دوروشيفيتش في فلسطين: هل ما رأيته مجرد حلم ملوّن؟
تخلت عنه والدته عندما كان رضيعاً، ثم صار أحد أبرز النقاد المسرحيين والناشرين الروس. من هو فلاس دوروشيفيتش؟ وكيف وصف فلسطين وسكانها من المسلمين والمسيحيين؟
جاب فلاس ميخائيلوفيتش دوروشيفيتش (1865 - 1922) في كثير من البلدان قبل أن يحل في يافا. ولعل أبرز رحلة عمل له كانت عام 1897، على متن الباخرة "ياروسلافل" المخصصة لنقل المحكومين إلى الشرق الأقصى، فنشر كتاباً وسلسلة من المقالات عن المحكومين بالنفي والأشغال الشاقة في جزيرة سخالين.
عُدّ دوروشيفيتش أحد أبرز النقاد المسرحيين والناشرين الروس في زمانه. والده الصحافي سيرغي سوكولوف، الذي توفي شاباً، ووالدته الكاتبة ألكسندرا سوكولوفا (1833 - 1914) المتحدرة من سلالة دنيسييف النبيلة. حين كان فلاس في الشهر السادس من عمره تركته والدته في غرفة فندق رخيص وفرّت، فكان نصيبه أن يتبناه الشرطي ميخائيل دورورشيفيتش، الذي منحه اسم عائلته.
لكن سوكولوفا ظهرت بعد 10 أعوام، وطالبت بحقها في رؤية ابنها عبر المحكمة، فأصيب فلاس بصدمة نفسية شديدة، ظهرت في عدد من أعماله المكتوبة عن "الأطفال الشرعيين وغير الشرعيين، لكن التعساء". بدأ فلاس العمل في الصحف وهو لا يزال طالباً في الثانوية في موسكو. عمل مراسلاً، ثم انجذب في بداية نشاطه الإبداعي إلى الحياة الشعبية، وحظي بالشهرة من عمله في تسعينيات القرن الــ 19 في صحف أوديسا.
في عام 1900، وعن منشورات "سيتين" في موسكو، نشر فلاس كتابه "في الأرض الموعودة – فلسطين"، وتضمن مشاهداته وانطباعاته عن الرحلة إلى القدس. كان ذلك قبل أن ينضم إلى أسرة دار نشر "سيتين"، ويتولى تحرير مجلة "الكلمة الروسية" بين عامي 1902 و1917، التي عدّت المطبوعة الأكثر قراءة في روسيا القيصرية قبل ثورة أكتوبر. من أبرز مميزات نصّ دوروشيفيتش عن بلادنا جماليته ورقيّه الفنّي، بحيث ينتقي بعناية مفردات شاعرية كي يعبّر عن مشاهداته الساحرة.
الرحلة إلى فلسطين: "هل ما رأيته مجرد حلم ملوّن؟"
بعد نزوله في شاطئ يافا ومروره فيها، يقول: "عبرت بين بساتين يافا مخدّراً بعطرها، شبه نائم، وها هي الأرض تتلألأ وتشرق أمامي جميلة مزهرة. أنظر إليها بعين الإعجاب والمحبة تحت هذه السماء الزرقاء الصافية وفيها بريق الأشعة الذهبية... في تجوالي، لم يسبق لي أن رأيت بريق الزمرد في الحقول من قبل. تنزلق عليها أشعة الشمس المائلة، فيتألق لونها المخضرّ إلى درجة أن النظر يغدو مؤلماً. تتلامع أزهار الخشخاش الحمر الزاهية في المروج كأنوار بلون الدم. وأينما نظرت حولي أجد هذه السجادة الخضراء الزاهية المتلألئة تنتشر على سفوح التلال المنخفضة اللطيفة، وتشتعل عليها الأضواء الحمر. وعلى التلة التي أمامنا، توقفت قافلة. انحدرت منها ظلال الإبل النائمة بصورة حادة على خلفية السماء الزرقاء، فبدت كمنحوتات من خشب الأبنوس".
ويقول أيضاً: "تشخر الخيول الفتيّة وجلة في أثناء مرورها بين صفين من الصبّار يزنّران الطريق كسورين.. كصفين من المحاربين المتواجهين على مسافة عدة خطوات. ها نحن ندخل الرملة...توجهنا إلى دير الفرنسيسكان، الذي بُني مكان منزل يوسف الرامي. بدا الدير بمصلياته وقلاليه الصغيرة وأفنيته، قد غادر عالمنا. نائم، ويحوم في عالم الأحلام الهادئة والرؤى اللطيفة المشرقة. كل شيء صامت... كل شيء يبدو بعيداً جداً إلى درجة أنك تسأل نفسك لاإرادياً: هل العالم موجود؟ ألم يكن كل ما رأيته حتى الآن مجرد حلم ملون ومؤلم؟".
إلى اللد: إسلام الفلسطينيين تتقاطع فيه جميع الأديان
يتحدث فلاس دوروشيفيتش عن الطريق بين الرملة واللد، فيصف ذلك قائلاً: "اللد مدينة صغيرة بالقرب من الرملة، يزورها الناس تكريماً لقبر القديس جاورجيوس المنتصر. المسيرة من الرملة إلى اللد هي أروع مسيرة قمت بها في حياتي، وهي الأجمل في العالم كله. خرجت مع شروق الشمس، الصباح في بريق الماس المنثور عبر الحقول. حوافر الخيول ترنّ بصوت عالٍ ومبهج على طول الطريق الصخري. يمر الطريق بين جداري الصبّار. تأتينا من خلفهما زقزقة العصافير، مبتهجة ومبهجة. ظلّلتنا أشجار عالية تنحني أغصانها فوق رؤوسنا... ساعة شروق الشمس تبدو كما لو أن مطراً ماسياً اجتاحها، ورشها بالندى، فتألقت قطراته وتراقصت أنوارها بأشعة شمس مبهرة. يترافق ذلك مع غناء الطيور من السماء الزرقاء، وكان كل هذا معاً، مثل صلاة صباحية يتلوها طفل، نقية ومشرقة وسارّة".
ويضيف: "لاحظني عدد من الأطفال العرب المنتشرين في الحقول، كنت على صهوة حصاني وإلى جانبي القوّاص (الحارس)، أما هم فكانوا منتشرين ويصرخون بأصوات عالية. جمعوا باقات من الخشخاش، وأحاطوا بحصاني متنافسين على إهدائي الباقات المكسوة بالندى الصباحي. صرخوا بأصواتهم الرنانة، مثل جوقة مزقزقة من الطيور المبتهجة. كان الأطفال حفاة في أسمال ملوّنة، لكنهم كانوا على قدر كبير من الجمال. اعتقد أن الطبيعة تنعكس في النفس البشرية أكثر مما ندرك. ينظر الإنسان يوماً بعد يوم إلى هذه الصور الرائعة، الناعمة والحنونة، والتي تنتشر أمام عينيه، وتصبح روحه ناعمة ووديعة وحنونة. ومن هذه الصور التي تنعكس في نظرته، تصبح عيناه بالجمال نفسه. العرب الذين قابلوني استقبلوني بالابتسامات ونظروا إلي بعيون لطيفة وحنونة للغاية".
وعن وصوله إلى اللد، يضيف دوروشيفيتش: "اللد، قال القوّاص وهو يشير بيده نحو بستان جميل. بدت بيوتها البيض الصغيرة كأنها قطيع من الأغنام، تخاف من عاصفة رعدية، فتهرب من التلال وتختبئ تحت الأشجار المتضخمة. ومن تحت هذه الأشجار تنظر الآن إلى الخارج، خائفة وخجولة في آن. هي اليوم مدينة صغيرة، إلا أنها كانت ذات يوم حصناً هائلاً كبيراً. كان... تتردد هذه الكلمة الحزينة الهادئة في كل مكان هنا، مثل الصدى الحزين لجرس جنّاز يرنّ في مكان ما في البعيد. وهذه الـ كان، كان، كان، تملأ القلب بالحزن، وتضفي على هذا البلد سحراً خاصاً وحزيناً. نقترب من كنيسة مفتوحة تصلنا منها الترانيم اليونانية".
"على الرغم من الساعة المبكرة، فإن هناك كثيرين من العرب يصلّون في المعبد. لا أعرف حشداً مؤثراً من المعجبين أكثر من هؤلاء العرب. يؤمنون بعمق، بإخلاص، وشغف، بكل قوة روحهم الطفولية. فقراء يأتون إلى هنا لإضاءة شمعة للقديس، يشترون الشمعة بكل ما يملكون ويحرمون أنفسهم. عند مدخل المعبد التقيت فقيراً يمد يده. بعد أن تلقى عملة معدنية صغيرة، قبلني وذهب إلى المعبد. وبينما كنت أتجول في الكنيسة رأيته أمام أيقونة القديس جاورجيوس المنتصر. أشعل شمعة صغيرة وعلا الفرح وجهه. ربما كان يفي بنذر قد قطعه. نساء العرب، يتقدمن في السن مبكراً، حزينات، صامتات، يحضرن أطفالهن إلى المعبد، يرتدين الخرق ومع ذلك جميلات، يركعن أمام أيقونة القديس ويعلمن أطفالهن الصلوات. هذه الصلوات العربية الغريبة، لا يمكن فهمها، لكن كل كلمة منها مليئة بالإيمان وبالقدسية".
"اسم القديس جاورجيوس المنتصر محاط بالهالة نفسها في عيون المسلمين كما في عيون المسيحيين. ومن الكنيسة، التي امتلأت في هذه الساعة المبكرة بالنساء والأطفال، نذهب لتفقد الأعمدة القديمة المتهالكة، التي يصلي المسلمون المحليون بينها. يسمون هذه الأعمدة مسجدهم، وهو مخصص أيضاً للقديس جاورجيوس المنتصر. وهنا، على الرغم من الساعة المبكرة، يتجمع بين الأنقاض عدد من العرب المسلمين. يجلسون متربّعين بملابسهم المخططة، ويتمايلون بكل أجسادهم متمتمين صلواتهم. من المستحيل أن نتصور ديناً أكثر تنوعاً وأكثر فسيفساء من ذلك الذي يعتنقه أهل فلسطين المسلمين. جميع الأديان متقاطعة فيه... المسيح وموسى ومحمد مقدسون بالنسبة إليهم بالدرجة عينها تقريباً، كما تقدس النساء المسلمات والدة (المسيح السيدة مريم) ويكرّمن قبر راحيل".