حالة دائمة من القلق.. ما قصة الغرابة في الأدب؟
حضور الحياة في الموت والموت في الحياة، وظهور أشباح الماضي في الحاضر. لماذا يتسم بعض الأعمال الأدبية بالغرابة؟
لا يزال الغموض يلفّ معنى الغرابة، والتي يكمن جوهرها في الحياة والفن والأدب، وفي تلك العلاقة القائمة بين الموت والحياة وفي آلية التكرار وانتفاء الألفة وغياب الشعور بالأمن وحضور الخوف في الحياة، كما استخلص سيغموند فرويد.
على المستوى العربي، قليلة هي الدراسات التي تناولت الغرابة في الأدب، نذكر منها كتاب عبد الفتاح كيليطو "الأدب والغرابة"، وهو مجموعة دراسات حول النص الأدبي وتصنيف الأنواع وقواعد السرد ومقالات حول الحريري والزمخشري والسندباد وغيرها. كما خصص كيليطو فصلاً للمقارنة بين أرسطو والجرجاني في ضوء مفهومي الغرابة والألفة.
كذلك يتعرّض محمد بن عبد العظيم في كتابه "الغرابة بين التلقّي والدلالة في السرد العربي القديم" الصادر عام 2009، للعلاقة بين القصة والغرابة ويقسم العالم إلى: عالم الألفة، عالم الغرابة. أما حسن المودن فقد درس قصص الكاتب المغربي محمد غرناط في دراسة بعنوان "الكتابة والغرابة المقلقة في قصص محمد غرناط".
يقول شاكر عبد الحميد في كتابه الشامل "الغرابة، المفهوم وتجلياته في الأدب" الصادر عام 2012، إنّ الغرابة ليست مصطلحاً أحادي البعد، بل هو متعدّد الأبعاد ومركّب المعاني ومنها: حضور الحياة في الموت والموت في الحياة، وظهور المألوف في سياق غير المألوف، وظهور غير المألوف في سياق مألوف، وظهور أشباح الماضي في الحاضر، وظهور غير المتوقّع، المخيف، والغريب عن البيت، وتحوّل الساكن إلى متحرّك والمتحرّك إلى ساكن، وعودة الموتى إلى الحياة ودخول الأحياء عالم الأموات.
الشبح الذي ينتاب البيت
وصف الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الغرابة بأنها ذلك الطابع الجوهري لوجودنا في العالم، لأننا لسنا في بيتنا، عالمنا، بل في حالة دائمة من القلق والغرابة. وفي لغات كثيرة ارتبط معنى المصطلح بكل ما هو مخيف ومثير للرهبة، وبما يتجاوز مجرد الإثارة للرعب المؤقت.
في العام 1919 كتب سيغموند فرويد مقالاً بعنوان "الغرابة"، والجذر الخاص بها heim ويعني البيت أو المنزل. أما صفتها heimliche فتشير إلى كل ما هو مألوف وما يقوم بالحماية ويحقق الطمأنينة، لكنّ الكلمة نفسها، heimliche، تشير كذلك إلى فنون السحر الأسود والحسد والقيام بالمؤامرات، وكل ما هو ضد الألفة والبيت والأمن.
ووفقاً لما جاء في قاموس "أكسفورد" فإنّ أول تسجيل للكلمة بمعنى "ليس آمناً كي تتمّ الثقة به" ظهر عام 1773. أما الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس فيحدّد أول ظهور لهذه الكلمة في القصة والرواية في عمل كتبه وليم بيكفورد اسمه "فاتك" vattek، عام 1784، وتكرّر ظهوره مرات عديدة خلال القرن الــ 19.
أما في اللغة العربية فيرتبط هذا المفهوم بالوحشة: الوحدة والعزلة والخوف والتوحّش والجوع وغيرها. إنّ الغرابة، كما يصفها البعض، أشبه بالهيكل العظمي الذي يظهر ويتحرّك في غرفة خاصة يخلو فيها امرؤ إلى نفسه، إنها الشبح الذي ينتاب البيت، أو العقل، فيسكن الآخر داخل الذات.
وجد نفسه حشرة عملاقة
لا يمكن عزل حركة السرد نفسها عند أدباء مثل مارسيل بروست وفرانز كافكا، عن الأصداء والتردّدات والانعكاسات الغريبة الحاضرة داخل النصوص، ولدى جوزيف كونراد وأندريه جيد كانت الغرابة كامنة أسفل سطح الأشياء والأحداث، وقادرة على هزّ الاستقرار. ولدى الكاتب المصري صنع الله إبراهيم، في روايات مثل "تلك الرائحة"، و"شرف"، و"اللجنة"، تكمن الغرابة في التكرار، في العدم، وفي الموت المحيط بكل شيء كان ينبغي أن يكون حيّاً.
يستيقظ غريغور سامسا في قصة كافكا "المسخ"، ليجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة كبيرة، ثم يستسلم لشكله الجديد. وفي روايته "المحاكمة" يتهم جوزيف ك. بجريمة غامضة لا يعرفها، ويعرف أنّ هناك محاكمة ظاهرية مزعومة، تتسم بالمراوغة اللانهائية، ويصير العالم مستعمرة للعقاب، وتصبح العدالة نوعاً من القسوة، فعالم كافكا الكابوسي بشكل عام هو عالم غريب ومخيف.
تجسّد هاتان القصتان الاتجاهين الرئيسيين الخاصين بالغرابة في الأدب: غرابة غير المألوف: أيّ حالات التحوّل والازدواج والمسخ. وغرابة المألوف: حيث لا يوجد تحوّل أو مسخ، بل تكرار وعبث وفوضى واختلال في الشعور بالواقع والذات.
سيد الغرابة
للغرابة سادتها من الكتّاب، مثل الألماني إرنست هوفمان (ترجم له عبد الحميد في كتابه سالف الذكر قصته رجل الرمال)، وفيودور دوستويفسكي وفرانز كافكا. لكنّ أبرزهم هو الأميركي إدغار آلان بو، الذي يقول في بداية قصته "القط الأسود": "لست أتوقّع منكم أن تصدّقوا الوقائع التي أسطّرها هنا لقصة هي من أغرب القصص، وإن كانت في الوقت نفسه مألوفة للغاية". هذا التمهيد يلخّص جوهر الغرابة في الأدب بحسب عبد الحميد، والغرابة في قصة بو، هي نوع من الفوضى التي تتسلل تدريجياً داخل نظام نفسي ما حتى تتغلّب عليه، تتسلل إلى نظام العقل والوجدان وتحوّله إلى حالة نقيضة له: حالة من اللاعقل، وتجاوز كل ما يدل على النظام والتكرار والنمطية.
وفي قصة أخرى لبو هي "القلب الواشي" تتكرّر الغرابة على النحو نفسه، معظم شخصياته ومعظم الساردين عنده موجودون بنصف وعي، في حالة حلم أو غياب مؤقت عن الوعي، عند تلك الحدود المميّزة لوعي الغرابة. يحضر هذا في قصص له مثل "الموعد"، "ليجيا"، "موريلا"، "سقوط بيت أشر"، وغيرها.
في دراستها "منطق الغرابة لدى بو"، تقول الناقدة الأميركية سيبل فولتش برنبرغ ، إنّ هناك 3 مكوّنات للغرابة في أعمال الأديب الأميركي هي: تشيّؤ الإنسان أو نزع الإنسانية عنه، وهو أمر يرتبط بالآلية. ثم جنون العظمة، وأخيراً بارانويا الارتياب أو الاضطهاد، الذي يتفاعل مع المكوّنين السابقين.
ترى برنبرغ أنّ بو حتى يومنا هذا يظل "سيد الغرابة"، سواء في السرد القصصي أو في الشعر، وأنّ هذه الغرابة هي التي مهّدت الطريق لانشغال الفن والأدب الحديث بالجنون واختلال النفس البشرية والفشل.
الجليل الخاص بعصرنا
مال نقّاد معاصرون إلى اعتبار الغرابة بكل ما تشتمل عليه جوهر الأدب، مثل الأميركيين نيل هرتز وهارولد بلوم اللذين اعتبرا الغرابة البديل أو الشبيه المعاصر لموضوع الجليل الذي كان موجوداً في القرون الماضية، إنها (أي الغرابة) "الجليل" الخاص بعصرنا، كما قال بلوم.
ثمة أبعاد كثيرة للغرابة في الأدب اقترحها فرويد تتمثّل في: القلق من فقدان شيء أو شخص، ويتجلى ذلك في الارتباط الوثيق بين الغرابة والخوف ومن الموت أو الفقدان. وأيضاً في ظاهرة القرين وارتباطها بالخوف، وحالات تفكّك الذات وانقسامها وتعدّدها. ثم في "الإحيائية" من حيث تحوّل الميت إلى حي أو بالعكس، والجمع بين الحياة والموت في حالة واحدة، مثل الدمى. ثم في التكرار، ويتجلّى ذلك في عودة الشيء نفسه ولكن في شكل غريب، مختلف ومخيف، وأخيراً في الأشباح والأرواح التي يمكن النظر إليها على أنها عملية عودة للموتى إلى الحياة. لكن معنى الغرابة الآن يتجاوز ذلك إلى حد كبير.
كان فرويد قد قال إنه يمكن إحداث الغرابة وتوليدها وتطويرها في الأدب من خلال عملية تكوين أثر أو تأثير خاص بنص أدبي يعمل على الإيقاف أو التعليق مؤقتاً، لذلك التمييز بين الخيال والواقع. لكنّ هناك شروطاً أخرى للغرابة غير هذه. إذ لم تعد في التصوّر المعاصر لها تنتمي إلى فئة العادي وغير المألوف، بل إلى كل ما هو عادي أيضاً ومألوف، لكنه يتحوّل إلى نقيض له، من داخل الواقع وداخل الحياة.
غرباء عن أنفسنا
يرتبط مفهوم الغرابة بموضوعات متنوّعة في مجال الأدب، بينها ما يتعلّق بموضوعات مثل القرين والأشباح والظل والقناع وغيرها. كما ترتبط الغرابة بعمليات الإبداع ذاتها، وعملية القراءة والتلقّي للأدب، وبعض الأفكار النقدية مثل فكرة التناص التي اعتمدها جاك دريدا في كتابه "أطياف ماركس" واستمدّ جوهر أفكاره من دراسة فرويد عن الغرابة.
والقرين تجلٍّ آخر للغرابة في الأدب، أبرز أمثلته رواية "المزدوج" لدوستويفسكي" ورواية "الآخر مثلي" لخوسيه ساراماغو، وقصة "وليم ويلسون" لإدغار آلان بو، وأيضاً "صورة دوريان غراي" لأوسكار وايلد، و"الشريك الخفي" لجوزيف كونراد، من دون أن ننسى الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا الذي خلق 3 أقران له، وكتب خوسيه ساراماغو عن واحد منهم في روايته "عام وفاة ريكاردو ريس".
لم يعد معنى الغرابة في الأدب مقصوراً على المعاني التقليدية: أشباح وأشباه وظلال وموت، بل أصبحت فكرة عامة موجودة في عالم الحياة العادية، الشارع والبيت والسوق، وهي صفة أساسية في ثقافة التكنولوجيا والاستهلاك والنسخ والتكرار.
تذكر الفيلسوفة البلغارية - الفرنسية جوليا كريستيفا في كتابها "غرباء عن أنفسنا"، أنّ الغرابة تتعلّق بالقلق الذي يقود نحو حالة من الاختلال في الشعور بالذات، ما يقودنا إلى أفكار الانقسام والتعدد والازدواج والتفكّك والمرض والجنون، في الحياة عامّة، وفي الفن والأدب خاصة.
وأشارت بعض الدراسات إلى أنّ الكتّاب الذين اهتموا بتجسيد الازدواج كانوا هم أنفسهم يعيشون حياة مزدوجة، ويُقال إنّ الازدواجية سواء في الشخصيات أو لدى الكتّاب أنفسهم هي من النتائج المتعلّقة بظهور المدن الحديثة وتطوّرها، والتي أسهمت في تكريس أخلاق الاستهلاك والرغبة في الكسب السريع.