جمهوريات الموز.. كيف شكّلت شركة فاكهة تاريخَ أميركا اللاتينية؟
تُوصَف الدول الفاشلة والمتحكَّم فيها وفي شعوبها بأنها "جمهوريات موز". ما أصل هذه التسمية؟ وكيف حوّلت شركة فاكهة أميركية دولاً إلى جمهوريات موز؟
في عام 1891، غادر صموئيل زيمواري روسيا وهو في الــ 14 من عمره متوجهاً إلى الولايات المتحدة، بحثاً عن "مستقبل أفضل". بعد عامين من وصوله، صادف بائعاً يعرض فاكهة لم يسبق له أن رآها: الموز. كانت هذه الفاكهة نادرة ومكلفة في الولايات المتحدة بسبب صعوبة استيرادها من أميركا اللاتينية، الأمر الذي جعلها متاحة للأثرياء فقط.
ذهب زيمواري إلى ميناء موبيل في ولاية ألاباما لمراقبة عملية تفريغ شحنة كبيرة من الموز من جامايكا. هناك، لاحظ أن وكلاء الشركة يقومون بفرز الموز إلى 3 أكوام: الأول صالح للشحن لمسافات بعيدة، والثاني للبيع محلياً، أما الثالث فكان على وشك الإتلاف وغير مرغوب فيه. رأى زيمواري فرصة في هذا الموز الناضج وغير المرغوب فيه، وقرر استثمار 150 دولاراً من مدخراته لشراء كمية كبيرة منه.
هكذا استأجر زيمواري عربة قطار لنقل الموز بسرعة وبيعه في المحطات التي يمر فيها. في نهاية اليوم، حقق أرباحاً كبيرة، لكن الأهم من ذلك، اكتشف زيمواري طريقة لمنافسة شركة "United Fruit" (يونايتد فروت) العملاقة، فاستمر في تكرار العملية وتوسيعها، حتى أصبح تاجراً مرموقاً، الأمر الذي لفت انتباه الشركة العملاقة، التي عقدت معه صفقة تمنحه الحق الحصري في شراء الموز المخصص للإتلاف.
بحلول عام 1903، بلغ زيمواري عامه الــ 21 وكان يمتلك من الثروة ما يتجاوز 100 ألف دولار، أي ما يعادل ثروة مليونير اليوم. وعلى رغم أن القصة تبدو كقصة نجاح تقليدية، فإن مسار زيمواري سيتحول إلى شيء أكثر جنوناً ووحشية.
أذرع الأخطبوط ومصائر الشعوب
بدأت قصة شركة "United Fruit" في عام 1871، عندما تعاقدت حكومة كوستاريكا مع المقاول الأميركي، ماينور كوبر كيث، لبناء خط سكة حديدية يربط منطقة الكاريبي بالغابة. واجه كوبر صعوبات كبيرة في إتمام المشروع، بحيث توفي 4000 عامل بسبب الظروف القاسية. ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية، لم تتمكن كوستاريكا من دفع مستحقات كوبر، لكنه أدرك أن التربة الرطبة للغابة كانت مثالية لزراعة الموز.
عقد كوبر صفقة مع كوستاريكا للحصول على حق تشغيل خط السكة الحديدية ومساحة شاسعة من الأرض لزراعة الموز. وبمساعدة تجار الجملة البريطانيين، أنشأ كوبر شركة "United Fruit" التي نجحت في إدخال الموز للسوق الأميركية بكميات ضخمة وبأسعار منخفضة. هكذا، بحلول عام 1914، كان الموز موجوداً في كل مدينة أميركية.
لم تكن زراعة الموز سهلة، إذ واجهت الشركة تحديات كثيرة، مثل العواصف والفيضانات. ولحل هذه المشاكل، استولت الشركة على مزيد من الأراضي في أميركا الوسطى، مستخدمة نفوذها للسيطرة على المزارع وطرد المزارعين الأصليين. كانت الشركة تتمتع بقدرة على بيع الموز بأسعار منخفضة تهدد صغار المنتجين الذين لم يتمكنوا من منافستها.
السيناريو نفسه تكرر في غواتيمالا، عندما حاولت الحكومة بناء سكك حديدية. واجهت صعوبات مالية، الأمر الذي دفع كوبر إلى تكرار صفقة مشابهة، بحيث سيطر على الأراضي والسكك الحديدية والموانئ. مع وفاة كوبر عام 1929، تحولت "United Fruit" إلى إمبراطورية تسيطر على مليون و200 ألف هكتار من مزارع الموز في أميركا الوسطى.
هكذا أصبحت الشركة قوية للغاية، بحيث كانت تدير أساطيل بحرية ضخمة تُعرف بـ"الأساطيل البيضاء العظيمة"، وأدارت أيضاً البريد والشحنات لبعض دول أميركا الوسطى. وبهذا، تمكنت الشركة من معاقبة أي بلد أو عمال يقومون بإضراب أو احتجاج. كانت الشركة تتحكم في منازل العمال ومتاجرهم ووسائل النقل التي يستخدمونها، وكانت تدفع إليهم أجورهم عبر كوبونات يمكن صرفها فقط في متاجر تمتلكها الشركة.
تحولت "United Fruit" إلى رمز للقوة والنفوذ في أميركا الوسطى، إلى درجة أن الكاتب الأميركي أو. هنري، أطلق مصطلح "جمهورية الموز" في روايته "Cabbages and Kings" (الملفوف والملوك) عام 1904، ليصف الدول التي تقع تحت رحمة شركات الفاكهة مثل "United Fruit".
مع مرور الوقت، أصبحت "يونايتد فروت" متحكمة في تسليم البريد وشحنات بعض دول أميركا الوسطى. وهذا يعني أنها كانت قادرة على معاقبة أي بلد يفعل شيئاً لا يعجبها، أو عندما يقوم العمال بإضراب احتجاجاً على ظروف العمل القاسية التي كانوا يعيشونها. كانت الشركة تسيطر بصورة كاملة على كل شيء: المنازل والمتاجر ووسائل النقل.
"مذبحة الموز".. عمّال قتلى وحكومات خاضعة
لم يكتفِ صموئيل زيموراي بالصفقة التي أبرمها مع شركة "يونايتد فروت" لشراء الفرز الثالث من الموز، بل قرر أن يزرع الموز ويصدّره بنفسه. بالفعل، أسس مع شريكه شركة "Cuyamel Fruit"، التي وفرت له أسطولاً من البواخر ومساحة زراعية تبلغ 100 فدان في هندوراس. كان هذا كافياً لإثارة حفيظة "يونايتد فروت"، المعروفة في أميركا الوسطى باسم "الأخطبوط"، بسبب شدة هيمنتها على تجارة الموز وسيطرتها على الحكومات التي يُزرع فيها.
وعلى رغم سمعتها في القضاء على منافسيها، فإن الشركة سمحت لزيموراي بالبقاء في السوق، لكن ليس من باب الكرم، بل لأن الحكومة الأميركية كانت تضغط على الشركة تحت قانون مكافحة الاحتكار، وهو ما رأت فيه "يونايتد فروت" فرصة في تجنب اتهامها بالاحتكار.
لكن زيموراي لم يكتفِ بذلك، إذ كانت شهيته للتوسع بلا حدود، فانتقل إلى العيش في هندوراس بنفسه، الأمر الذي منحه ميزة تنافسية كبيرة على "يونايتد فروت" التي كان يديرها رجال أعمال من مكاتبهم في أميركا، بعيداً عن تفاصيل الزراعة وظروف العمل. وطّد زيموراي علاقاته بالمسؤولين الحكوميين هناك، ورشاهم لإعفائه من الضرائب والرسوم الجمركية، وشراء الأراضي بأسعار زهيدة، وتوظيف مزيد من العمال. وعلى رغم تدني أجورهم، فإنها كانت أفضل من تلك التي تدفعها "يونايتد فروت".
لكن تطلعات زيموراي توقفت عندما تزايدت ديون هندوراس لبريطانيا بسبب مشروع سكة حديد ضخم، الأمر الذي دفع لندن إلى تهديدها بالغزو. هذا التهديد دفع إلى تدخل المصرفي الأميركي القوي جي بي مورغان، بطلب من الحكومة الأميركية، لسداد ديون هندوراس في مقابل الحصول على حق جمع الضرائب من مواردها. هذا الأمر كان يعني أن زيموراي سيفقد امتيازاته الضريبية التي كانت تمنحه ميزة تنافسية، إلا أن زيموراي لم يقف مكتوف اليدين، فقام بتمويل حملة دعائية لإثارة غضب الشعب الهندوراسي ضد حكومته وضد الحكومة الأميركية أيضاً. وبالتوازي، موَّل جيشاً من المرتزقة لإطاحة الحكومة وتنصيب رئيس جديد اختاره هو بنفسه، هو مانويل بونيلا، الذي أعاد إليه كل امتيازاته وزاد إليه أراضيَ أخرى.
هنا، أدركت "يونايتد فروت" أن زيموراي ليس مجرد منافس صغير، بل هو خصم يستحق الاهتمام، فدخلت معه في صراع شرس، بحيث استُخدمت كل الوسائل، من تعطيل خطوط السكك الحديدية التي تنقل البضائع، إلى تغيير مجاري الأنهار التي تروي مزارع الموز. بدأ زيموراي تسليح سفنه، فتدخلت الحكومة الأميركية أخيراً لوقف هذا الصراع، قائلة إن هذا النزاع يضر بمصالحها ويزعزع استقرار دول أميركا الوسطى، ففرضت على الطرفين التفاوض والاندماج في كيان واحد.
وافق زيموراي على صفقة الدمج بشرط أن يتقاعد. وافقت "يونايتد فروت" على شرطه ومنحته أسهماً بقيمة 30 مليون دولار، الأمر الذي جعله من أثرى رجال أميركا وأكبر مساهم في "يونايتد فروت".
في عام 1928، تمرد عمال "يونايتد فروت" في كولومبيا على ظروف العمل القاسية، الأمر الذي أدى إلى إضراب ضخم طالب العمال فيه بحقوق بسيطة، كإجازة يوم في الأسبوع، وتلقي رواتبهم نقداً بدلاً من كوبونات، لكن الشركة ضغطت على الحكومتين الأميركية والكولومبية لقمع الإضراب بالقوة، الأمر الذي أدى إلى مذبحة عُرفت باسم "مذبحة الموز"، راح ضحيتها نحو 2000 عامل، وكانت نقطة تحول في تاريخ كولومبيا وأميركا الوسطى.
يونس الذي ابتلع الحوت
زيموراي، الذي كان يستمتع بتقاعده، لاحظ تراجع أرباحه بعد أن حققت الشركة 45 مليون دولار في عام 1928، إذ انخفضت تلك الأرباح في عام 1932 إلى 6 ملايين دولار، وتالياً انهارت قيمة أسهمه. هذا التراجع دفع زيموراي إلى العودة إلى الساحة، بحيث درس الأخطاء التي أدت إلى هذه الخسائر وقدم حلولاً إلى الإدارة، لكنها تجاهلته. وعندما حضر اجتماع مجلس الإدارة، سخر الأعضاء منه وأخرجوه من الاجتماع. لم يستسلم زيموراي، بل عاد بملف مليء بأصوات المساهمين الذين أقنعهم، عبر البيانات، بأن الإدارة الحالية تُغرق الشركة. وعندما حصل على أغلبية الأصوات، أقال المدير التنفيذي الذي سخر منه وتولى هو إدارة الشركة.
في سن الـ56 عاماً، أصبح صموئيل زيموراي رئيساً للشركة العملاقة التي استهانت به سابقاً، وصار واحداً من أقوى رجال أميركا وأكثرهم نفوذاً، حاملاً لقب "ملك الموز غير المتوج". حتى إن إحدى المجلات وصفت ما حدث بعبارة: "يونس الذي ابتلع الحوت" (A Jonah who swallowed the Whale).
تمكن زيموراي من استعادة مجد الشركة وأرباحها الهائلة، لكن الإمبراطوريات المالية لا يمكنها الوقوف في مكانها. فإذا توقفت عن التوسع، تموت. زيموراي، الذي بدأ قصته كمنافس ضعيف في مواجهة الحوت، أصبح هو نفسه الحوت. لكن طموحه إلى التوسع لم يتوقف إلا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، بحيث توقفت التجارة الدولية.
"شيكيتا بانانا".. ملكة جمال الموز تغزو قارة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بحث زيموراي عن طرائق لزيادة الطلب على الموز وجعله سلعة لا غنى منها، فوجد ضالته في إدوارد بيرنيز، رائد الدعاية الساحر والذي استطاع إعادة تشكيل الواقع. وبيرنيز، الذي كان أقنع نساء أميركا بأن التدخين رمز للحرية، وضع استراتيجيات تسويقية عبقرية لجعل الموز رمزاً أميركياً، على رغم أنه لا يُزرع في الولايات المتحدة.
هكذا، ركز بيرنيز حملته على الأمهات، مسوقاً الموز كأفضل وجبة إفطار، ليس فقط لأنه لذيذ، بل لأنه مليء بالفيتامينات. جلب أطباء ليشهدوا بالنصيحة، وقدم وصفات متعددة لطهو الموز بطرائق متعددة. نجاح الحملة كان ساحقاً إلى حد أن الأميركيين لم يعودوا يتخيلون حياتهم من دون الموز، وخصوصاً مع ظهور شخصية "تشيكيتا بانانا" الكرتونية، ملكة جمال الموز، والتي أصبحت أيقونة أميركية بفضل أغانيها التي انتشرت عبر الراديو وشاشات التلفزة. فصوتها العذب وجسدها الرشيق كانا يشبهان النجمة البرازيلية كارمن ميراندا، المشهورة برقصاتها وقبعتها المزينة بالفواكه. كانت ميراندا تمثل صورة أميركا الجنوبية كما أرادتها الولايات المتحدة: مثيرة وغامضة، قريبة وبعيدة في الوقت نفسه. في العالم المثالي لملكة جمال الموز "تشيكيتا بانانا"، كان الموز يجب أن يكون على نمط واحد، في الطعم والشكل.
كان نوع الموز الوحيد الذي تنتجه الشركة هو "غروس ميشيل"، وهو نوع يشبه "كافنديش" الذي نتناوله اليوم، لكنه كان أطيب نكهة وأكثر سماكة في القشرة، الأمر الذي جعله أسهل في النقل. ومع ذلك، فإن زراعة نوع واحد من الموز، بصورة مكثفة، كانت تُضعف الأراضي وتجعلها عرضة للأمراض. وهذا ما حدث فعلاً، فقرر زيموراي مواجهة هذه المشكلة، عبر رشّ أطنان من المبيدات الحشرية أكثر من 30 مرة في السنة. نتيجة لذلك، فقدَ السكان المحليون حاسة الشم، وأدت السموم التي نقلتها الرياح إلى تحويل بشرتهم إلى اللون الأزرق، وتسبب ذلك بوفاة عدد من العمال. وما كان من شركة "يونايتد فروت" إلا أن تخلت عن هؤلاء العمال وعن أولئك الذين أصيبوا بأمراض من جراء المبيدات، ولم تقدم إليهم أي تعويضات.
بين الأمراض الناتجة من تنشق المبيدات "مرض بنما"، الذي تغلغل في التربة ودمر مزارع الموز من جذورها. ولم يكن الحل الأسهل أمام الشركة سوى قطع أشجار غابة جديدة، الأمر الذي دفع زيموراي إلى شراء أراضٍ أكثر مما كان يزرعه، حتى إذا تضررت إحدى المزارع، كان ينتقل إلى الأخرى. وهكذا، بحلول عام 1940، كانت شركة "يونايتد فروت" استحوذت على نصف الأراضي الزراعية في هندوراس، لكنها كانت تزرع 10% فقط من مساحتها.
لكن ذلك لم يوقف خطر الأمراض التي كانت تهدد فاكهة هشة مثل الموز. في النهاية، حتى إمبراطورية "يونايتد فروت" نفسها أُصيبت بالمرض، وكانت تتأكّل من الداخل، ورقصة "تشيكيتا بانانا" لم تعد قادرة على إخفاء الحقيقة فترةً أطول.
ثورة غواتيمالا والانقلاب المحمول على سفن "يونايتد فروت"
في عام 1944، اندلعت ثورة في غواتيمالا أطاحت حكم خورخي أوبيكو، الذي كان أفضل صديق لشركة "يونايتد فروت"، وكان داعماً للعمل القسري للفقراء، بأقل الأجور. لكن في عام 1951، وصل جاكوبو أربينز إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، وبدأ تطبيق أول وعود الثورة، وهو الإصلاح الزراعي الذي يعيد توزيع أراضي كبار الملاك على صغار المزارعين.
بين هؤلاء الملاك كانت شركة "يونايتد فروت"، التي امتلكت أكثر من ثلثي الأراضي الزراعية في غواتيمالا، بينما كان ثلثا سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر.
تجرأ أربينز على مواجهة الأخطبوط، شركة "يونايتد فروت"، وأصدر مرسوماً يقضي بمصادرة مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي التي لم تكن الشركة تزرعها بل تحتفظ بها كاحتياطي. كانت قيمة الأرض تقدر بعشرات الملايين، لكن "يونايتد فروت" كانت تتعمد تقليل قيمة الأرض في إقراراتها الضريبية. قال أربينز للشركة: "حسناً، سنعطيكم تعويضات من الأرض وفق القيمة التي كتبتموها في تلك الإقرارات".
كانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدى فيها أحد شركة "يونايتد فروت" بهذه الطريقة. لكن زيموراي لم يكن لديه مرتزقة يستطيع من خلالهم القيام بانقلاب عليه. وبالتعاون مع إدوارد بيرنيز، بدأ حملة لتشويه سمعة رئيس غواتيمالا في أعين حكومة الولايات المتحدة وشعبها، وتحويله إلى قضية رأي عام في أميركا. صُوِّر أربينز على أنه شيوعي متحالف مع الاتحاد السوفياتي، وجزء من "الخطر الأحمر" الذي يهدد أميركا والعالم الحر. اقترح بيرنيز، الخبير في العلاقات العامة، عناوين صحافية على أصحاب الصحف المرتبطين به، تربط بين الشيوعية والموز. وعلى رغم أن هذا لم يكن صحيحاً، فإن الولايات المتحدة، التي كانت تعيش أجواء الحرب الباردة، كانت مستعدة لتقبل تلك المسرحية.
في تشرين الثاني/نوفمبر 1952، انتُخب دوايت أيزنهاور، مرشح الحزب الجمهوري، رئيساً للولايات المتحدة. كانت سياسة واشنطن تعتمد على احتواء الشيوعية، وليس استخدام القوة. لكن أيزنهاور لم يكن راضياً عن هذا النهج، وجاء لينفذ سياسة هجومية.
هكذا، وضع أيزنهاور شقيقين في منصبين مهمين، هما جون فوستر دالاس، وزيراً للخارجية، وآلان دالاس مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA). كان الاثنان مستشارين قانونيين لشركة "يونايتد فروت". ولم يكن هذان الأخوان وحدهما مرتبطين بالشركة. فالسفير الأميركي في الأمم المتحدة، هنري كابوت لودج، كان عضواً مخلصاً في لوبي الضغط لمصلحة الشركة، بحيث كانت عائلته من كبار المساهمين فيها. كان هؤلاء جميعاً مستعدين لتحويل دعاية إدوارد بيرنيز إلى خطة تتبناها أقوى دولة في العالم.
في آب/أغسطس 1953، طبقت وكالة الاستخبارات الأميركية، بقيادة آلان دالاس، سياسة أيزنهاور الهجومية، وأطاحت حكومة محمد مصدق في إيران بعد عملية تأميم صناعة النفط الإيرانية. نجاح هذا الانقلاب فتح شهية إدارة أيزنهاور لإعطاء الضوء الأخضر للاستخبارات الأميركية لتنفيذ انقلاب مشابه في غواتيمالا.
حينها، اختارت الوكالة لهذه المهمة العقيد كاستيلو أرماس بديلاً من أربينز، ووضعته على رأس جيش من "المتمردين". وصل هذا الجيش إلى غواتيمالا على متن أسطول "يونايتد فروت" وقطاراتها، واستخدم مزارع الشركة قواعد له. وفي حزيران/يونيو عام 1954، قصف "المتمردون" العاصمة وسقطت مدينة تلو الأخرى في أيديهم، حتى أجبروا أربينز على التنحي في خطاب أذاعه عبر الراديو، وجه فيه أصابع الاتهام بوضوح إلى "يونايتد فروت".
أرماس، الذي أصبح رئيساً لغواتيمالا بدعم من واشنطن و"يونايتد فروت"، ألغى كل قرارات حكومة أربينز، وأعاد إلى "يونايتد فروت" كل الأراضي التي صودرت منها. عادت الأرض، لكن الاستقرار والأمن لم يعودا. بعد الانقلاب، والاعتقال والقتل لقادة العمال الذين حاولوا استعادة حقوقهم من "يونايتد فروت"، وإلغاء الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، دخلت غواتيمالا في حرب أهلية استمرت حتى عام 1996. حرب أودت بحياة 100 ألف شخص، وتسببت بنزوح نحو مليون شخص وعشرات الآلاف من المفقودين، علماً بأن قبائل "المايا" في غواتيمالا تعرضت لإبادة جماعية.
رمز الشر.. هدف الثورة
"يونايتد فروت"، التي منعت أي إصلاح ممكن في غواتيمالا من أجل حماية ثروتها ومصالحها، أصبحت رمزاً للشر وكل الحرمان والاستغلال اللذين يعيشهما سكان أميركا الوسطى. في كانون الثاني/يناير من عام 1959، نجح القائد الثوري الكوبي فيدل كاسترو في إطاحة سلطة نظام باتيستا الموالي للولايات المتحدة. كان تشي غيفارا، رفيق كاسترو في الثورة، موجوداً في غواتيمالا في أثناء الثورة، وهذه اللحظة حولته إلى ثائر راديكالي لم يعد يؤمن بالإصلاح أو العقل، بل بالثورة الكاملة.
هكذا، قام كاسترو، في عام 1960، بتأميم الشركات الأميركية، وعلى رأسها "يونايتد فروت". هذه المرة، لم يتمكن زيموراي وبيرنيز من فعل شيء، وفي العام التالي، توفي زيموراي، ملك الموز. لم تعمر إمبراطوريته طويلاً بعده. لقد اختفى اسم شركة "يونايتد فروت" بعد سلسلة من عمليات الاستحواذ والدمج، وتغير اسمها إلى "تشيكيتا"، بعد أن صار اسمها مرتبطاً بالحروب والاستغلال والمذابح.
"يونايتد فروت".. شبح الإرث المخيف
في أواخر ستينيات القرن العشرين، قضت الأمراض على نوع الموز الذي كانت تنتجه "غروس ميشيل"، وحل محله في الأسواق نوع جديد يُدعى "كافنديش"، وهو الذي نتناوله اليوم، وطورته شركة "Dole"، التي أصبحت مع الوقت الملك الجديد في سوق الموز. ومع ذلك، بحسب أحدث التقارير، فإن موز "كافنديش" مهدَّد أيضاً بالخروج من السوق بسبب الأمراض التي قد تقضي عليه.
في عام 2007، حاول عمال في شركة "Dole" أن يَدينوا الشركة بسبب تسميمهم وإصابتهم بالأمراض نتيجة استخدام المبيدات الحشرية. أما شركة "تشيكيتا"، وريثة "يونايتد فروت"، فاعترفت مؤخراً بأنها دفعت مليوني دولار إلى ميليشيات مسلحة في كولومبيا.
"يونايتد فروت" كانت واحدة من أولى الشركات متعددة الجنسيات في العالم، وتمكنت مع غيرها من عشرات الشركات متعددة الجنسيات، التي جاءت بعدها، من بناء نموذج أعمال "ناجح" للغاية، ورفعت جودة البنية التحتية والمرافق المحلية والمواصلات في 12 دولة، لأسباب ترتبط مباشرة ببسط سيطرتها والتحكم في عمليتي الإنتاج والتسويق.
اليوم، يُعَدّ الموز رابع غذاء رئيس في العالم، إلا أن الشركة استنزفت موارد الدول التي دخلتها لتعظيم أرباح المساهمين. وكما وصفها الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في روايته "مئة عام من العزلة"، فإن "شركة الموز" غيّرت نمط الري وسرّعت دورة الحصاد وجلبت معها الحداثة، لكنها أيضاً جلبت الديكتاتور واستأجرت القتلة وأطلقت الرصاص على العمال المضربين. وعندما رحلت، تركت البلاد في حالة خراب.
وفقاً لدراسة نُشرت عام 2023، بعنوان "كيف تخترق الشركات متعددة الجنسيات القواعد، ولماذا يهم ذلك؟"، فإن الشركات متعددة الجنسيات لا تزال حتى الآن تميل إلى اختراق القواعد الأخلاقية واستغلال الثُّغَر ووجود رقابة أقل في الأسواق الناشئة والدول النامية.
أما بيتر شابمان، فيقول في كتابه "الموز: كيف شكلت شركة يونايتد فروت العالم؟"، إن إطلاق العنان للشركات متعددة الجنسيات، من دون رقابة أو سيطرة، وبنفوذ يتخطى الدول والحكومات، قد يحول دول العالم جميعها إلى "جمهوريات موز". ربما اختفت "يونايتد فروت" من الوجود، لكن إرثها المخيف ما زال موجوداً.