"ثانية واحدة".. رسالة حب صينية للسينما
حكاية خاصة من نوعها محورها صراع على لقطة لا تزيد عن ثانية واحدة.. ماذا قدّم لنا فيلم "ثانية واحدة" للصيني زانغ ييمو؟
فيلم "ثانية واحدة" (2020)، هو الفيلم الأحدث للمخرج الصيني المبدع زانغ ييمو، الذي اختار له عنواناً يقصد به ثانية واحدة من فيلم.
يحوّل المخرج هذه الثانية الواحدة إلى موضوع لفيلمه ويبني عليها حكاية متعددة الشخصيات والأبعاد وفرجة بصرية خلابة.
تجري الأحداث في العام 1975 السابق على وفاة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الذي أعلن قبل سنوات ثورة ثقافية تسببت في الكثير من المشاكل للصين وللصينيين، خاصة المثقفين، وتم إلغاؤها مباشرة بعد موت ماو.
لكن فترة الثورة الثقافية ليست الموضوع الرئيسي في الفيلم، فهي مجرد خلفية تضفي أبعاداً رمزية على حكاية خاصة من نوعها محورها صراع على لقطة لا تزيد عن ثانية واحدة من فيلم إخباري سيجري عرضه في صالة سينما في إحدى القرى النائية.
يبدأ الفيلم بمشهد طويل لرجل، هو الشخصية الرئيسية في الفيلم، يسير مسرعاً في صحراء واسعة متنامية الأطراف كثيرة التلال نحو هدف غير مرئي، وعواصف الغبار تندلع من حوله. وسنكتشف لاحقاً أنه هارب من السجن.
يصل أخيراً، وقد حلّ الظلام، إلى قرية نائية فيها صالة عرض أفلام يشرف على العرض فيها عارض متنقّل يستعد لبدء العرض الثاني الليلي للفيلم، فيما تكتظ الساحة المجاورة لصالة العرض بعشرات من الشخوص الذين وفدوا على دراجاتهم لحضور الفيلم.
أمام صالة العرض تقف صبية شعثاء تبدو متشردة في حالة تربّص، وما أن يدخل العارض إلى الصالة تاركاً دراجته على الرصيف وفيها بكرة من أحد الأفلام، حتى تندفع وتسرق البكرة وتولي هاربة أمام أنظار الرجل الهارب الذي يقف مختبئاً قرب جدار خشية أن يلاحظه أحد.
الصبية هي الشخصية الرئيسية الثانية في الفيلم، والتي ستصبح المشكلة الرئيسية التي ستواجه الرجل، وستدخل معه في صراع لن ينتهي إلا في نهاية الفيلم. يدور القتال بينهما على شيء واحد: بكرة الفيلم التي يفترض أنها تحتوي على اللقطة التي بطول "ثانية واحدة" والتي سيتبين لاحقاً أن الرجل قطع هذه المسافة وسط الصحراء ليتسنى له مشاهدتها.
هي بحاجة لعدة أمتار من شريط الفيلم، وهو بحاجة إلى مشاهدة لقطة طولها ثانية بسببها هرب من السجن. ويشكّل هذا المطلب حاجة ملحة لكل من الاثنين. وسيكون عارض الأفلام الشخصية الرئيسية الثالثة في الفيلم.
نجح المخرج زانغ ييمو في صنع فيلم ذي حبكة مثيرة لأنها لا تسير في خط واحد بل تتكشّف بين حين وآخر عن مفاجآت جديدة. الرجل هارب من معسكر للاعتقال واللقطة بالنسبة له حاجة روحية، والصبية يتيمة تعيش مع أخيها الصغير تلميذ المدرسة، والذي سيتكشف لاحقاً أنه بحاجة ماسة لعدة أمتار من شريط سينمائي.
أما عارض الأفلام الطامح للحصول على لقب أفضل عارض متنقل للأفلام في العالم، وهو الشخصية الرئيسية الثالثة في الفيلم، فهو مهتم بالعثور على البكرة المسروقة كي يتمكن من إقامة العرض.
يمكن الإشارة أيضاً إلى شخصية رئيسية رابعة في الفيلم، وهي شرائط الأفلام نفسها. وهي تنقسم إلى نوعين، أولهما الشريط الخاص بالفيلم الرئيسي الروائي، وثانيهما البكرة المسروقة التي تعرض، قبل الفيلم الرئيسي، والتي هي عبارة عن فيلم إخباري دعائي قصير، سيتبين لاحقاً أنه يحتوي على اللقطة التي بطول ثانية واحدة.
الحكاية التي يرويها الفيلم جديدة من نوعها، والصراع أيضاً جديد من نوعه. صراع بين أشخاص لا تربط بينهم أي صلة أو معرفة، ولا مصلحة لأي منهم بتعريض الآخر لأي أذى. الصلة الوحيدة هي أن الهارب لمح الفتاة وهي تسرق بكرة الفيلم وتهرب. لكنه صراع شرس، لا يكشف الفيلم عن أسبابه إلا مع اقتراب النهاية: عرف السجين الهارب، وهو في السجن أن فيلماً إخبارياً قصيراً سيعرض في إحدى القرى تظهر فيه ابنته، التي لم يرها منذ سنوات بسبب سجنه، منذ كانت طفلة، فهرب من السجن ليشاهدها.
أما الفتاة السارقة، فلديها أخ صغير، تلميذ، لا تتحمّل عيناه ضوء المصباح أثناء الدراسة، وبحاجة إلى تغطية المصباح بأباجور ساتر شفاف، يمكنها أن تصنعه من شرائط الفيلم.
ثمة مشهدان من أكثر المشاهد تأثيراً على العاطفة في الفيلم. لحظة مشاهدة الهارب لوجه ابنته الذي يظهر ثانية واحدة على الشاشة، فبقي يسهر حتى الصباح في الصالة بعد أن رتب له العارض إمكانية تكرار عرض اللقطة إلى ما لا نهاية، ومشهد اقتحام الهارب لبيت الفتاة ليتفاجأ بالأباجور الذي صنعته الفتاة لمساعدة أخيها في التخفيف من قوة ضوء المصباح، قبل أن يتسلم منها بقية الشريط الذي فيه لقطة الثانية الواحدة.
يصوّر المخرج العديد من المشاهد الخاصة بشرائط الأفلام منطلقاً من حادثة بسيطة: يجلب شقيق العارض الأصغر بكرات الفيلم الطويل على عربة يجرها حصان، لكن البكرات تسقط على الأرض لدى وصوله وتتناثر الشرائط من داخل علبها، ما يتسبّب في أزمة جديدة.
يستغل المخرج هذه الحادثة في تصوير مشاهد هي أقرب ما تكون إلى لوحات فنية تعرض محاولات العارض، ويدعمه في ذلك الفتاة اللصة والرجل الهارب والعشرات من المواطنين البسطاء القادمين لمشاهدة العرض، لإعادة ترتيب الشرائط المبعثرة وتركيبها في آلة العرض.
يقول المخرج زانغ ييمو، وهو أحد كبار المخرجين في السينما العالمية، إن فيلمه عبارة عن رسالة حب للسينما.