«آخر البحر» للفاضل الجعايبي: ميديا اليمنيّة غير مرغوب فيها في تونس؟
حجة إدارة المهرجان أن في النص بعض الجمل التي «تخدش الحياء»، وهي حجة مضحكة وواهية طبعاً. أسلوب الجعايبي هو نفسه منذ أيام «المسرح الجديد» في ثمانينيات القرن الماضي.
كنا نتوقع كل شيء في تونس ما بعد «الثورة»، إلا أن تُمنع مسرحية الفاضل الجعايبي في بلده، بعد عمر من الإنجاز والإبداع والابتكار، يجعله من أبرز المسرحيين العرب، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق!
قررت إدارة «مهرجانات الحمامات الدولية» (5 تموز/يوليو - 5 آب/أغسطس 2024) استبعاد عرض الفاضل الجعايبي الأخير «آخر البحر» من البرنامج، وكان يفترض أن يكون من أهم مواعيد التظاهرة الشهيرة في تونس، علماً بأن «الحمامات» أحيت هذا العام، في دورتها الــ 58، مسرحية «عطيل»، تحيّةً إلى رائد المسرح التونسي الراحل، علي بن عياد، الذي افتتح، بمسرحية شكسبير تلك، الدورة الأولى من هذه التظاهرة العريقة.
واستضاف المهرجان المغنية الفلسطينية، ناي البرغوثي، في أمسية نادرة. ومن ضيوف هذا الصيف أيضاً المغنية اللبنانية، رنين الشعار. لكن استبعاد مسرحية مبدع من حجم الجعايبي لا يمكن إلا أن تكون نقطة سوداء في سجل هذه الدورة!
«آخر البحر»، هذا العمل الذي شاهدناه على هامش «أيام قرطاج المسرحية» الخريف الماضي، يحمل بصمات الجعايبي في الكتابة التراكمية والتصاعدية نحو ذروة المأساة. وهو كناية عن عرض طويل يغرف من حكاية ميديا الإغريقية (يوريبيدس)، التي قتلت حبيبة زوجها، وولديها، ثم امتطت عربة الشمس التي تقودها الأفاعي وهجّت نحو السماء، هرباً من عدالة البشر! انطلاقاً من المرجع الإغريقي يبني الجعايبي نصاً راهناً، ذهنياً في الغالب، بين اليمن وتونس؛ نصاً يعتمد على بنية «بوليسية» كالعادة، وحوارات قوية، تصب في الراهن التونسي (والعربي) وأسئلته وتمزقاته.
مسرحية يوريبيدس الشهيرة حوّلها الايطالي بيار باولو بازوليني إلى فيلم من روائع الفن السابع (عام 1969) مع أسطورة الأوبرا العالميّة ماريا كالاس في دور البطلة التراجيدية، وكان آخر اقتباس عربي لمسرحية يوريبيدس، قبل الجعايبي، هو عمل المسرحي الكويتي سليمان البسام («آي ميديا»، 2022) الذي أسقط الشخصية الإغريقية، كما جسّدتها الممثلة السورية حلا عمران، على معاناة اللجوء بعد الحرب الأهلية السورية.
أما الجعايبي فينسج حول «ميديا»، في صيغتها التونسية، مناخات خاصة، من صلب مسرح القسوة. يبني مواجهات إنسانية مرهقة للمشاهد الذي يلتقط أنفاسه 3 ساعات. تبقى الأعصاب مشدودة إلى شخصيّة «عاتقة» اليمنية التي أتى بها القدر والحب وأحلام الحرية إلى تونس. فإذا بحبيبها الذي تبعته إلى هنا (محمد شعبان)، وخانت أهلها وقتلت أخاها من أجله، يخذلها، بعد أن استخدمها لمآربه الشخصيّة، ويهجرها، ويقرر الزواج بابنة رجل متنفذ من علية القوم في تونس.
تنتقم عاتقة/ميديا بقتل خطيبته وولديها، ثم تختار مواجهة المجتمع الذي تواطأ عليها، والذي لا يتباين كثيراً عن المجتمع الذي هربت منه في النهاية! وتتطوّع محامية، هي أيضاً مناضلة نسوية وحقوقية، للدفاع عنها (سهام عقيل) في مواجهة القضاء والمجتمع و… عالم «السوشال ميديا»!
المسرح، عند الجعايبي، هو غالباً حلبة صراع دامٍ، وشرس، يتمرد فيها الأفراد على مصائرهم، ضمن إطار مبارزة تراجيدية يائسة تفضح وتعرّي وتتهم… ومسرحية «آخر البحر» كناية عن لعبة تداعيات طويلة، تتكشف من خلالها قصة عاتقة المأسويّة. عاتقة اليمنية (صالحة نصراوي/ممتازة) هي بطلة المسرحية. والمسرحية محاكمة طويلة، ومرافعة دفاع عن هذه البطلة التراجيدية المعاصرة. التمثيل هو نقطة القوة في العمل (نشير أيضاً إلى ريم عيّاد، وحمادي البجاوي). التمثيل وإدارة الممثل يبلغان الذروة كالعادة: تلك صنعة الفاضل الجعايبي كما نعرفها منذ عقود، ونضجت وتصفّت وأصبحت أكثر جذريّة.
«آخر البحر» هي المسرحيّة الخامسة للجعايبي منذ ثورة «14 جانفي»، (نذكر بين أعماله السابقة: «تسونامي»، 2013، و «الخوف» 2016). خيبة كبرى ألا تتاح لجمهور «الحمامات» مشاهدتها في مسرح الهواء الطلق، مع شاشة عملاقة في عمق الخشبة تأتي بالبحر إلى حلبة المسرح، بهديره وخشخشة أمواجه التي ستبتلع عذابات البطلة التراجيدية. حجة إدارة المهرجان أن في النص بعض الجمل التي «تخدش الحياء»، وهي حجة مضحكة وواهية طبعاً. أسلوب الجعايبي هو نفسه منذ أيام «المسرح الجديد» في ثمانينيات القرن الماضي. هذا هو مسرح الجعايبي منذ عقود، يمزج بين الواقعية والشاعرية والقسوة، لقول اللوعة والخيبة وانهيار المثل وتصدّع الأحلام.
ثم إن «آخر البحر» تقدّم، منذ 9 أشهر في تونس، في فضاءات تابعة لوزارة الثقافة. والمسرحية من إنتاج «المسرح الوطني التونسي»، التابع، مثله مثل «مهرجانات الحمامات»، لوزارة الثقافة!
من كان يتصوّر أن تواجه Medea العربية، الآتية من اليمن إلى تونس بحثاً عن الحرية، مثل هذه النهاية الوخيمة؟