالى" :يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد"، وكذلك تشبيهه ساعة الزلزال بيوم النشور بتعبيره :"زلزلت الأرض زلزالها، أخرجت الأفواه ألسنتها" الذي يتناصّ كذلك مع قوله تعالى في كتابه العزيز "إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها".
التداعيات السردية الناعمة لذكريات الطفولة مع السيدة جانيت غروط وأناملها السحرية تتحرّك فوق جلد ظهره وعلى رقبته وعلى شعره، وردود أفعال وأحاسيس فطرية ملغومة تستشعر غموض الأنثى بلا تفسير سوى إحساس عذب وغامض ومخيف في الوقت ذاته يستعيدها مراراً، مترافقة مع خوفه من الأنثى والماء، ليتنامى وعيه بصحبة صهره ويتغلّب على الخوف من الغرق الموسوم بذكر خاله الذي أخذ الاسم الثاني منه "يونس"، ليتدرّج إلى اشتقاق شخصية من ذاته على هيئة الأخ المتوفّى الذي يرافقه دوماً ويحاوره ويوطّد حماسته للاقتصاص من قتلته في حادثة القتل التي لا تغادر الذاكرة على مدار النص.
عمل الكاتب على تأثيث السرد بالأنساق الثقافية المهيمنة على الواقع الاجتماعي للبيئة المحيطة على غرار: "أفضل الأسماء ما عبّد وحمّد، الاحتفال بالعقيقة في اليوم السابع للمولود، وكذلك التنمّر الذي عاشه مهدي في البيت نتيجة ميوله، أليس البيت صورة عن المجتمع وما دفعه للقول "أليست أمي من قتل أخي كونها ابتسمت وشعرت بالراحة بعد موته، وهو التقويض الثاني بعد حكاية "قابيل وهابيل" الذي تلاعب به لمسلّمات نعرفها عن تضحية الأم وإحساسها بأبنائها، ولكنه صوت المجتمع القاهر يبقى أقوى وتشعر وتفكّر من خلاله يؤكده تعبيره المتسائل: "لماذا أسعد موت أخي أمي ألا رحمة".
النص بأكمله تقاطع شفرات دلالية تتوزّع عبر التنقّل بين فترات زمنية مترابطة فقط في عقل السارد يلاحق القارئ تداعياتها وفق ما يتذكّره الراوي العليم، كونها تركّز على البؤر النفسية ذات الدلالة عبر تكرارها في كلّ مفصل من حياته، فهو ينهي العمل بحفلة تأبين المجاهد الأب الذي تاه بعد أن خذلته السياسة، وهي أشبه بحفلة سيرك للتهريج ساخراً فيها بمن هم قادرون على جلب الموتى من قبورهم لنجاح حفل الاستقبال الملحق بالجنازة، الجنازة التي تصدّرها الخال يونس الذي هرب من الاشتراك بالثورة بحجة غرقه، وعاد كمسؤول يتطهّر بتأبين "عللا فليتا" الأب كأحد رجالات الثورة في الماضي لتكون العبارة التي أنهى بها النص "من يعرف الطريق إلى غرقه يعرف سبيل النجاة منه"؟ في تكثيف واختزال ممارسات لتلك الفئة التي حصدت مكاسب الثورة من دون أن تتبنّاها فعلياً وارتقت على أجساد الشهداء.