بين ماركيز وكونديرا وولسون: ما الرواية؟
ما من تعريف واحد للرواية. أجمع الروائيون الكبار، لكنهم وضعوا وصفاتهم السرية والسحرية لبناء رواية من خلال تجاربهم. بين ماركيز وكونديرا وولسون: ما الرواية؟
ثمّة أدوات عديدة يمكن أن يستخدمها المرء في طريقه إلى الرواية، إلى كتابة الرواية، بعضها يشبه ما استخدمه بابلو نيرودا في كتابة شعره: "الفأس، الخنجر، والسكين". هذه الأدوات هي ما جعلته يطلق على بعض قصائده: أبنية الحب، وهي ما تجعل بعض الروائيين الواثقين من تشييدهم لأبنية جيدة، يضعون وصفات البناء في كتب لهم ينقلون من خلالها تجاربهم ووصفاتهم السرية والسحرية.
يجمع الروائيون الكبار - بلا استثناء تقريباً - على أنه ما من تعريف أو شرح واحد وبسيط للرواية، وليس ثمة آلية واحدة لكتابتها، إلا قراءة الروايات نفسها. يمكن تبيّن ذلك في أغلب الكتب التي أطّر أصحابها لهذا الفن، والذين بنوا آراءهم وفقاً لقراءة روايات مختلفة، أو رواياتهم أنفسهم. كما يمكن اكتشاف الالتباس بين كل الآراء. إذ لا يوجد رأيان شبيهان.
تلك الآراء عن الرواية تأتي متنوعة كما الآراء في الأدب بين تولستوي وسارتر "ما الأدب؟"، أو سفيتان تودوروف "مفهوم الأدب". على نطاقٍ أوسع: في 70 مدرسة أدبية يحصيها نبيل راغب ويقدم نبذة عنها في كتابه "موسوعة النظريات الأدبية"، لكلٍّ منها رأيها في الأدب - الفن - ووظائفه وتعريفاته وما يجب أن يكونه وما يمكن أن تكون عليه.
ماركيز: ما من إجابة
كيف تُكتَب الرواية؟ هذا واحدٌ من الأسئلة، كما يظن غابرييل غارسيا ماركيز، التي أكثر من يسألونها لأنفسهم هم الروائيون بالذات، ويقدمون لأنفسهم إجابة مختلفة في كل مرة.
وعند ماركيز، ثمّة كتّاب وثمّة "آخرون"، الفرق بينهم واحد فحسب، الكتّاب يؤمنون أنّ الأدب هو فن موجه لتحسين العالم، فيما الآخرون يرون أنه فن مكرّس لتحسين حساباتهم المصرفية.
الإجابة التي لا وجود لها عند ماركيز، ليست في كتابة رواية - أو قصة قصيرة - إنما كتابتها بجدية. والرجل نفسه، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، يقول أخيراً في كتابه "كيف تكتب الرواية": "وجدت نفسي ما أزال في مكاني، حتى أنني لم أجد غرابة في اضطراري إلى عض لساني كي لا أسأل من ألتقي به: "قل لي يا أخي: اللعنة، كيف يمكن كتابة رواية؟".
توجد آراء وتجارب كثيرة لماركيز عصيّة على الحصر، ففي حوار معه من كتاب "رائحة الجوافة" يقول: "بدأت الكتابة بمحض الصدفة كي أبرهن لأحد أصدقائي على أنّ جيلي قادر على الكتابة"، ثم - بحسب قوله - "سقط في الشرك".
فيما بعد صار ماركيز يهتم بالجملة الأولى من رواياته أكثر من الرواية نفسها، وفكّر في خالدته "مئة عام من العزلة" 15 عاماً، لكنه كتبها بغضون عامين، وفكر في "خريف البطريرك" 30 عاماً، وكتبها 3 مرات حتى وصل إلى صيغتها النهائية.
من مكانٍ آخر نعرف أنّ زوجته كانت تضع له وردة أمامه عند الكتابة، وكان يعرف إن لم يجدها أنّ ذلك هو سبب تعثره. تلك الأدوات الشخصية عند ماركيز: الفأس، الخنجر، والسكين، ثم الوردة - وقد تكون أهمها - هي التي صنعت وشيّدت أبنية الحبّ التي ترجمها صالح علماني إلى العربية. إنها "نزوة القص المباركة" التي علّمها ماركيز لتلاميذه بقوله: "إذا أراد أحدكم أن يصبح كاتباً فيجب أن يكون كذلك طوال 24 ساعة في اليوم".
ميلان كونديرا: عدوّ القارئ
يجب أن يحضر في الرواية لغز الأنا، وأن تكشف جزءاً من الوجود، وإلا كانت غير أخلاقية. عند ميلان كونديرا، كل روايات، كل الأزمنة، تنكبّ على لغز الأنا. وينحصر تعريف كونديرا للرواية في ثلاثيته حول الرواية "فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار" على النحو التالي: "الشكل الأكبر من النثر الذي يفحص فيه المؤلف حتى النهاية، وعبر ذوات تجريبية، التي هي الشخصيات الروائية، بعض ثيمات الوجود الكبرى".
وفي حكمه الأخلاقي، فإنّ "المعرفة" هي أخلاقية الرواية الوحيدة. فالرواية التي لا تكشف جزءاً من الوجود ما يزال مجهولاً، هي رواية لا أخلاقية.
كونديرا عدوّ قارئه، لأنه لا يرضي ذلك الحق المشروع عند القارئ، المسمى بالفضول. وهذا ما يجعل القارئ متمسكاً تماماً بكونديرا. إنّ الكاتب لا يخدعه، بل يعترف أنّ شخصياته "ليست شبه كائن حي، بل كائن خيالي أنا تجريبي". ويستسلم القارئ لهذه السلطة، منتظراً أن يلاقي - في أي مكان من الرواية - عودة إلى لعبة الإيهام التقليدية.
لكنّ ذلك لا يحصل، فتبقى الشخصية عند كونديرا حتى النهاية "كائناً خيالياً"، فيهرب القارئ إلى مكانٍ آخر، مكان يتيح له أن يسأل بفضول، والأهم: أن يلقى الإجابات التي ترضيه، إلا أنّ تعلقاً سيبقى به، من ذلك الكاتب الذي يعترف بجرأة في كلامه عن فن الرواية: "إنني لا أريد أن أرضي القارئ ورغبته الساذجة والمشروعة معاً في أن يستسلم للعالم الروائي التخييلي وخلطه من وقت لآخر مع الواقع". أما كونديرا فيرى أن السبب الأكثر تواتراً لسوء الفهم بينه وبين قرائه هو "الفكاهة"، إذ "لا شيء أصعب من إفهام الفكاهة".
ثمّة وصية يتركها كونديرا للروائي في "الوصايا المغدورة"، بأن يخفي معالم شخصياته الحقيقية، وأن يفكر في جعل الرموز/المفاتيح التي تدل على شخصيات عايشها، ضائعة. ذلك أولاً لتحقيق الحد الأدنى من الاحترام للأشخاص الذين يجدون نتفاً من حياتهم في رواية، ولأنّ الرموز، حقيقية أم مزيفة، لا يمكن إلا أن تضلل القارئ، وبدلاً من أن يبحث في الجوانب المجهولة للوجود سيبحث عن الجوانب المجهولة لوجود المؤلف.
الرواية أفيون الشعوب
يستغل الروائي كتابته للرواية محاولاً أن يحدث صورة ذاتية واضحة لذاته. أما وصف الواقع وقول الحقيقة ليست إلا أهدافاً ثانوية. هذا الاستغلال الذاتي، سيصير موضوعياً حين تنشأ العلاقة بين الروائي والقارئ، حين يفهم الروائي نفسه ويعرف غرضه، سيمكّن القارئ من فهم نفسه وإدراك غرضه أيضاً. إنّ هدف الفن ليس رفع مرآة أمام الطبيعة، بل أمام وجهك، ليس وجهك اليومي بل الوجه الكائن وراء وجهك، أي وجهك النهائي.
ذلك ما يقوله صاحب "فن الرواية" كولن ولسون. وهدف الروائي عنده، أن يكون مرآة متسعة الزاوية، هدفها ليس ببساطة إظهار العالم بصدق أكبر، بل جعل القارئ واعياً بتجربته. هدف الروائي هو الوصول إلى الحرية الموجودة في الطرف الثاني من متاهته الخاصة.
تعدّدت مقولات "الأفيون" تاريخياً، بين كارل ماركس ورد إرنست هيمنغواي عليه. لكن ربما تم استخدامها لأول مرة في وصف الرواية مع كولن ولسون. الرواية عنده "رحلة أفيونية موجهة"، ومنذ البداية ارتبط الهدف الأساسي منها بالإحساس بالحرية، كما أصبحت مشكلة الحرية إحدى موضوعاتها الرئيسية.
يقول ولسون: "كانت تأثيرات التجارب الفكرية في الرواية تشابه تأثيرات الأفيون، لأن الأفيون يعطي الشعور بالتحليق والحرية، وعندما ندفن أنفسنا في إحدى الروايات لا بد من الشعور بالاسترخاء، وبداية نوع خاص من المتعة الهادئة، غير أن الرواية حققت تأثيرها من خلال ما يشبه توسيع مدى الرؤية، حيث أن وعينا ضيق مثل آلة تصوير ذات عدسة حادة الرؤية، تلتقط صوراً مقربة ومداها محدود، والرواية تقوم بإدخال عدسة متسعة الزاوية إلى الدماغ. وبالتالي كانت الرواية رحلة أفيونية موجهة".
ليس السؤال عند ولسون "ما الذي تجب كتابته"، بل "من أنا"، والهدف من الكتابة يكون مرتبطاً بالإحساس بالذات. ثمة قاعدة واحدة هي تجنب الأزقة المسدودة، و"ذلك المفهوم عن الحرية يملي كل شيء آخر في الرواية". إن مفهوم الروائي عن الحرية سيملي عليه روايته، التي بدورها ستملي على قارئها ذلك، في رحلة أفيونية.
المراجع
- غابرييل غارسيا ماركيز، كيف تكتب الرواية، ترجمة صالح علماني، "دار الأهالي".
- رائحة الجوافة، حوار بيلينيو أبوليو مندوزا مع ماركيز، ترجمة فكري بكر محمود، "دار أزمنة".
- ميلان كونديرا، ثلاثية حول الرواية "فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار"، ترجمة بدر الدين عرودكي، "المشروع القومي للترجمة"، 2007.
- كولن ولسون، فن الرواية، ترجمة محمد درويش، "الدار العربية للعلوم ناشرون"، 2008.