تشكيليّون سوريّون: أيّ شكل للفنّ في سوريا الجديدة؟
الضبابيّة، التي تُخيِّم على السياسة في سوريا اليوم، تنسحب أيضاً على المشهد الفنيّ السوريّ. لهذا، اجتمع فنّانون سوريّون في دمشق للتعرّف إلى تصوّراتهم لمستقبل الفنّ التشكيليّ السوريّ.. ماذا قالوا؟
تتماثل الضبابية في المشهد التشكيلي السوري اليوم مع تلك التي تُخيِّم على الساحة السياسية الآن. وإن كانت المتغيرات في المرحلة الانتقالية متشعبة وكثيرة التفاصيل، فإن مشاعر المُصوِّرين السوريين تكاد تتفوق عليها من ناحية كمية الأفكار المتضاربة، التي تدور في ذهن كل واحد منهم.
الأمر لا يتعلق بآليات الاشتغال على لوحاتهم أو منحوتاتهم، ولا الاتكاء على أساليب جديدة في التعبير، بقدر ما هو توتر ناجم عن ضرورة الدفاع عن وجودهم بالأساس، والمنافحة بشأن أهمية ما يقدمونه من تفاعلات جمالية مع الواقع وأحداثه ومع مخيلاتهم الإبداعية ورؤاهم، ولاسيما أنهم متخوفون إلى درجة كبيرة من كيف سيتم النظر إلى أعمالهم، وخصوصاً ما يتعلَّق منها بالتَّشخيص، وهل ستقوم الحكومة الموقتة وممثلوها بتأطيرهم ضمن حدود ضيقة تفرضها سُنَنُهم الشرعية؟ أم أن الأمر سيكون، كما يشتهي التشكيليون السوريون، أبواباً مشرَّعة على الحرية في التعبير والتفكير والحُلم؟
لا إجابة واضحة حتى الآن، بل مجرد مخاوف وخشية من أن يتم التعاطي مع مُنتَجهم بمطارق الجهل، كما حدث مع تمثالي أبي العلاء المعري وأبي فراس الحمداني مؤخراً. وما يزيد الأمر توتراً أنه ليس هناك قدرة على استشراف المستقبل، ولاسيما في ظل عدم وجود وزارة ثقافة ضمن الحكومة الموقتة تحدد الروائز الأساسية والنهج الذي ستسير عليه. وعلى الصعيد الإداري ليس هناك أي مرجعية مؤسساتية لتنظيم المعارض أو التظاهرات التشكيلية مثلاً. كل ذلك يجعل الانتظار والترقب سيدَي الموقف.
في هذا التحقيق نسعى لاستطلاع آراء بعض الفنانين السوريين، الذين اجتمعوا في "غاليري زوايا" في دمشق، الثلاثاء، بغية التعرف إلى تصوراتهم بشأن مستقبل الفن التشكيلي السوري، ورؤاهم لما ستؤول إليه الأمور.
عدم اعتراف
الفنانة سحر سعيد تحدثت عن علاقة الفن بالوطن، وطرحت سؤالاً كبيراً: ماذا سيحدث لسوريا من دون فنانين؟ مبينةً أن الفن هو نصف الحضارة التي لا تقتصر على مهندس وقلم ومسطرة، وعبَّرت عن مخاوفها بالقول إن: "المشكلة الحقيقية هي أن الجهة التي حررتنا من النظام البائد، لا تعترف على ما يبدو بهذا النصف من الحضارة، ولا يعني لها الشعر أو الموسيقى أو سائر الفنون".
وأكدت سعيد أن الموضوع لا علاقة له بأبنية أو مؤسسات، بل بالعقلية التي تسيطر على الحكومة الجديدة، وتابعت: "مثلاً، بعد أن تمت إعادة البناء الخاص، والمستأجَر من جانب وزارة الثقافة، بمبالغ زهيدة، والمخصص كمركز أدهم إسماعيل للفنون، والذي تخرجتُ منه شخصياً، إلى أصحابه، كان من المهم على الحكومة الجديدة أن تقوم بتأمين مقر بديل من المركز، لأنها من دون ذلك تكون أعطت حقاً لأصحابه وأخذت حقوق المدرسين والطلبة. وهذا غير عادل".
شهود على الزمن
أما الفنان نبيل السمان فوصف ما نعيشه الآن بأنه مرحلة خطيرة وحرجة، وفي حاجة إلى انتباه كبير، ولاسيما أن القصة لها علاقة بكم كُنَّا – كعاملين في الشأن الثقافي - شهوداً على الزمن قبل "تحرير" سوريا وبعده؟ وتالياً، ما مقدار ضرورة الفن، وكم سيبقى شاهداً على ما حدث ويحدث؟ موضحاً أن الفنانين التشكيليين السوريين استمروا في العمل على رغم كل الظروف، بغض النظر عن كمية مقاربتهم للزمن الـمَعيش، وكم كان قريباً من الحقيقة، وخصوصاً أن المشهد، خلال الأعوام الــ 13 الماضية، كان مركّباً جداً ومعقداً.
وقال السمان: "في زمن ستالين، كان الفنانون مطالَبين بأن يرسموا ضمن مذهب الواقعية الاشتراكية، وممنوع عليهم أن يرسموا أي شيء آخر. أما بعد البيريسترويكا (إعادة الهيكلة الإصلاحية) فظهر الفن الذي رُسِمَ في الأقبية، بمعنى أن الفنانين لم يتوقفوا عن مواكبة التطور على رغم الظروف. وعلى رغم مخاوفهم واشتغالاتهم بشكل غير علني، فإن الفن الحقيقي بقي، وبرز فنانون عبروا عن تلك المرحلة بشكل مهم جداً، وهذا ما قد يحدث في سوريا، لكن الأمور ما زالت غير واضحة".
وأضاف: "من المؤكد أننا كفنانين لن نستطيع الاستمرار في ظل ظروف فيها تعصب أو تطرف ديني أو طريقة تفكير ربما تعيدنا إلى الخلف كثيراً. هناك من يقول إنه تم إغلاق "اتحاد الفنون الجميلة"، وآخر يقول إنه ممنوع الرسم التشخيصي، واكتفوا بالتجريد. لكن علينا ألا نتلقف أي شيء نسمعه، فهناك كثير من الأخبار المتناقلة غير حقيقية. في المقابل، فتح "المتحف الوطني" أبوابه أمام الجمهور، وكان لدينا خوف كبير عليه كونه رمزاً لهوية سوريا وتاريخها وامتدادها الحضاري. ويبدو أن هناك تعليمات، وغالباً هي خارجية، للمحافظة على آثارنا، كي لا يتكرر ما حدث في بغداد حين سُرِقَ متحفها، وهذا مطمئن قليلاً، لكن يبقى لدينا تخوف وقلق بكل تأكيد. لذا، نحن في حاجة إلى منصة تقبل الجميع، لنتحدث عن المستقبل الذي نطمح إليه، ولاسيما أن النخب غير ظاهرة في المشهد نهائياً، أو ليس لديها منبر للحديث، أو هي مغيبة تماماً، في حين أننا نريد لكل الفئات أن تتصدر المشهد، وأن تعبر عن آرائها".
تعبير عن الوجود
من جهتها، رأت النحاتة نجود الشومري أن الفنان، من دون حرية، لا يستطيع أن يشتغل شيئاً حقيقياً، لأن الفنانين في النهاية يعبرون عن وجودهم ويدافعون عنه وعن هوية بلدهم الممتد عبر التاريخ، فهم امتداد لهذه الحضارة. وتقول: "أنا لم أتوقف عن العمل، ولا لحظة، ولا أعمل بناءً على هوى الآخرين، لأن العمل في الفن هو اشتغال بالحب وفي سبيل خير هذه البلد".
أما التشكيلية ربى قرقوط فاستغربت كل هذا الخوف عند فنانين هم بالأصل أحرار من الداخل، متسائلةً: ما الذي تباين علينا؟ وعبّرت عن دورها ودور جميع الفنانين بالقول: "الآن، أتى دورنا في هذا الوقت الذي يجلس الناس خائفين على مصيرهم، وماذا سيحدث لهم. أتى دورنا لنتخطى ذكريات الطغيان الذي كان يزيل تاريخاً طويلاً عريضاً لفنان بسبب عمل أو كلمة لم تعجب النظام القديم، جاء دورنا لننقذ البلد بلوحاتنا. فإن لم يكن هناك صالات، فلماذا لا نقيم معرضاً في الساحات العامة وفي الخاصة، لأننا بمجرد أن نقوم بهذه الخطوة نكون أعطينا الأمان للناس. علينا أن نلون لوحاتنا وحياتنا، وعلينا الآن أن نلون البلد، فسوريا لكل السوريين وليست لفئة معينة".
هل كان الوضع مثالياً؟
وعلى رغم تخوف الفنان سامر الصعيدي من أنه ربما لا يكون هناك في "هيئة تحرير الشام" من هو معني بالثقافة الآن، على رغم أهميتها، فإنه يرى أن الحمل على الحكومة الحالية هائل، ذلك بأننا ما زلنا في مرحلة حرب قائمة حتى الآن والجبهات مشتعلة، لذلك تمنى على جميع الفنانين التريث قليلاً وألا يطلقوا الأحكام المسبقة، وقال: "علينا أن نستمر في الاجتماعات والمبادرات ذات المضمون الثقافي، سواء في الفن التشكيلي أو غيره، لأن تكرار ذلك سيجعل السلطة الجديدة تعرف أن هناك شريحة كبيرة معنية بالثقافة، وحينها سيكون هناك من يسمع شجوننا ومخاوفنا من الحكومة، وربما نتساعد من أجل تصويب الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها وزارة الثقافة في العهد البائد".
من جهته، تساءل النحات مناف حسن عن أنه، في ظل هذا التخوف الكبير لدى الكثيرين على مستقبل الفن في سوريا، هل كان وضع الفن مثالياً في زمن النظام السابق؟
وقال حسن: "في العموم، لا نستطيع فصل الفن عن واقع المجتمع، فلو أزلنا تمثال يوسف العظمة من الساحة، التي تحمل اسمه، فهل المواطن العادي سيشعر بهذا التغيير؟ لا أعتقد ذلك لأن هذا الأمر لا يعنيه في الأساس. لذا، فإن الموضوع ليس نظاماً قديماً وآخرَ جديداً، وليس أن ترعى الدولة الفن والفنانين، بل جوهر القضية أنه ينبغي لنا أن نخلق مجتمعاً واعياً يجعل الفن ضرورة، وخضوضاً في هذه الفترة الحرجة".