الموت: تاريخ موجز
يتناول الكتاب رحلة إلى عالم الغيب والحزن على الفراق وأزاحه الموت "علم البيئة"، والموت والأمل والفن البصري والأدب والموسيقى "وأماكن الذكرى".
يقول الفيلسوف الألماني "آرثر شوبنهاور" نُولد ونحمل في طيّاتنا شيخوخة الموت. ما يعني أنّ الموت ملازم للحياة، وبذرة الموت تكبر فينا منذ لحظة تشكيلنا، وهذه الحقيقة شغلت الإنسان الأزلي وشغلت المفكّرين والفلاسفة، ما هو الموت؟ ولماذا الخوف منه؟ وكيف تنظر الحضارات إليه وكذلك الأديان. المؤلّف دوغلاس ديفيس، يرى أنّ "أيّ تاريخ للموت هو تاريخ للأمل". والأمل عند مالينوفسكي هو الرغبة في البقاء وامتلاك الشعور بأنّ الحياة تستحقّ العيش برغم ألم الأسى. وبهذا المعنى، فالحياة والموت هما لقطة من الوجود.
دوغلاس ج. ديفيس، المؤرّخ والأنثروبولوجي، والأستاذ في جامعتي نوتينغم ودارم، والمؤلف لعدد من الكتب أبرزها "الروحانية المورمونية" عام 1987، و"الموت طقساً ومعتقداً" 2002، والكتاب المشترك مع آلاستير شو "إعادة استخدام القبور القديمة" 1995.
يعالج المؤلف في هذا الكتاب دراسة مفهوم الموت في تاريخ الإنسانية والمواقف القديمة والحديثة منه، وتفسير أصلها وطرق إزاحة الأموات عبر التاريخ، وما تنطوي على ذلك كلّه في الحياة.
يعتبر تاريخ الموت اختصاصاً بحدّ ذاته، حيث يتضمّن فروعاً معرفية مختلفة كالأنثروبولوجي وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وسواها من العلوم الاجتماعية والبيولوجية، وعلم البيئة، وعلم الفلك، والعلوم الطبيعية، والأحفوريات، والفقه واللاهوت والفلسفة من الدراسات الفكرية، بالإضافة إلى الآداب والفنون.
يقول الكاتب، الأرض سوف تموت وكذلك كلّ حياة عليها، سواء عبر السخونة التي يحدثها التلوّث والتخريب البشريّ للبيئة، والاهتمامات المعاصرة بعلم النفس والتسخين الكوكبي، أو سوف تموت موتاً بطيئاً عبر البرودة عندما تنضب الطاقة النووية للشمس، وتكفّ عن بعث الطاقة للحياة.
يتناول الكتاب في الفصل الأول رحلة إلى عالم الغيب والحزن على الفراق وأزاحه الموت "علم البيئة"، والموت والأمل والفن البصري والأدب والموسيقى "وأماكن الذكرى"، والخوف من الموت "والموت الهادف والموت عديم الجدوى"، ويتناول إشكالية الموت في ملحمة جلجامش.
حيث وجد جلجامش استمراره في الحياة بما بناه من جدران للمدينة التي تبقى تذكّر به، وآخرون وجدوها في تغذية الأرض بالحياة والخلود الإيكولوجي، وغيرهم وجدها في أشكال الروحانية. ففي الاعتقاد الديني التقليدي يساعد الإنسان على تعديل أيّ خوف من خلال الأمل التعويضي فيما وراء القبر. فهناك مجموعة من الناس تظنّ بأنّ لديها تجربة شخصية عن ذلك العالم وقد حصلت على الشعور باليقين المطلق وعلى الإحساس بالأمن الناجم عن تجربتها. والمثال المفضّل لذلك هم الذين تمّ إنعاشهم بعد أن ماتوا في الظاهر، وأخذوا يروون ما صار يدعى بالتجارب القريبة من الموت.
فعلى سبيل المثال بعض الناس الذين توقّفت قلوبهم، وأعيدوا مع ذلك إلى الحياة الشعورية عبر تدخّل طبي، يروون حوادث رحلة عبر نفق ضوئي ولقاء مع شخص لطيف قد يحيط بالذي توقّف قلبه ويعلمه ذلك الشخص بأنّ زمن الدخول في ذلك الألم لم يحن بعد ولذا يجب أن يعود إلى الوجود الأرضي، ووجد هؤلاء أنفسهم "أحياء" من جديد، وشعروا عبر الاقتناع الشخصي بأنّ الموت لم يعد إشكالياً على وجه الدقة، وشعورهم باليقين هو صوت معلوم، وكثيراً ما يكونون مستعدّين لتشجيع الآخرين الذين يخافون من الموت. وتوجد كذلك بعض الجماعات الذين لم يعانوا بأنفسهم التجربة ذاتها وإنما نالوا من الذين عانوها. وهناك تجارب شبيهة إلى حدّ ما بالتجارب القريبة من الموت، وهي التجارب البعيدة عن الجسد، التي خبرها بعض الناس من خلال الإجراءات الطبية، وكما هو معهود فإنهم لا يبالون بجسدهم المادي عندما يجرى عليه عمل، وعندما ينعشون يتحدّثون عن جوانب ممّا جرى حولهم. ويرى بعضهم أنّ هذه التجارب برهان واضح على وجود مركز حياتي أو روح يمكن أن توجد مستقلة عن الجسد.
العمر والموت
يتحدّث المؤلف عن اللا أماكن معدومة الأمل: ففي بيت الرعاية المسؤول عن صنف المسنين الذين تتجاوز أعمارهم ثمانين عاماً، يتأمّل فيه إمكانية هؤلاء المسنين الضعفاء الوحيدين والخاويين من الالتزامات والواجبات الفعّالة نحو الآخرين التي تجعل الحياة تستحقّ العيش، أنهم يعيشون في مجتمع سيصل فيه الموت إلى أن يبدو "لا جانب طبيعياً ومحتوماً للحياة، بل هو شرّ يمكن درؤه كالشلل والحصبة". ويسأل، ولكن ألن تبدو تلك الحياة الخاوية إلى ما لا نهاية غير محتملة حقاً. أو بمصطلحاتنا الحالية، ألن تكون هذه الحياة عديمة الأمل؟
هل يعني أنّ حفظ الحياة في الشيخوخة سوف ينشئ جيلاً ناقص الهوية قليل الأمل ولا يعيش إلا في اللامكان؟
يؤكّد عالم الأنثروبولوجيا الشهير برونيسلاف مالينوفسكي 1884-1942) في تأمّله الكلاسيكي حول "إنتربولوجية الموت مسرحية الأمل والخوف المعقّدة ذات الحدّين والتي تتأسس دائماً تجاه الموت" بأنّ الرغبة في الحياة تكمن خلف جميع المعتقدات والدين. ويرى بأنّ البشر مهيّأون للبقاء باختيارهم الخلود وتبنّيهم رؤية إيجابية حتى تجاه الموت.
التراب الإيجابي والتراب السلبي
الصيغة التقليدية المسيحية للدفن "أرض إلى أرض، ورماد إلى رماد، وتراب إلى تراب"، فعبارة تراب إلى تراب مأخوذة من "سفر التكوين" من الكتاب المقدّس وأسطورته التي تروي خلق البشر وسقوطهم، "فالإنسان الأول هو آدم، وهو في الحقيقة تراب، وسيصبح تراباً مرة أخرى بعد موته. "تراب أنت وإلى التراب سوف تعود" سفر التكوين (19:3). لذا كان جون ميلتون في تفسيره "الفردوس المفقود" قد جعل صوتاً إلهيا يخاطب آدم في عدن بكلمات حاكمة "اعرف ولادتك" ولادة من تراب، والآن عودة مميتة إلى التراب.
فكرة الموت عند فرويد
نظرية غريزة الموت لفرويد. تعني أنّ النازع إلى الموت هو حادث مستمرّ في كلّ مادّة حيّة، ولا تترك إلا خياراً واحداً: إما أن تقوم بالعمل الصامت وتعرف الإنسان من الداخل، وإما أن تتجه نحو الخارج بوصفه نازعاً تدميرياً وينقذ الإنسان من التدمير الذاتي بتدمير الآخرين. أما فروم فقد نقد نظرية غريزة الموت عند فرويد من خلال نظرية النيوفيليا (حبّ الحياة) والنيكرفيليا (حبّ الموت). فالإنسان موهوب بيولوجياً بالقدرة على النيوفيليا، ولكنه من الوجهة السيكولوجية له استعداد للنيكروفيليا بوصفها حلاً بديلاً. وغريزة الموت عند فرويد أصيلة ممنوحة بيولوجياً ومساوية لغريزة لحياة، أما النيكروفيليا في مفهوم فروم فهي ظاهرة نفسية مرضيّة.
الكتاب غني جداً بالأفكار، إذ يمكننا أن نذكر سبيلاً لاستقطاب القارئ بعنوان سلطة الموت ـــــ مستقبل الموت ـــــ هوامش الموت ـــــ موت العالم ـــــ العمر والموت ـــــ الانتحار قتل الرحمة ـــــ المرض والموت ـــــ مخاوف معاصرة ـــــ مخاوف فلسفية ــــــ علم النفس والخوف من الموت ـــــ المكان والأمل ـــــ التواصلية الروحانية ـــــ الأديان العالمية ـــــ البقايا المحروقة ـــــ الفضاء "وفيزياء التخفيض الشديد للحرارة" لا والحواسيب ـــــ المحتضر في البيت ـــــ الأجساد الرمزية ـــــ طرق الموت الأميركية ـــــ الأمل يحدث الأبدي ـــــ من الاحترام إلى الكرامة ـــــ الأزمان المتبدّلة. إضافة إلى أفكار أخرى، لا يسعنا تسليط الضوء عليها في هذه العجالة، وأتمنّى أن يستمتع القارئ بهذا الكتاب المهم.