رؤية جمال حمدان لاستراتيجية التحرّر من الإستعمار
سئل الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل مرات عدة، هل أنت مفكر ثورة تموز/ يوليو 1952؟ فكان دائماً يجيب: جمال حمدان هو مفكر ثورة يوليو.
تشكل مؤلفات العالم المصري الراحل جمال حمدان (1928 -1993) خريطة طريق لنصوص استراتيجية تحمل فكراً استراتيجياً ينير للأجيال دروب الحياة.
تقتضي مناسبة الذكرى السنوية الـ29 لرحيل حمدان أن نتوقف عند كتابه الجيوبولتيكي "استراتيجية الإستعمار والتحرير" الذي يعتبر من أهم الدراسات لاستراتيجية الإستعمار والتحرير.
لم ينل هذا الكتاب الموسوعي الصادر عن دار الهلال قبل نحو أربعين عاماً (عام 1983)، والذي كان رداً على على دعوة رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي حينها أرييل شارون، دول العالم للاعتراف بـ"دولة إسرائيل"، من الشهرة عشر ما تحقق لكتابه "شحصية مصر: عبقرية المكان" المكون من 4 أجزاء، الذي ألفه رداً على هزيمة 1967. فالكتاب الأخير غطى على أعماله الأخرى، التي كان لبعضها من القيمة ما لا يقل عنه.
كتاب "استراتيجية الإستعمار والتحرير" يحتاج إلى جهد كبير لقراءته حيث يسرد بشكل عميق الإستعمار و التحرير منذ العصور القديمة مروراً بالعصور الوُسطى وحتى قرن الاستعمار (التاسع عشر). ثم ينتقل الى عصر ثورات التحرير والانقلاب النووي، ويقدم في الجزء الأخير من الكتاب تحليلاً لاستراتيجية عدم الإنحياز ووضع العالم الثالث ثم ينتقل إلى حلول "سياسية – اقتصادية – علمية" يحتاجها العالم الثالث حتى يدخل عصر التقدم.
ويساعد الكتاب في فهم توازنات القوى العالمية والعلاقات الدولية وتأثير البعد التاريخي والجغرافي على العلاقات المستقبلية بين الدول. يقول جمال حمدان في الكتاب "قد نعد الإستعمار قديماً قدم الإنسان، فمن الممكن أن ننظر إلى التاريخ القديم على أنه فصول متلاحقة أو متداخلة من الهجرات والغزوات.
خطر الولايات المتحدة الاميركية
يشخّص حمدان في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير" خطر الولايات المتحدة في أنها أول دولة في التاريخ اجتمعت فيها ولها كل عناصر القوة ومقوّماتها، ولكن -أيضًا- كل أعراضها وأمراضها. ويرى أنها مرت بثلاث مراحل هي:
مرحلة الطفولة حتى آواخر القرن 19، ثم مرحلة الشباب حتى حرب فيتنام ، ثم أخيراً مرحلة النضج منذ الوفاق في سبعينيات القرن الماضي.
ويعتبر حمدان أن الولايات المتحدة، وهي بريطانيا القرن العشرين، تمر بنفس المرحلة التي كانت عليها بريطانيا منذ أواخر القرن 19 نحو أعوام 1870/ 1880 وما بعدها حتى الحرب الأولى. فهناك من يرى مثل المؤرح البريطاني اَرنولد توينبي أن الولايات المتحدة هي روما العصر بينما يسجل أحد قادة الولايات المتحدة قوله: "إننا أصبحنا نقوم بالدور الذي كانت تقوم به الإمبراطورية البريطانية القديم
ويؤكد أن عناصر القوة الأميركية لم تعد مفتاحاً أساسياً من مفاتيح السياسة العالمية فقط، بل وأخطر عناصر الصراع والصدام الدولي المحتمل. فالذي يساعدها على ذلك وجودها العسكري من قواعد عسكرية وأساطيل منبثة حول العالم كله حتى كادت بذلك تصبح جغرافياً وسياسياً "جاراً" غير مرغوب فيه تشترك حدوده مع حدود كل دولة. ويكمل حمدان: حتى صارت شريكاً طفيلياً لها في وجودها بمخابراتها السرية وعملائها وتكنولوجيات التجسس والأقمار الصناعية، حتى قال البعض يأساً أو سخرية: أينما تكونوا تدرككم الولايات المتحدة.
ويضيف: "بغض النظر عما تدعيه الولايات المتحدة عن مثاليتها وفروسيات قوتها أو أنها ظل الله على الأرض أو أن "الله أميركي" كما يسخر منها البعض كما سخروا من بريطانيا، فإن الواقع الموضوعي يوضح أن عناصر القوة قد تحولت أحياناً في يد الولايات المتحدة إلى أعلى مراحل غرور القوة، إن لم يكن حقاً نوع من جنون القوة.
ويناقش حمدان رؤيته هذه عن الولايات المتحدة بقوله: أياً كانت النظرة العلمية إلى هذه الاَراء التي قد تكون عاطفية أكثر مما هي خاطئة، فلا جدال بأن هناك كثيراً من الموضوعية في نظرة الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول الذي أعلن كرجل مسؤول، أن أخطر ما يواجه العالم في القرن العشرين هو تضخم قوة أميركا خارج كل الحدود.
يؤكد حمدان أن عقدة فيتنام وصدمة الوفاق تمثلان تغيراً كيفياً أكثر منه كمياً. ففي أتون فيتنام انصهر غرور القوة والغطرسة الأميركية، ثم أنضجتها بسياسة الوفاق الدولي فاستيقظت الولايات المتحدة على الحقيقة القاسية وهي أنها إزاء تحديات لم تعرفها من قبل، كما عبّر الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون وقتها أنها لم تعد وحدها وأن هناك قادمين جدد على الطريق ومنافسين أقوياء على الصدارة العالمية.
يرى حمدان كعالم جيوبولتيكي أن أميركا قد انتقلت بعد حرب فيتنام وعبر بوابة الوفاق من مرحلة الشباب إلى مرحلة النضج. ويعتقد حمدان أن ثقل أميركا يتضاءل في ميزان القوة العالمية بعد أن وصل إلى الذروة، لأن عالم القوى قد اتسع كثيراً عما كان عليه حتى قريب، وذلك بظهور تعدد المراكز وبات العالم من حولها ينمو سريعاً.
إن أميركا تمر من مرحلة الشباب إلى مرحلة النضج أي الاستقرار وهي المرحلة التي تكون فيها الدولة قد بلغت قمة القوة ولا تملك بعدها أن تخسر. لذا تجد كل مصلحتها في المحافظة على مواقعها المكتسبة، ساعية إلى سلامها الذي كانت فرضته بالقوة، وذلك من دون الالتجاء ما استطاعت إلى مزيد من الحروب والصدمات. أي ان الدولة باختصار تقبل بالوضع الراهن لتفرض منه الأمر الواقع وتستبدل بالعنف المباشر الخداع العنيف. وتلك هي حقيقة الحقائق في كل الموقف الأميركي الراهن، مثلما هي الحقيقة المفتاح في سياستها المقبلة.
يخلص حمدان رؤيته حول اميركا إلى أنه كما كانت الحرب العالمية الثانية بداية النهاية للإمبراطورية البريطانية ونهاية النهاية لها كانت مع ثورة محمد مصدق عام 1951 وثورة عبد الناصر عام 1953، جاءت حرب فيتنام كبداية النهاية للسيادة العالمية لأميركا وجاءت نهاية النهاية لها مع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
لقد رحل حمدان باكراً عام 1993 بعد سنوات قليلة من انهيار الإتحاد السوفياتي وبروز الاَحادية القطبية الأميركية، ففاته التغول الأميركي في العالم ومحاولة فرض هيمنتها العالمية عبر حروب وغزوات. وبالتالي تجاوزت مرحلة النضج والإستقرار ودخلت في مرحلة التهور والطغيان.
إن مؤلفاته كلها وبالأخص منها كتاباه: "استراتيجية الاستعمار والتحرير" و"شخصية مصر: عبقرية المكان" لا تقل قيمة من حيث المنهجية وشمول الرؤية، حول استراتيجيات الصعود الإمبراطوري وهبوطه، عن كتب المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين زبيغينو بريجنسكي وبول كينيدي صاحب كتاب "صعود وسقوط القوى العظمى" الصادر عام 1987. وكتب برنارد لويس وصامويل هنتنغتون، صاحب كتاب "صدام الحضارات"،التي كانت الأكثر رواجاً بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، فقد شاعت هذه الكتب المهمة في فضاء الفكر العالمي لوقت طويل لمجرد أن مؤلفها أميركي وأنه ينطلق من منظور غربي ليكرس المركزية الغربية. فقد احتضنت المؤسسات السياسية الغربية والأميركية كتابات هؤلاء، واستفادتْ منها، وجعلتْ من المعرفة التي يقدمونها في الدراسات الجيوبولتيكية الأساس الذي تنطلق منه.
"مشكلة" جمال حمدان أنه بقي شبه مغمور لانه يكتب بالعربية ويكافح ضد المركزية الغربية، مثلما يواجه استراتيجيات الإستعمار التي أخذت تدور في الفلك الأميركي باستراتيجيات تحرر قومي دارت في الفلك المصري طيلة الثلث الأوسط من القرن العشرين. و"مأساته" أنه حُورب من أنصاف المتعلمين، ورأى كيف يُمسك هؤلاء بمقاليد المراكز المهمة داخل الجامعة وخارجها، فقرر أن يعتزل الجامعة كلها في منتصف ستينيات القرن الماضي.
لهذا بقيت أكثر أفكار حمدان المهمة حبيسة. فلم يُستفد منها بشأن العلاقات العربية - العربية، أو تعمير سيناء، أو الثراء الثقافي العربي الناتج عن التنوع والتعدد، أو الصراع مع قوى الاستعمار الجديد، وغيرها كثير.
رحل حمدان عن عالمنا في 17 نيسان/ أبريل عام 1993 بعد أن ترك 29 كتاباً و79 بحثاً، منها "المدينة العربية"، "اليهود انثروبولوجيا"، "العالم الإسلامى المعاصر"، "دراسات فى العالم العربي"، "إفريقيا الجديدة"، و"شخصية مصر ــ عبقرية الزمان والمكان".