بليغ حمدي في الأدب: "صندوق ألحان" و"عاشق خائب"
في ذكرى رحيله الـ29، كيف تناولت الأعمال الأدبية شخصية بليغ حمدي؟ وما مقدار الواقع والخيال في كلٍّ منها؟
لم يكن فيلم "موت سميرة"، الذي أُنتِج في العام 1985، المحاولةَ الإبداعيةَ الوحيدةَ لمعالجة فصلٍ هامٍّ من حياة الموسيقار الراحل بليغ حمدي (1931-1993)، كما أنّه لم يكن المحاولة الأنضج لتقديم تلك المعالجة، بل جاء الفيلم باهتاً، لكنّه لم يكن إلا محاولةً لركوب "ترند" قضية بليغ الشهيرة وقتها، إذا ما عبّرنا عنه وفق لغتنا الراهنة، وهي قضية اتهامه بمقتل المغنية المغربية سميرة مليان، بعد سقوطها من شرفة منزله، التي برّأه منها القضاء في العام 1989.
لم تكن القضية، بكلِّ تفاصيلها، تليق برهافة بليغ، ولعلَّ هذه الرهافة الشديدة هي التي جعلت الخيال والمعالجة الإبداعية يشكّلان الحلّ الأمثل، لتناول ما قد يضيق به التناول الواقعي، وإلا فكيف سنتناول تركة بليغ حمدي التي تجاوزت 1500 لحنٍ موسيقيٍّ، يعيش أغلبها في وجدان الجمهور العربي؟ أو كيف ستحيط الكتابة الواقعية بالشاب العشريني الذي لحَّن لأم كلثوم وهي في ذروة مجدها؟ وبالملحّن الذي وضع "مانيفستو" الجرح العاطفي الغائر لـ3 أجيال على الأقل؟
فتّشت "الميادين الثقافية" عن وجوهٍ أخرى لبليغ حمدي، الذي صاغ 50 عاماً من حياة المصريين والعرب موسيقياً، فلم نجد خيراً من التوقّف عند بعض الأعمال الإبداعية، التي رسمت عالماً متداخلاً بين الخيال (لتستوعب عالم بليغ)، والواقع (لتنتصر له).
طلال فيصل: كان لبليغ وجهان دائماً
يقول الكاتب طلال فيصل، صاحب رواية "بليغ"، في حديثٍ لـ"الميادين الثقافية": "قبل كتابة الرواية، وأثناء ذلك، كان هناك وجهان واضحان لبليغ؛ وجه الفنان المتحرّر المنفلت، الذي يعيش مثلما يشاء، يفعل ما يشاء وقتما يشاء، وكانت هذه هي الصورة التي بنيتُ عليها السردية الأولى للرواية، ثم هناك سرديةٌ مناقضةٌ تماماً، نراها في الجزء الثاني من الرواية؛ بليغ العاشق المتطلّع إلى حبٍّ لم يحصل عليه، الجائع إلى حنانٍ لا يجده، والذي لا تملك إلا أن تتعاطف معه، وترثي له".
يوضح الكاتب والصحفي المصري أنَّ المراوحة بين السرديتين، وبالتالي بين الوجهين، والعجز عن رؤية أكثر من وجهٍ واحدٍ، هي "مشكلة العقلية المصرية والعربية الآن، التي تقتنع بشيءٍ ما - أحياناً من دون مناقشة - وترفض رؤيةَ أيّ وجهٍ آخرَ محتملٍ له، بالإضافة إلى التساهل والتسرّع في إطلاق الأحكام الجاهزة، والإيمان الأعمى بأنَّ للحقيقة وجهٌ واحدٌ هو ما نراه ونملكه. كانت هذه مشكلة التعامل مع بليغ، وربما هي مشكلتنا القديمة الأزلية".
يبيّن فيصل أنَّ الخلطة التي اعتمد عليها في تناول حياة بليغ حمدي "تكوّنت من مقولة أبي العلاء المعرّي:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
إنّي أخاف عليكمو أن تلتقوا
بالإضافة إلى محاولة التعامل بصدقٍ وإنصافٍ، وأن تكون صادقاً في اختيار الموضوع الذي يُثير أسئلتك وأفكارك، لا الموضوع الذي تظنُّ أنَّه سيثير شهيّة الناشر أو القارئ، ثم الإنصاف في التعامل مع الشخصية التي تتناولها، ومحاولة فهم آلامها ودوافعها، والتعبير عنها بشكلٍ عادلٍ، لا يجعلك تخجل من مقابلتها في العالم الآخر".
يرى فيصل أنَّ مشكلة العقلية المصرية والعربية الآن، أنّها تقتنع بشيءٍ ما - أحياناً من دون مناقشة - وترفض رؤيةَ أيّ وجهٍ آخرَ محتملٍ له، بالإضافة إلى التساهل والتسرّع في إطلاق الأحكام الجاهزة.
يشير الكاتب إلى أنَّ أهمية تناول حياة بليغ حمدي إبداعياً، إنما تأتي من حقيقة أنَّ: "كلَّ الشخصيات هي انعكاسٌ لشيءٍ واحدٍ، يُعبّر عنه سؤالٌ في نفس الكاتب ذاته، مفاده: إلى أيِّ مدى يمكن أن يبلغ تأثيرُ قصةُ حبٍّ لم تكتمل؟ هل هناك قصصٌ عصيّةٌ على التجاوز؟ وإذا ما حدث ذلك، فهل الخلل في العاشق، أم في العلاقة، أم في طفولة قديمة جعلت تصوُّر العلاقات نفسه عند أحد الطرفين إشكالياً؟ هذه المشكلة نراها عند الجميع، طلال فيصل - الشخصية الروائية، سليمان العطار، وبليغ حمدي طبعاً".
هذا الأمر حصل بشكلٍ غيرِ واعٍ، لكنّه منطقيٌّ، لأنَّ فيصل كان يكتب عن شخصٍ مصريٍّ، بكلِّ المعاني السلبية والإيجابية، فيه كلُّ مزايا وعيوب الشخصية المصرية. يقول فيصل عن ذلك: "هو نفسه قال عن نفسه: "لولا مصر لم يكن بليغ حمدي". وبالتالي استقرّت ألحانه، التي جاءت بين الرقص والألم، في وعي المصريين، والروائي بمجرّد أن يُصدر حكماً على أحد شخصياته فإنها تموت على الفور".
ويتابع: "دوري ليس إطلاق الأحكام أو التقييم، ولكن محاولة فهم الدوافع والآلام والطموحات، وأظنُّ أنَّ هذا هو ما يحقق التعاطف مع الشخصيات، وبالتالي يجعلها حقيقيةً وقادرةً على الإقناع".
محمد بركة: حذفتُ بليغ حمدي من المسودة الأخيرة لروايتي
"نعم، حذفتُ بليغ حمدي من المسودة الأخيرة للرواية". هكذا بدأ الروائي المصري محمد بركة، مؤلّف رواية "حانة الستّ"، حديثه لـ"الميادين الثقافية"، قبل أن يستدرك: "لكن دعني أخبركم أنني ما زلتُ مؤمناً أنَّ بليغ كان يمثّل ومضةً ووهجاً لا يمكن تجاهلهما في الفضاء الكلثومي، على الرغم من أنّه لم يتداخل بشكلٍ مباشرٍ في حياتها، على المستويين الاجتماعي والنفسي، وهما الأهم بالنسبة لموضوع الرواية".
السرد في رواية بركة يأتي على لسان "الستّ" نفسها، التي تقول في مُفتَتَح النصّ: "لي عنقٌ غليظٌ، أكثرُ غلظةً ممّا تظنّون. سُمرة بشرتي تفاجئ كثيرين من جمهوري، حين يُطالعون صوري القديمة بعد معالجتها بالألوان. صوتي يقع في المنطقة الوسطى بين الذكورة والأنوثة. هل هذا هو السبب في فرادته الاستثنائية كنسخةٍ وحيدةٍ اكتفى بها الله، فلم يكررها حين رآها شيئاً حسناً؟".
يسرد بركة ذكريات كتابته للرواية، بالقول: "عندما بدأتُ وضع الخطوط العريضة والمحطات الأساسية في رواية "حانة الستّ"، التي تتناول القصة المحجوبة لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، كان بليغ في رأيي هو أفضل من تعامل مع طبقة صوتٍ من هذا النوع، صوتٌ فريدٌ من نوعه، استطاع الشاب العبقري المجدِّد الحنوَّ على شيخوخة نبرته، والاحتفاء بالسهول الخضراء التي تنمو على ضفافه".
ظهر بليغ حمدي في رواية "حانة الست"، التي أثار صدورها جدلاً واسعاً، لا بصفته ملحِّناً قلّما يجود به الزمان، بل كـ"ابنٍ" وصديقٍ لـ"الستّ"، يشكّل مع الكاتب الصحفي محمود عوض ثنائياً شبابياً نال ثقة السيدة، التي امتلكت موهبة الجواهرجي في فرز معادن البشر، فانصاعت لديكتاتورية الأول الناعمة في الموسيقى، وأفضت للثاني بأسرار مدهشة عن حياتها الخاصة.
ظهر بليغ حمدي في رواية "حانة الست" لمحمد بركة لا بصفته ملحِّناً قلّما يجود به الزمان، بل كـ"ابنٍ" وصديقٍ لسيدة الغناء العربي أم كلثوم.
تكوّنت شخصية بليغ حمدي في الرواية من مزيجٍ عجيبٍ من الخجل والثقة بالنفس، ضآلة الحجم وشموخ الكبرياء، ديمقراطية النقاش وديكتاتورية القرار.
هو ذلك الشاب الانطوائي الذي دعاه الفنان محمد فوزي إلى سهرةٍ في بيت أحد الوجهاء، وأخبره أنَّ "ثومة" سوف تكون حاضرةً، فإذا به يعرف لاحقاً أنَّ الموضوع كان مرتَّباً، فقد أرادت "صاحبة الكمال" أن تلتقى وجهاً لوجه بذلك الملحن الجديد، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، بأغنياته مع عبد الحليم وشادية ونجاة.
يظهر بليغ في الرواية أيضاً باعتباره هدفاً مشروعاً لنكات "الستّ"، و"إفيهاتها" التي لا ترحم، فقد كانت خفيفة الظل على نحوٍ لا يُبارى. تتوقف الرواية تحديداً عند ذلك اليوم الذي جلس فيه الشاب العبقري وقد مسّه شيءٌ من التوتر المَشوب بفرحةٍ خفيفةٍ واستثارةٍ سعيدةٍ. رمقته أم كلثوم بعينٍ خبيرةٍ، و هو يحرِّك سلسلة مفاتيح بين أصابعه، ثم سألته:
"- مالك يا بليغ؟
- اشتريت سيارة.
- أين هي؟
وقام ليشير إلى السيارة من نافذة الغرفة. كانت سيارة صغيرة للغاية، فهي أول سيارة يقتنيها.
قالت أم كلثوم على الفور، وبمنتهى الجدية الضاحكة:
- لماذا تركتها وحيدة أسفل البيت، لماذا لم تطلع معك؟".
يختم محمد بركة حديثه بالقول: "ربما حذفتُ بليغ لأنني انحزتُ في النهاية إلى اختياراتي الصارمة نوعاً ما في حجم الرواية، وتحديد مساراتها الروائية، والتي طرحتُ من خلالها وجوهاً أخرى لأمّ كلثوم".
أيمن الحكيم: أعدت محاكمته واستدعيت كبار الفنانين للدفاع عنه!
من جهته، أعاد الكاتب المسرحي والمؤرخ الفني أيمن الحكيم محاكمة بليغ حمدي مرةً أخرى. يقول الحكيم لـ"الميادين الثقافية": "في ظني أنَّ بليغ مات في العام 1986 (العام الذي جرت فيه محاكمته في القضية التي عُرِفت إعلامياً باسم قضية سميرة مليان)، لكنّه توفي في العام 1993، وهي الوفاة التقليدية، بينما هو ميتٌ فعلاً قبلها بـ 7 سنوات".
يحكي الحكيم أنَّ المسرحية التي كتبها بعنوان "سيرة حب"، تدور حول فتاةٍ تُدعى "حنّة"، وهي شخصيةٌ خياليةٌ تقتنع ببراءة بليغ.
يدخل بليغ إلى المحكمة، التي تستدعي هيئة الدفاع عنه، وعلى رأسها سيدة الغناء العربي أم كلثوم (المحكمة الحقيقية كانت في العام 1990، بينما أم كلثوم توفيت في العام 1974)، كما ضمّت الهيئة كلاً من محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، الشيخ سيد النقشبندي، وردة، ومحمد رشدي، بالإضافة إلى كلٍّ من أخذوا بيده، أو ساهم هو في نجوميتهم.
يدخل بليغ حمدي إلى المحكمة، في مسرحية "سيرة حب"، فيتمّ استدعاء هيئة الدفاع عنه، وعلى رأسها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، كما ضمّت الهيئة كلاً من محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، الشيخ سيد النقشبندي، وردة، ومحمد رشدي.
يوضح الحكيم أمراً هاماً، وهو أنَّ: "الفانتازيا قد تبدو غالبةً على طريقة تناول هذه المسرحية لحياة بليغ، لكنَّ هؤلاء بالفعل كانوا هم الأولى بالدفاع عن بليغ حمدي، فهؤلاء الذين رأوا روحه الحقيقية من خلال فنّه وألحانه".
ويضيف أنَّ: "الشجن هي كلمة السر في حياة بليغ، وهي العنصر الذي لن يستطيع أيُّ مبدعٍ تجاهله حين يتناول شخصية بليغ، ولذا فإنَّ كتابي الأول عنه كان عنوانه "موّال الشجن"، وبالتالي فإنّني لم أنشغل في تناولي لحياة بليغ بسيرته الذاتية، لم يهمني أن أتوقّف عند ميلاده في منطقة كذا، أو التحاقه بمدرسة كذا، وإنّما شغلني دائماً الحالة التي أنتجتها تلك المعلومات".
في المسرحية التي أخرجها عادل عبده، وحصدت لقب أفضل عرضٍ مسرحيٍّ في العام 2020، نقف أمام إنسانٍ لا تعرف حياته سوى الموسيقى ومقاماتها، وبالتالي لم يكن من المحتمل أن يتمَّ اتّهامه بأيِّ عمل شائنٍ صغير، فكيف بتلك التهمة الكبيرة التي وُجِّهت إليه، والتي دمّرت حياته بالفعل، إلى درجةٍ يمكن القول معها إنَّ تهمة القتل التي وُجِّهت له قتلته!