"دراسة سحابة": معرض هوس بيروتي وتجذّر في الحضارات

فنانو بيروت يعيشون على التصاق بالمدينة، سواء كانوا يعيشون فيها أو خارجها، يعشقون مشاهدها وتفاصيلها ونمط حياتها، رغم اضطرابه، وهي تلاحقهم بدورها أينما حلّوا. 

  • أعمال زينة عاصي في معرضها متجذّرة في تاریخ الفنّ والحضارات والأساطیر القدیمة
    أعمال زينة عاصي في معرضها متجذّرة في تاریخ الفنّ والحضارات والأساطیر القدیمة

بين مدينتين، تتراوح أحاسيس زينة عاصي واختباراتها العاطفية وتجاربها الحياتية، هما بيروت حيث ولدت وعاشت وراكمت هوساً يمكن وصفه بـ"الهوس البيروتي"، ولندن التي عاشت فيها ردحاً طويلاً من الزمن، متفاعلة مع حياتها العامة وتجاربها الفنية والثقافية. 

غريبٌ أمرُ مدينة بيروت التي نعرفها، عاصمة لبنان الإدارية، التي لا يزيد عمرها الحديث عن القرن ونصف القرن، لكنّها تترك في أبنائها وسكانها ومن يرتادها ويعرفها تعلّقاً مرضياً لا فُكاك منه، يمكن وصفه بـ"متلازمة بيروت".

حالة بيروت تتردّد في عواطف وأفكار معظم سكانها، وخصوصاً فنانيها، فيوغلون فيها تفحصّاً وتتبّعاً لأمورها لحظة بلحظة، ولا يستطيعون الخروج منها.

نشأت المدينة في أواسط القرن المنصرم، ثم ازدهرت وتوسعت بتضخم غير منضبط، واحتضنت دينامية حياة قلّ نظيرها في الشرق، بالتزامن مع صعود الغرب وانتشار عولمته، فباتت حبيبة الكلّ ومُرادهم، حتى إذا حلّت فيها النكبات المتتالية، وانعكست فيها مصائب العالم، وتراجعت أمورها، وكثرت تجاعيدها، أصاب الحزن عشّاقها، لكنهم لم يستطيعوا نسيانها، حاملين حنينية متزايدة تجاهها، وشغفاً متفاقماً لحياتها السابقة التي مثّلت زهوة حياتهم، وباتت حلماً يؤرقهم في تعثّره.

فنانو بيروت يعيشون على التصاق بالمدينة، سواء كانوا يعيشون فيها أو خارجها، يعشقون مشاهدها وتفاصيلها ونمط حياتها، رغم اضطرابه، وهي تلاحقهم بدورها أينما حلّوا. 

من هذا المنطلق، تنضمّ زینة عاصي إلى فناني بيروت، مختبرة علاقتھا الخاصة بمشھدها المدیني، مثلما فعلت في أعمالھا السابقة. في معرضها الحالي "دراسة سحابة"، المُقام في غاليري "تانيت" في منطقة مار مخايل البيروتية، تُظھر الفنانة علاقتھا بالأرض في مجموعة أعمال مؤلّفة من 40 لوحة صغیرة و5 لوحات كبیرة، والتي تشیر بشكل أكثر حمیمیّة إلى مكوّنین اثنین لكیانٍ واحد ٍھجینٍ، وربما خیالي، هما بیروت، المدینة التي تختنق وتتكشّف، وإنكلترا، البلد المضیف، بسمائها الملبّدة في أكثر الأحيان، والمتبدلة على الدوام.

  • مدينة مرسومة على الخزف
    مدينة مرسومة على الخزف

تعود مجموعة الأعمال إلى المرحلة ما بین عام 2015 ویومنا ھذا، وتقيم الفنانة من خلالها رحلة في الزمان والمكان. في العديد من أعمال المعرض، تستعید عاصي آثاراً قدیمة، و"تنقلھا" من سیاقھا، فترمّم آثاراً تآكلھا الزمن، وتستثمر ذكراھا لتصنع منھا أعمالاً تتحدّث عن العالم المعاصر، وتعرض مدناً ذات تطور طبیعي على آنیةٍ خزف، فتظھر كأنّھا من طراز قدیم، وھكذا تشكل مجموعة خزفیّات وأعمدة معابد خیالیّة عناصر لھذا الخیال المستمدّ من مشهديات المتحف الوطني في بیروت، حیث تتراكم الأزمنة والتواريخ، وتستعاد الحضارات المتراكمة فوق بعضها البعض في كل أرجاء البلاد.

أعمال زينة عاصي في معرض "دراسة سحابة" متجذّرة في تاریخ الفنّ والحضارات والأساطیر القدیمة، بقدر تجذّرھا في الثقافة البصریّة المعاصرة والتاریخ الحالي، متجاوزة عنوان معرضها إلى عناوين كثيرة، ربما تنوّعت موضوعاتها بتمدّد الفترة الطويلة لإنشاء لوحاته.

تقدّم عاصي مزیجاً من العناصر التي تجمع بین المأساة والملهاة، التي تُعبّر عنها بالسخریة أحياناً، وبالفكاھة واللعب في أحيان أخرى، ويتجلّى ذلك بتحويلها الشخوص المرسومة إلى رسوم متحركة في فیلم قصیر عنوانه "Ecce Homo" (ها هو الإنسان)، یتكامل مع 6 نقوش ورسومات مطبوعة على ورق. 

  • تقتفي عاصي مسار الرسام الإنكليزي كونستابل في هوسه بغيوم مدنه
    تقتفي عاصي مسار الرسام الإنكليزي كونستابل في هوسه بغيوم مدنه

يَرِد في التعريف الخاص بالمعرض أنّه بین عامي 1821 و1822، طّور رسام المناظر الطبیعیة الإنكليزي جون كونستابل (1776-1837) ھوساً حقیقیاً بالغیوم والسماء، وھذا ما دفعه لبناء علاقة شخصیّة مع المكان، والتعبیر عن ھذه العلاقة بالعودة مرّات عدیدة إلى ھذه الأماكن كلّما تطلّب الأمر ذلك لإنجاز رسوماته. ويشير التعريف إلى اقتفاء عاصي مسار كونستابل في هوسه بغيوم مدنه، لتتابع شغفها بسحب بيروت كجزء من الشغف بكلّ ما فيها.

كما أنّ الرسومات المطبوعة على الورق، بحسب التعريف، مستوحاة من مجموعة "كوارث الحرب" (1810–1820)، وھي نقوش ورسومات للرسام الإسباني فرانسیسكو غویا (1746-1828)، حيث تأخذ عاصي جزءاً من عمل غویا، وتُخرجه من سیاقه الأصلي، ثم تُدخله في فوضى المدن مع رموز الحروب الحالیّة، تجسیداً للسلطة والشرّ الذي یحوم فوق المدینة، مُظهراً إنسانیّة زینة عاصي المُختبرة للعنف والحرب.

  • تجهيز عشاء عائلي وثريا من رسومات ورق
    تجهيز عشاء عائلي وثريا من رسومات ورق

تعود عاصي أحياناً بحنين إلى أيام خوالٍ، متذكرة حياة اجتماعية هانئة، تتمثّل بعائلة تجهّز العشاء وتجلس لتتناوله، تتدلى فوقها رسومات على ورق كالثريا التي كانت ترتفع فوق موائد الطعام التقليدية.

الفنانة

زينة عاصي من مواليد بيروت سنة 1974، تقيم في لندن. تعتمد تقنيات مختلفة في الرسم والنقش والنحت والزخرفة والتراكيب، كما تحاول تكريس واستكشاف الأساليب والأشكال والرؤى والتحوّلات الثقافية والاجتماعية، وتعكس في أعمالها عناوين المرحلة البارزة كالهجرة والحروب.

تتوافر أعمالها في مجموعات عامة وخاصة، بما فيها "الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة" (ألبا) في بيروت، و"مؤسسة بارجيل للفنون" في الشارقة، و"معهد العالم العربي" في باريس. 

حازت جوائز عديدة، وأقامت 19 معرضاً فردياً في أنحاء مختلفة من العالم، وشاركت في نحو 60 معرض جماعياً في بيروت ولندن وغيرها من المدن، انطلاقاً من معرض أقيم في متحف سرسق سنة 2005.