"ترانيم في سيمفونية الحياة".. عن المُقاوِم العاشق

بانتقاله لبيروت يعتبر بطل الرواية أنه الآن "قريبٌ من فلسطين، وفي وسط المعركة، وفي المكان الذي يؤمّن له توافقاً بين الأقوال والأفعال، تطابقاً بين الأفكار والعمل، انسجاماً تاماً بين رغباتي واتجاهاتي في الحياة وبين ما أقوم به وأمارسه على أرض الواقع".

  • ترانيم في سيمفونية الحياة.. رياح التغيير

إذا كان الجزء الأول من رواية "ترانيم في سيمفونية الحياة" لكمال توفيق البقاعي قد أكد أنّ النضال من أجل الحقوق الوطنية لا ينفصل عن النضال في سبيل العدالة الاجتماعية،وأنّ مقاومة جشع الاستعمار ونهبه لخيرات الشعوب، مرتبط بشكل وثيق بمقاومة الشركات الاحتكارية التي تهضم حقوق العمال والموظفين، فإن الجزء الثاني الذي يحمل عنواناً فرعياً "رياح التغيير" عزّز إنسانية المقاوم ووفاءه لقضيته الإنسانية، إلى جانب التماهي بين روح المقاومة المغروسة فيه وروحه ككائن اجتماعي يستحقّ أن يعيش تجربة الحب، وهو ما أكده البقاعي بالقول على لسان بطل روايته عدنان: "كان الاعتقاد شبه السائد بأن المناضلين لا يحبون ولا يتزوجون، إنهم يحبون الوطن والقضية، يعشقون الطبيعة ويحبون البنادق والصخور والأشجار، إنها مناطقهم وبيئتهم وحياتهم، والثوري ليس كالآخرين، إنه ابن النضال ولا يرى سوى الجبال والطبيعة والتنقّل بين المعارك، إنه ابن البرية والأسلاك الشائكة، ابن السجون وغيرها، كيف له أن يجمع بين هذا وذاك، لكن برأيي المناضل والثوري إنسان قبل كل شيء مثله مثل الآخرين، هو متقدّم عنهم بالكثير، إنه طليعة الناس في التصدّي للمهام الوطنية، هو من نذر نفسه للقيام بكلّ ما يلزم للدفاع عن الآخرين وقضاياهم، إنه حالة التزام فكري صارم جاهز دائماً أن يكون في مقدّمة الصفوف في أيّ معركة وطنية أو اجتماعية أو سياسية تمسّ قضايا الشعب، دمه دائماً على كفه فداء للوطن والشعب، وفي خدمة مواقفه المبدئية التي يؤمن بها ويناضل في سبيل انتصارها".

دعم المقاومة

عدنان الذي عاد في الجزء الأول من الرواية المعنون بـ"الجزيرة" إلى بيروت مطروداً من عمله لإصراره على الالتزام بحقوق العمال والدفاع عنهم ضد الانتهاكات التي تمارسها شركة مكدرموت الأميركية، وبعد أن قضى فترة من الزمن بين أمه وأبيه وأخوته، متنعِّماً بحميمية الحياة بعد قسوتها وجفافها في جزيرة حالول القطرية، والتقى بالكثير من الأقارب والمعارف من المسؤولين في حركة القوميين العرب والمناضلين، فإن الوقت لم يكن طويلاً حتى سافر إلى الكويت للعمل في شركة نفط، لكن الأوضاع هناك كانت مختلفة، ليس فقط من ناحية الطبيعة الجغرافية، وإنما من جهة العلاقات الإنسانية والاحترام، وهو ما جعله متفرّغاً أكثر لعمله النضالي، فلم يعد مضطراً للدفاع عن حقوق زملائه العمال لأنّ حقوقهم محفوظة، هنا تعزّز تفكيره بدعم المقاومة وتفعيل فرعها في الكويت، عبر إعادة لمّ شمل كوادر ومناضلي حركة القوميين العرب بعدما شنّت الأجهزة الأمنية في الكويت حملة تسفيرات بحقّ العديد منهم، والتي أدّت إلى انهيار شبه كامل وتفكّك البنية التنظيمية الهرمية المعتمدة داخل الحركة، وذلك تبعاً للإيمان العميق بأن العمل المنظّم ينتج أداةً كفاحية صلبة ومتينة. طبعاً مع إيضاح بطل الرواية للموقف المميّز للشعب الكويتي تجاه القضية الوطنية والقومية والذي استمر في طليعة المواقف الخليجية تجاه القضية الفلسطينية.

سرعة الإنجاز ودقَّته مكّنت عدنان ورفاقه من إعادة تشكيل الهيئة القيادية الأولى والهيئات الوسيطة والقاعدية، وجرى إبلاغ المركز القيادي الأول في بيروت بالتطوّرات الحاصلة، كما تمّ التشبيك من جديد مع المنظمات الصديقة في البحرين والتنظيم اليمني الجنوبي لحركة القوميين العرب. 

تناقض وصراع

الأمر الآخر الذي أنجزه بطل الرواية هو تطوير مجال الجباية المالية دعماً للثوّار ونصرة للشعب الفلسطيني، ولا سيما في مجالات التأهيل والتجهيز العسكري، وتزامن ذلك مع الثورة الجزائرية حين "كان المدّ القومي في أقصى مداه، وقوس الأمة العربية مشدوداً إلى نهايته لإطلاق حممه وبراكين غضبه على القوى المعادية انتصاراً للحقوق المهدورة وثأراً للكرامة العربية المسفوحة، وتأكيداً على أننا سنواصل معاركنا حتى تحقيق أهدافنا" والكلام لعدنان. لكن ما حصل أن سلوك قوى التحرّر الوطني في تلك المرحلة، كانت في الغالب قاصرة عن تثبيت وانتهاج سياسة تحالفية واضحة تلتزم بقوانين التحالف الطبيعي والموضوعي فيما بينها، إذ كان كلٌّ يغني على ليلاه: الاتجاه القومي بشقّيه؛ القوميين العرب والبعث الاشتراكي، وحتى حزب البعث ذاته كانت تسوده سياسة التناقض والتنافر والصراع، الشيء ذاته بين الحركة القومية والشيوعيين العرب، حيث كانت تسود حالة من الاحتراب الدائم. وبدلاً من انتهاج قوانين التحالف مع الانتقاد البنّاء لتطوير العمل العربي المشترك والنهوض بمجمل الحالة النضالية العربية، دولاً وقوىً وأحزاباً وطنية وقومية وتقدّمية، كان الصراع هو العنصر الرئيسي، وسادت تحالفات الخضوع والإذعان بديلاً عن التحالفات المستقلة والندية والمبدئية والاحترام المتبادل، ولعل من أسباب ذلك كما تشير رواية "ترانيم في سيمفونية الحياة.. رياح التغيير" هو التوهان في عالم الاستقطابات الجارية بين الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية والاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي، إلى جانب الحركات السياسية في دول العالم الثالث بقيادة سيكوتوري في إندونيسيا، ونهرو في الهند، وعبد الناصر في مصر وتيتو في يوغسلافيا، والتي كانت أقرب إلى المعسكر الاشتراكي مع المحافظة على سياسة وسطية تجاه الصراع الدولي المحتدم في ذلك الوقت.

هنا نلاحظ ميل بطل الرواية إلى أن يكون منظّراً في التاريخ السياسي، مع تأكيد رؤيته الخاصة لما يجري على الساحة العالمية وخاصةً ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية أو التي لها تأثير عليها، من مثل حديثه عن إعلان الثورة الفلسطينية وبيان فتح الأول، النكسة في عام 1967، معركة الكرامة في 22 آذار/ مارس 1968 على الأراضي الأردنية، واستلام الفصائل الفلسطينية الهيئات القيادية في منظمة التحرير الفلسطينية التي تولّى قيادتها ياسر عرفات، وأيضاً تفنيد عدنان للخلاف التنظيمي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وانقسامها إلى منظّمتين، ثم إعلان انطلاقة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في شباط/ فبراير 1969 وانحيازه إليها، إلى جانب الحديث عن خروج الفصائل الفلسطينية من الأردن والتموضع في لبنان، وتهريب السلاح إلى المقاومين الفلسطينيين عبر لبنان، وتظاهرة دعت لها أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية في العاصمة بيروت للتضامن مع ثورة الجزائر، وتعرّض عدنان للضرب بأعقاب بندقية جندي في الجيش اللبناني الذي تدخّل لفضّ التظاهرة الكبيرة، وهناك أيضاً تنحّي الرئيس جمال عبد الناصر في 9 حزيران/ يونيو بعد النكسة مباشرة، والتظاهرات الشعبية المطالبة بطيّ ذاك الخطاب، الردّ من قبل الضباط الأحرار في مصر، وغير ذلك.

قلق مصيري

تزامنت تلك الأحداث السياسية وتقلّباتها، مع قلق مصيري شهدته شخصية البطل، إذ طلب الانتقال من الكويت إلى الأردن بغية الانخراط أكثر في العمل التنظيمي والسياسي قبل أحداث أيلول/ سبتمبر الأسود 1970، ثم سعى للانتقال إلى لبنان بعد ذلك وتمّت الموافقة على طلبه بعد إلحاحه، ونرى كيف حدّد ذلك مجرى حياته النضالية والإنسانية كاملةً، ولاسيما بعد زيارته لبيت خالته في مدينة الزرقاء بالأردن ومشاعر الحب التي تملّكته تجاه ابنتها، ومن المفارقات التي حصلت معه تزامن يوم عقد قرانه مع تظاهرة دعت إليها الفصائل الفلسطينية ضدّ مشروع روجرز، وعندما عاد منها مازحه الشيخ بالقول: أجئت تتزوج أم جئت تتظاهر؟ ليجيبه عدنان: "الاثنان معاً يا شيخنا.. المظاهرة كانت عرسنا، ونحن الآن جاهزون للإجراءات الأخرى". 

وليعلن فيما بعد لزوجته "أنا محظوظ جداً هذا العام فقد توهّج مشعلان في حياتي هذه الفترة: الجبهة وأنتِ، وإذ شئتِ أنتِ والجبهة، كلاكما أخذني إلى الآخر"، أيّ أن حبّه لابنة خالته لن يتعارض مع حبه للوطن والتزامه بالقضية، بل إنهما يتكاملان، خاصةً أنّ كليهما يحتاج إلى نبلٍ في المشاعر وصدقٍ في تبنّيها، لذا نرى عدنان يقول عن الحب: "هو في كل الحالات حضور إيجابي يدفعني إلى الأمام في العمل وفي النضال وفي العلاقات مع الآخرين، أصبحت لطيفاً شفّافاً رقيقاً حالماً، مستجدات كثيرة تجتاحني هذه الأيام، وتحدث في طريقها تحوّلات كثيرة، عميقة الأثر، نوعية التأثير".

توطئة جمالية

وعلى الرغم من أن ختام الرواية يدور حول أيلول الأسود ومجريات مؤامرة موجّهة ومدعومة من الإمبريالية الأميركية والعدو الصهيوني لضرب المقاومة وإجهاض الثورة بعدما كانت الأرض هي الساحة الرئيسية للعمل الثوري ضدّ "إسرائيل"، وما رافق ذلك من زعزعة وجود زوجة عدنان وعائلتها في الأردن، لذا اتخذ بطل الرواية قراراً بالسفر إلى دمشق ومنها سيذهب إلى الأردن عبر مدينة درعا، لتكون صدمته كبيرة عندما التقى بعدد من الرفاق الأساسيين في التنظيم ومعهم عدد من المقاتلين يجلسون إلى جانب الطريق الدولي، حينها علم أن الأمور حسمت لصالح النظام الأردني، ومن أجل مواصلة العمليات ضد أعداء المقاومة، توجّه عدنان إلى بيروت وهناك التقى مصادفة بزوجته بعدما انقطعت أخبارها منذ ساد سواد أيلول ذاك، مُبشِّراً بأنه الآن "قريبٌ من فلسطين، وفي وسط المعركة، وفي المكان الذي يؤمّن له توافقاً بين الأقوال والأفعال، تطابقاً بين الأفكار والعمل، انسجاماً تاماً بين رغباتي واتجاهاتي في الحياة وبين ما أقوم به وأمارسه على أرض الواقع"، ليكون ذلك توطئة جمالية للجزء الثالث من الرواية الذي يحمل عنوان "بلاد الزيتون".