تلزمنا أعجوبة أخرى!
الذين اضطهدوا السيد المسيح ونكروه هم أنفسهم الذين احتلوا وطنه بعد قرابة ألفي عام، ولا يزالون ممعنين فيه بطشاً وتنكيلاً.
لا عيد ميلاد في وطن الميلاد.
الأرض التي شهدت ولادة السيد المسيح وجلجلته وقيامته، لا تزال على درب جلجلتها منذ أكثر من سبعة عقود، مصلوبة على خشبة احتلال إسرائيلي بغيض زُرِع في بلادنا مثل "مسمار جحا" كي تستخدمه القوى الاستعمارية وتتذرّع به متى شاءت مصالحها ومطامعها.
الذين اضطهدوا السيد المسيح ونكروه هم أنفسهم الذين احتلوا وطنه بعد قرابة ألفي عام، ولا يزالون ممعنين فيه بطشاً وتنكيلاً. لكن عيد الميلاد هذا العام يختلف عما سبقه من أعياد، ولئن كان ميلاد يسوع هو ميلاد الحب والفرح والرحمة والفداء. فإن هذه المعاني مجتمعة تشكّل النقيض التام لكل ما يمثّله الاحتلال الإسرائيلي ورعاته من "القوى العظمى". إذ كيف يكتسب الميلاد معناه فيما وطن الميلاد رازح تحت احتلال مارس ويمارس كل أنواع العنصرية والظلم والاضطهاد، وها هو يتوّج نازيته وعنصريّته بجريمة إبادة جماعية يرتكبها بحقّ أبناء غزة من أطفال ونساء وشيوخ، فيما يقف عاجزاً عن تحقيق أي إنجاز حقيقي قبالة مقاومة باسلة يسطّرها فدائيو فلسطين ومجاهدوها.
نحن أبناء هذي البلاد ندرك حقيقة هذا الاحتلال البشعة والمقيتة مذ وُجد على أرض فلسطين، لكن الجديد في عيد الميلاد هذا العام أن هذه الحقيقة انكشفت أمام العالم كله، أولاً بفضل تضحيات أهل غزة ودماء شهدائها، ومن ثم بفعل عوامل أخرى كثيرة في مقدّمها الميديا الحديثة التي فضحت (رغم القيود والحجب والمنع والحظر) ما يخفيه الإعلام التقليدي منذ عقود متستراً على جرائم الاحتلال، متواطئاً مع رعاته الذين سقطت أقنعتهم كلّها، بالتزامن مع سقوط مصداقية هذا الإعلام الذي ظهر وبانَ أنه مجرد أداة بيد القوى الاستعمارية والمهيمنة.
سبق لنا الإشارة في مقالة سابقة إلى حجم الفجوة الهائلة بين الشعوب والحكومات الغربية حيال ما ترتكبه "دولة" الاحتلال من جرائم، وهذا ما ظهر ويظهر جلياً من خلال التظاهرات الحاشدة التي تملأ شوارع العواصم والمدن على امتداد المعمورة. ولئن كانت مثل هذه الفجوة قديمة ومعلومة بين الشعوب العربية وحكوماتها، إلا أنها غير مسبوقة بالنسبة للشعوب والحكومات الغربية، وهي تفوق بكثير تلك التي شهدها العالم عشية الغزو الأميركي للعراق.
لا تكمن أهمية هذا الحراك الشعبي العالمي فقط في حصوله، بل في ما يمكن البناء عليه لاحقاً، خصوصاً متى هدأ دوي المدافع وهدير الطائرات، إذ من الملحّ والضروري، بل من الواجب، إبقاء القضية الفلسطينية حيّة في ضمائر شعوب العالم الحية، وذلك حتى زوال الاحتلال وتحقيق الحلم الفلسطيني بالحرية والاستقلال.
هذه مسؤولية جماعية تقع على عاتق كلّ مؤثّر، سواء كان مفكّراً أو شاعراً أو فناناً أو ناشطاً حقوقياً أو فاعلاً على السوشيل ميديا، وهي أيضاً مسؤولية المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والحقوقية شرقاً وغرباً، لأنّ فلسطين هي قضية العصر و"الامتحان اليومي لضمير العالم".
مرةً أخرى، لا يجوز أن يرتبط اهتمامنا بعدالة القضية الفلسطينية بمنسوب الدم الفلسطيني، بحيث تعلو أصواتنا كلما ارتفع منسوب دم أبنائها وسقط المزيد من الشهداء والضحايا. لنتذكّر دائماً أن فلسطين شهيدة كل يوم طالما الاحتلال جاثم على أرضها، ولنتأكد أن لا عيد ميلاد في وطن الميلاد طالما القتلة أنفسهم لا يزالون يرجمون السيد المسيح وبني جلدته، فيما العالم يحكمه أكثر من هيرودس ويوضاس.
*
…وأنا مثلكَ سيدَ الشوكِ والعطايا(*)
أتيتُ من رحمٍ مضيئة
مذوَدي حِداءٌ، صرختي الأولى نجمة
بكائي ينبوعٌ صديق، وأبي في البعيد.
فوق رأسي هالةُ المساكين
في كفيَّ مساميرُ الشكِّ والشوك
لا شجرةَ عندي، لا مغارةَ، لا مجوس
أفترشُ القلبَ وأنتظركَ،
فهل يُزهِّرُ يوماً شجرُ اليقين؟
يا ابنَ الغيبِ، أنا ابنُ الغياب
الهالةُ فوق رأسي ليست ضوءاً ولا ادّعاءَ قداسة
لعلها بخارُ الأسى أو دخان الغضب
أسئلتي للغيبِ، وعتبي على السماء
لستُ كافراً ولا ساحراً لأُلقي عصاي،
ليست كل الدماء حمراء،
وعلاماتُ الاستفهام قُطّاع طرق.
لو رجعتَ الآن كيف تعبرُ الحواجزَ والجدار؟
أجراسُ المهد مكمَّمةُ الأفواه،
والقيامةُ تحت ركام البيوت والأحلام.
تلزمنا أعجوبةٌ أخرى سيدَ العذاب،
لا حاجة بنا لمزيد من النبيذ والأسماك،
تلزمنا أعجوبةٌ أخرى وأنتَ بها أدرى!
———-
(*) من كتاب "هوى فلسطين" للكاتب.