بين بولغاكوف وكييف: قصة حبّ يحاولون تشويهها
ظلّ حبّه لكييف مستوطناً قلبه حتّى آخر عمره، وتعرض للظلم ماضياً وحاضراً.. لماذا يحاسب القوميون الأوكرانيون بولغاكوف على خياله؟
يضمحلّ الأفق عندما يُنظَر إلى الكُتّاب والشعراء الراحلين عبر منظار القوميّة الضيق. يحاول القوميون، كلٌّ وفق أجندته، تأطير المبدعين وتحجيمهم بما يتلاءم مع الكليشيهات، فيظلمونهم.
يغدو هذا الظلم أشدَّ وأقسى إن كان هؤلاء قد ظُلموا سابقاً خلال حياتهم، كما هي حال الكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف (1891-1940)، الذي كانت العاصمة الأوكرانية كييف مسقط رأسه، وظلَّ حبّها مستوطناً قلبه حتّى آخر عمره.
لماذا يتّهم بعض القوميين المتطرفين بولغاكوف بأنّه "كانت لديه آراء معادية للأوكرانيين"، أو "كان لديه رُهابٌ من الأوكرانيين"؟ هل يُحاسب المبدع على الخيال، وعلى ما تضمّنته رواياته وجاء على ألسنة شخصياتها، أم أنَّ المسألة أعمّ من ذلك، مع تصاعد موجة شيطنة كل ما هو روسي، بالتوازي مع الحرب الدائرة رحاها على الأراضي الأوكرانية؟
منزل آل توربين
"نحن أمام هذا المنزل رقم 13، وهو منزل من طبقتين بالكاد يُلحظ. لديه شرفة وسور وفناء، مع فجوة بين فناءين، حيث أخفى نيقولاي توربين كنوزه. كانت هناك شجرة ذات فروع، لكن قطعوها لسببٍ ما. أزعجت شخصاً ما فقصف عمرها".
بهذه الكلمات، يصف الكاتب الروسي فيكتور بلاتونوفيتش نيكراسوف (1911-1987) البناء المعروف بـ"منزل آل توربين"، حيث أنهى ميخائيل بولغاكوف روايته الأولى "الحرس الأبيض" ومسرحية "أيام آل توربين"؛ المنزل الذي بات متحفاً تذكارياً خاصّاً ببولغاكوف، لكنّه لم يحمل اسمه، بل اسم عائلة أبطال الرواية والمسرحية. هنا، في قلب كييف، ابتدع الكاتب شخصيات أعماله، ومنها تحفته "المعلم ومارغريتا"، المكتوبة لاحقاً، والتي خلّدته.
وُلِدَ ميخائيل أفاناسييفيتش بولغاكوف في كييف سنة 1891. استأجر والداه منزلاً في شارع فوجدفيجسنسكايا الهادئ بعد عامٍ على ولادته، والذي كان غيرَ بعيدٍ من كنيسة "التمجيد" حيث عُمّد، وحمل اسم ميخائيل؛ رئيس الملائكة وشفيع المدينة.
لم يظهر اسم الشارع في أعماله، إلّا أنَّ امتداده إلى منحدر أندرييف، حيث استأجر بولغاكوف الشاب وحبيبته تاتيانا غرفتهما الأولى ذات النافذتين الكبيرتين، ترك أثراً بالغاً عليه، فقد ظهر غيرَ مرَّةٍ في النصوص.
كانت الغرفة في المنزل الذي وصفه نيكراسوف عزيزةً جداً على بولغاكوف، فعند تسلّق التلّ من الفناء، يمكن للمرء أن يقضي ساعاتٍ في مشاهدة انجراف الجليد على نهر الدنيبر، والبواخر البيضاء التي تعبره، ويستمع إلى زعيق طيور النورس، ويستمتع بمرأى المسافات اللامتناهية للسهوب.
دفء الحبّ
كانت كييف تجذب الطبيب الشاب إليها كلّما غادرها، فعاد إليها في أيلول/سبتمبر 1916، وفي أيلول/سبتمبر 1921. ألهمت المدينة ميخائيل دائماً، وأعطته مواضيع جديدة لأعماله، كأنّها كانت تشحذ رغبته في تناول الأدب، فيذهب إلى موسكو بعزمٍ لتحقيق مكانةٍ ما في عالمها الأدبي.
حمل المدينة معه، بأزقتها وناسها، وصبّها على أوراق. وصف فيضانات نهر الدنيبر الربيعية في رواية "المعلم ومارغريتا"، على الرغم من أنَّ أحداثها جرت في العاصمة السوفياتية الفتيّة موسكو، وأتبعها بـ"بقع الشمس المتلاعبة في الربيع على ممرات تلة فلاديمير المرصوفة بالقرميد"، وكانت المناظر الطبيعية الساحرة تظهر هنا وهناك كومضاتِ حبٍّ لا يزول، أو كما قال شاعرنا أبو تمّام:
"كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل"
مهما بلغ جمال الأماكن الأخرى، يبقى الحنين طاغياً يقوده إلى منزله، كما عبّر في مقاله "كييف المدينة": "آه، يا للنجوم في أوكرانيا! أعيش في موسكو منذ ما يقارب 7 سنوات، لكنّني ما زلت منجذباً إلى موطني. يعتصر قلبي، في بعض الأحيان، أرغب بألمٍ في أن أذهب إلى القطار... وهناك أنظر مرةً أخرى إلى المنحدرات المغطاة بالثلوج، إلى نهر الدنيبر... لا توجد مدينة في العالم أكثرُ جمالاً من كييف. آه، كييف لؤلؤة".
تتسلل مدينة كييف إلى معظم أعمال بولغاكوف، بمشاهدها الشتوية التي تعكس المنزل والسلام والدفء بشكلٍ خاصٍّ، يتابع: "وفي الشتاء لا يكون الجو بارداً. ليس قاسياً، والثلج يكون كثيراً لطيفاً".
المنع المباشر والمنع اللاحق
حمل ميخائيل بولغاكوف فكرةً تشاركها مع شريحةٍ ضخمةٍ من سكان روسيا القيصرية، فحواها أنَّ سقوط القيصر يعني سقوط روسيا، فكانت الحرب العالمية الأولى، ثم انطلاقة الثورة البلشفية عام 1917، وما تلاها من تبدّلاتٍ سريعةٍ في الحياة السياسية في الساحة الأوكرانية، من إعلانٍ للاستقلال والدولة الجديدة، التي قُدِّر لها أن تستمرَّ مدَّةً قصيرةً فقط، بمنزلة سلسلة من الأحداث التي تناقض رؤيته السياسية.
ولكن بولغاكوف التحق بالخدمة مع الحرس الأبيض بعد وصوله إلى كييف. في السنوات اللاحقة من حياته، وبعد تخلّيه عن مهنة الطب، وتفرّغه للكتابة في فنون القصة والرواية والمسرحية، بقي على موقفه المعادي للثورة البلشفية، وعبّر عن ذلك في أعماله، سواء في الحبكات المستمدَّة من تفاصيل حياة المواطنين السوفيات في الاتحاد الحديث الولادة، بعد موت مؤسِّسه فلاديمير لينين، وحلول جوزيف ستالين مكانه على رأس هرم السلطة، أو في القيعان السردية للقصص التي تُجَسِّد الأمراض الاجتماعية والمعضلات التي فاقمها النظام الجديد، وانعدام إمكانية حلِّها سوى من المستويات العليا في السلطة. لم تُنشَر الكثير من أعماله، أو نُشِرت جزئياً ثم حُجِبت، بعدما حكم عليها النظام بالمنع.
يخضع بولغاكوف اليوم لحكمٍ آخر؛ حكمٍ متأخّرٍ من القوميين الأوكرانيين، الذين وصلوا إلى السلطة في كييف بعد انقلابِ عام 2014، فغدا التعريف بهذا المبدع على الشكل الآتي: "كان بولغاكوف من المتعاطفين مع البيض، وكان لديه آراء شوفينية، وكان محبّاً للروس، ولديه رُهابٌ من الأوكرانيين، وكان معارِضاً للاستقلال والحركة الوطنية الأوكرانية".
لا يمكن أن تجتمع كلّ هذه التوصيفات في جملةٍ واحدةٍ عبثاً، إذ يكفي أن يكون القومي المتعصّب ضد كاتبٍ أو فنانٍ ما كي ينهال عليه بسيلٍ من التوصيفات الجاهزة. ومشكلة بولغاكوف أنّه لم يكن على مزاج القوميين الأوكرانيين، ومن الطبيعي بالنسبة إليهم أن يكون معادياً لكل ما هو أوكراني ما دام أنّه كان ضد حركتهم القومية. لذلك، أطلقوا حكمهم المتأخر عليه، ليُظلم بهذا في حياته، وبعد مماته أيضاً.
وقد ناقش الباحثون في "متحف بولغاكوف" في كييف مسألة اتهامه من قبل القوميين بمعاداة اللغة الأوكرانية، إلا أنَّ الترويج لوصمه بـ"معاداة أوكرانيا" زادت حدَّته في السنوات الـ8 الأخيرة، وإن كان مثيراً للسخرية لدى كلِّ من تسنّى له أن يقرأ شيئاً من أعمال ميخائيل بولغاكوف الخالدة.