تهجير الفلسطينيين القسري.. والتهجير بالتهجير
قال بن غوريون: "أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي".. كيف هجّرت "إسرائيل" الفلسطينيين؟ وكيف ثبت الفلسطينيون معادلة التهجير بالتهجير؟
قبل أيام، قالت الأمم المتحدة إن جيش الاحتلال الإسرائيلي أبلغها بضرورة إخلاء شمال قطاع غزة تماماً في غضون 24 ساعة، وعقب المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك بالقول إن هذا التحذير يعني نزوح "نحو 1.1 مليون من سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة من الشمال للجنوب".
كما اعتبر ناشطون وإعلاميون فلسطينيون الإنذار الإسرائيلي بمثابة إعلان "حرب تهجير" و"نكبة جديدة"، لا سيما أن مساحة قطاع غزة 360 كيلومتراً مربعاً (طول 41 كيلومتراً وعرض يتراوح بين 5 و15 كيلومترات)، ويصل عدد أحيائه إلى 18 حياً.
سياسة التهجير التي يتّبعها الاحتلال ليست بالجديدة عليه، فقد قال ديفيد بن غوريون سنة 1938 مخاطباً اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية: "أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي".
ليس ثمة داعٍ هنا لاستعراض "القوانين الدولية" (ذكر هذه العبارة لوحدها مضحك، في ما يخص الوضع الفلسطيني)، التي تقف ضد الترحيل القسري، فهي كثيرة، ولكنها تبقى حبراً على ورق، مثل أي شيء يخص قضية الفلسطينيين في المؤسسات الدولية. لكن إعادة التذكير بإجراءات التهجير القسري التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين في بلدهم، شيء ضروري للوقوف على سياسة الاحتلال.
تهجير الفلسطينيين القسري
أعد "مركز بديل" الفلسطيني سلسلة أوراق عمل تتناول التهجير القسري الذي تعرض له الفلسطينيون قرابة قرن من الزمن، تتناول الأوراق 9 سياسات إسرائيلية تعنى بتهجير الفلسطينيين، سنأتي على ذكرها في ما بعد.
ثمة 5 حقب أو حلقات من التهجير القسري، تكفلت بتحويل الفلسطينيين إلى أكبر حالة من حالات اللجوء المتطاولة على مستوى العالم اليوم، والتي لم تشهد حلاً لها.
تبدأ هذه الحقب بالانتداب البريطاني (1922 - 1947). خلال تلك الفترة، تعرض نحو 150 ألف فلسطيني، أي عُشر السكان العرب الفلسطينيين تقريباً، للطرد أو جُرّدوا من جنسيتهم الفلسطينية أو أجبروا على مغادرة ديارهم، كما تعرض عشرات الآلاف إلى التهجير الداخلي.
أما الحقبة الثانية فهي النكبة (1947 -1949) التي هجر الاحتلال خلالها ما يتراوح بين 770 إلى 900 ألف فلسطيني (أي 55٪ إلى 60 ٪ من مجمل عدد الفلسطينيين)، وفي نهاية المطاف جرى تهجير ما نسبته 85 ٪ من الفلسطينيين.
والنكبة، وفقاً لــ "مركز المعلومات الوطني الفلسطيني"، هي أكبر عملية تطهير عرقي شهدها القرن العشرين. في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين"، يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه": "إنها القصة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين، وهي جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إنّ استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يُكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع من واجب مهني؛ إنّ ذلك، كما أراه، قرار أخلاقي".
ننتقل إلى الحقبة الثالثة من حقب التهجير القسري للفلسطينيين وهي الحكم العسكري (1949 - 1966) التي وضع الاحتلال الإسرائيلي فيها يده على نحو 700 كيلو متر مربع من الأراضي التي تعود ملكيتها للفلسطينيين، الذين لم يبرحوا ديارهم في "الدولة الجديدة". كما هُجّر ما بين 35 إلى 45 ألف فلسطيني خلالها، وفقد عشرات الآلاف من الفلسطينيين بيوتهم وأراضيهم، لا سيما خلال العقد الخامس من القرن الماضي، إذ بحلول منتصف هذا العقد طرد الاحتلال 15 ٪ من الفلسطينيين في "إسرائيل" بينما بقي ما يقارب 195 ألفاً في ديارهم.
تمثل "النكسة" أو حرب 1967 الحقبة الرابعة من حقب التهجير القسري، تسبب الاحتلال خلالها بتهجير ما يربو على ثلث الفلسطينيين، أو ما يتراوح من 400 إلى 500 ألف مواطن، كان نصف هؤلاءمن اللاجئين الذين سبق أن هُجّروا سنة 1948. بينما هُجّر ما مجموعه 240 ألف فلسطيني من ديارهم في الضفة الغربية وقطاع غزة للمرة الأولى في حياتهم، ذهب ما يقرب 95 ٪ منهم إلى الأردن، فيما وجد آخرون ملاذاً لهم في سوريا ومصر.
الحقبة الخامسة تمتد من 1967 حتى 2014، سنة كتابة ورقة العمل (استمرت سياسة التهجير القسري، وازداد عدد الفلسطينيين المهجرين من ديارهم وقراهم، وما يزال بازدياد حتى هذه اللحظة)، وترد فيها باسم "الاحتلال، والفصل العنصري والاستعمار". إذ مع نهاية العام 2014، وصل عدد الفلسطينيين ممن اقتلعوا قسراً من ديارهم ما نسبته 67 ٪ أي 7.9 مليون من مجموع الفلسطينيين حول العالم (11.8مليون)، من بينهم 7.25 مليون لاجئ، و718 ألف مهجر داخلياً.
سياسات الاحتلال
يتّبع الاحتلال الإسرائيلي 9 سياسات تتسبب بتهجير الفلسطينيين قسراً عن ديارهم، وهذه السياسات هي:
1- الحرمان من الإقامة والسكن: تنطوي على إلغاء إقامة المواطنين الفلسطينيين، وحرمانهم من تسجيل أبنائهم أو عرقلة ذلك، وحرمانهم من لم شمل أسرهم، وتغيير محل إقامتهم أو تعطيله، وغير ذلك.
2 - فرض نظام استصدار التصاريح: يسهم هذا النظام في منع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم وأماكن عملهم ومراكز الرعاية الصحية وغيرها.
3- مصادرة الأراضي ومنع أصحابها من استعمالها والانتفاع بها: ينفذها الاحتلال من خلال تسجيل الأراضي إلى فئات، ويستولي عليها من الناحية القانونية.
4 - التمييز في سياسات التنظيم والتخطيط الحضري: تستهدف الفلسطينيين عن طريق احتواء أعدادهم، ونتيجة لها تعيش آلاف الأسر الفلسطينية في ظروف تشهد الازدحام والاكتظاظ وتفتقر إلى الأمان.
5 - الفصل العنصري: تهدف هذه السياسة إلى محو الهوية القومية الفلسطينية وطمس معالمها.
6 - حرمان الفلسطينيين من الاستفادة من مواردهم الطبيعية والحصول على الخدمات العامة: منع الفلسطينيين من الوصول إلى المياه العذبة.
7 - إنكار حق العودة.
8 - قمع المقاومة.
9 - الأعمال التي تنفذها أطراف غير حكومية (وتحظى بموافقة مبطنة من جانب "إسرائيل").
التهجير بالتهجير
أعلنت المقاومة الفلسطينية خلال "طوفان الأقصى" أنها ستبدأ باستخدام معادلة "التهجير بالتهجير"، وستبدأ بدك عسقلان لتهجير المستوطنين منها، كخطوة أولى قبل البدء بتهجير مستوطني ما بعد عسقلان. في بيان المقاومة، قال الناطق العسكري باسم "كتائب القسام" أبو عبيدة: "إذا لم يوقف الاحتلال سياسة تهجير المدنيين، فستواصل الكتائب دك مدينة عسقلان حتى تهجيرها بالكامل، ثم ستنتقل لتهجير مدينة أخرى رداً على جرائم التهجير بحق المدنيين".
كلمة "تهجير" المستخدمة هنا غير دقيقة تماماً، فتعريفه اللغوي هو حركة غير طوعية أو قسرية لشخص أو أشخاص بعيداً عن موطنهم أو منطقتهم الأصلية. ومعروف أن فلسطين، بكل ما فيها، ليست موطناً ولا منطقة أصلية للاحتلال وزبانيته. قد تكون كلمة إبعاد أو طرد أو إعادة أولئك الذين احتلوا فلسطين إلى المكان الذي جاؤوا منه، أوضح وأدق.
في كتابه "مبادئ حرب الغوار" يقول غيفارا إنّ الظفر المسلح الذي أحرزه الشعب لم يكن لينحصر فقط في النصر الملحمي الذي سجله المراقبون في العالم أجمع، بل كان ذلك انقلاباً في العقائد القديمة حول سلوك الجماهير الشعبية.
ويضيف بعد ذلك عدة استنتاجات أولها: تستطيع القوى الشعبية أن تكسب حرباً ضد الجيش النظامي. ثانياً: لا ينبغي الانتظار دوماً حتى تجتمع كافة الظروف للقيام بالثورة، إذ يمكن للبؤرة الثورية أن تفجر هذه الظروف الثورية. ينتهي كلام غيفارا هنا.
أن تقول قوى المقاومة لعدوها المُستعمِر إنها ستقصف المنطقة الفلانية في الساعة الخامسة، ثم تؤكد على ذلك بإرسالها رسائل على هواتف المستوطنين تخبرهم فيها أن يخلوا منازلهم وتعيد التوكيد على الموعد، هو أكبر فعل أخلاقيّ في زمن فقد أخلاقه، ذلك على الرغم من أنهم يدافعون عن أنفسهم ضد جيش هائل للاحتلال، جيش يقصف غزة من دون سابق إنذار ويدمر جوامعها وكنائسها ومدارسها وبيوت سكانها ويقتل مدنييها، ويطلب من أكثر من مليون إنسان أن يخليها.
سنة 2023، شهدنا زمناً لا يُحكى فيه عن حلم التحرير واستعادة الوطن وحسب، بل يعيد المقاومون الفلسطينيون، للعالم كلّه، مجداً فقده طويلاً، وأخلاقاً، في قمة انعدام أخلاقه، وعماه وعميه.