رائعة "الطنطورية": كيفية اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم

سبق لرضوى أن كتبت سردية رائعة عن الاقتلاع والتهجير من الأندلس هي "ثلاثية غرناطة" نالت عليها جائزة أفضل كتاب في مجال الرواية لعام 1994 من معرض القاهرة الدولي للكتاب. عادت بعدها لتقدّم سرديّة لا تقلّ إبداعاً عن سابقتها حملت عنوان"الطنطورية".

  • رواية الطنطورية: ملح البحر اليابس على شفاه النازحين
    رواية الطنطورية: ملح البحر اليابس على شفاه النازحين

في أجواء الحرب الإسرائيلية على فلسطين وبعدها على لبنان نستعيد رواية الطنطورية للروائية الكبيرة رضوى عاشور، باعتبارها رواية نزوح وتهجير بامتياز، تؤرّخ من خلالها عاشور قصة الاقتلاع من الأرض والتهجير، فإذا كان الاقتلاع من الأرض التي ولد فيها الإنسان بمثابة الكارثة الإنسانية بكلّ المقاييس، فإن النزوح والتهجير القسري بما ينطوي عليه من معاناة نفسية واجتماعية واقتصادية لا يقلّ وجعاً وألماً بسبب المشكلات الطارئة الناشئة عن أوضاع مستجدّة مفروضة على النازحين من دون إرادة منهم. 

من هنا نستعيد رائعة الطنطورية التي صدرت للمرة الأولى عن دارالشروق عام 2010 وأعيد نشرها أكثر من مرة، فرضوى عاشور الناقدة والأكاديمية كان سبق لها أن كتبت سردية رائعة عن الاقتلاع والتهجير من الأندلس هي "ثلاثية غرناطة"  نالت عليها جائزة أفضل كتاب في مجال الرواية لعام 1994 من معرض القاهرة الدولي للكتاب. عادت بعدها لتقدّم سرديّة لا تقلّ إبداعاً عن سابقتها حملت عنوان"الطنطورية"، قريتها الساحلية الواقعة جنوب حيفا المرتاحة للموج الذي يتفقّش على نخاريب صخورها الدهرية.

تبدأ أحداث الرواية بقصة رقية واستعراض طفولتها في قرية الطنطورة جارة البحر، فتحكي تفاصيل الحياة اليومية على أرض آمنة لا تعرف ما ينتظرها، ثم فجأة تأخذ أخبار سقوط القرى بيد العصابات الصهيونية تترى وتتوالى "تخيَّلت أمي وخالتي وهما تتسامران في جلساتهما اليومية وأنّ ما حدث لأهل قِيسارْيَة يمكن أن يحدث لهما؟ أرجِّح قياساً على نفسي وحديثهما اليومي أن قِيسارْيَة بدت بعيدة، بلداً آخر لم نره أبداً أَلَمَّتْ بأهله كارثة فتعيّن علينا أن نشفق عليهم".

تأخذ المدن والقرى الفلسطينية بالتهاوي واحدة بعد الأخرى، فتحتار الناس في خياراتها بين متمسّك بأرضه حتى الموت كأبيها، أبي الصادق، الذي أنكر على أخيه، أبي الأمين، نزوحه من القرية، لكنّ عمّها لم يعبأ برأي أخيه، يحتد النقاش بينهما حتى سمعه أهل القرية،سارع أبو الأمين إلى جمع عياله وعيال أخيه ومنهم الطفلة رقية، لكنّ أباها رفض نزوح عياله مع أخيه، لتضطرّ العائلة بعدها مرغمة إلى الرحيل القسري، بعد استشهاد عبد القادر الحسيني وسقوط حيفا وتهاوي القرى وانفراطها كحبات السبحة. تسارع  الطفلة رقية إلى مساعدة أمها في لملمة الأغراض والأشياء لزوم التهجير .في الطريق ترى والدها وشقيقيها بين أكوام القتلى فتنبّه أمها إلى ذلك، لكنّ الأم تكبت مشاعرها وتمضي في سبيلها وتقضي بقية عمرها رافضة الاعتراف بهذا الفقد المفجع.

بلغة شعرية انسيابية يتدفّق السرد وتتوزّع تفاصيله على كامل النص مستحضراً معاناة الشعب الفلسطيني الذي شُرّد عن أرضه بعد سلسلة مذابح قام بها الاحتلال الإسرائيلي في دير ياسين، والطنطورة....

"في الحرب لا يتصرّف الناس كما خلقهم ربنا. يُجنُّ الخلق ويفلت الميزان. ساعتها لا يكون الشعر وحده أو الثوب مُشعّثاً بل يتشعّث القلب"، وهذا ما حدث لزينب أم رقية بعد مذبحة الطنطورة التي منشدّة ألمها أنكرت فقدان زوجها وولديها وموتهم رغم أنها رأتهم بأمّ عينها في شاحنة القتلى .

تتداخل في الرواية أحداث ووقائع التاريخ الفلسطيني وخيال الكاتبة،مثقلة بعبء التغريبة الفلسطينية من عام 1948 مروراً بكلّ حدث لامس شغاف هذه القضية  من خلال شخصية "رقية الطنطورية" التي تمثّل الشخصية الرئيسية والمحورية فيها، وهي امرأة بسيطة تحكي حياتها المليئة بالمآسي، مجسّدة شخصية المرأة الفلسطينية المناضلة التي تحاول الحفاظ على الهوية في الشتات، وتقدّم المرأة الفلسطينية من منظور نسوي بوصفها مقاومة بامتياز، فالمرأة هي بطلة التهجير الواقعية الأولى وهي تتحمّل أعباء النزوح والتنقّل من مكان إلى آخر.

لقد غدت رقية شخصية الرواية المحورية ابنة الشتات الأكثر قسوة،وشرعت تحكي قصة عالم المخيّمات المفروضة في لبنان:

"أغلب نساء المخيم يحملن مفاتيح دورهن تماماً كما كانت تفعل أمي.البعض كان يريه لي وهو يحكي عن القرية التي جاء منها. وأحياناً كنت ألمح طرف الحبل الذي يحيط بالرقبة وإن لم أرَ المفتاح، وأحياناً لا ألمحه ولا تشير إليه السيدة ولكنني أعرف أنه هناك تحت الثوب".

ولا تنسى رضوى عاشور أن تذكّر بمصائر النازحين ونجاحاتهم في الاغتراب، فصادق ابن رقية يعيش حالة من الرفاهية، يدرس الطب ويسافر إلى أبو ظبي للحصول على المال، ويحاول قدر المستطاع أن يتحمّل مسؤولية أسرته ومعيشتها. وحسن ابن رقية يمثّل خيار العلم،فيسافر إلى مصر للالتحاق بالجامعة، ثم إلى كندا لإكمال دراساته العليا، يطلب حسن من أمه كتابة قصة الطنطورية كشاهدة على ماحدث فيها من جرائم. 

غير أن هذه النجاحات تخفي وراءها حزناً عميقاً على تفرّق الأسرة الفلسطينية وتشتّتها في المنافي القصيّة، فأسرة رقية لا تجد إلا جزيرة بيريوس للاحتفال بزواج ابنها حسن، بعد أن تعذّر لقاء الأسرة بسبب تشرذمها في مختلف بِقاع الأرض.

تزخر الرواية بعبارات تأخذ شكل الأقوال المأثورة وهذا ما تبرع فيه رضوى عاشور عادة :

"أمسى البكاء مبتذلاً، ربما لأنّ الدموع صارت تستحي من نفسها، لامجال...".

" لا أحد يستعصى على ترويض الزمان...".

" المخيّم يجب أن يبقى مخيّماً مؤقتاً تأكيداً على أننا لاجئون...."

أحياناً نحتفظ بأشياء ربما يصعب أن نختزل قيمتها في معنى واحد...".